مصطفى حمودة عشيبة **
لا يصلح آخرُ هذه الأمَّة إلا بما صلح به أولُها، فلن يتقدمَ المسلمون في هذه الأعصار إلا إذا اتّبعوا الرعيل الأول – الذي تربّى على الوحي بين يدَيْ معلِّم البشرية سيد الخَلق، وحبيب الحق، محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- حذو القُذَّة بالقذة، وكذلك لن يفوزوا برضا رب البرية إلا إذا اتبعوهم بإحسان؛ كما قال ربنا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 100).
الدرس الأول: طريق الوصول إلى الحق {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}:
حينما نقف مع سيرة سلمان الخير -هذه الأسطورة التي صنعها الإسلام- لنستقي منها الدروس والعبر؛ فلا بد أن نقدِّم بشيء من سيرته، وكيف كانت بدايته مع هذا الدين العظيم، وكيف تزاوجت رُوحُه مع النيِّرين -الوحيين الشريفين- فأنتجت لنا تلك العبقرية الفذَّة.
يقول عن نفسه: “كنت رجلاً من أهل أصبهان، من قرية يقال لها: “جي”، وكان أبي دهقانَ أرضه، وكنتُ من أحب عباد الله إليه، وقد اجتهدت في المجوسية، حتى كنت قاطنَ النار التي نوقدها، ولا نتركها تخبو، وكان لأبي ضَيْعةٌ، أرسلني إليها يومًا، فخرجت، فمررت بكنيسة للنصارى، فسمعتهم يصلُّون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيتُ مِن صلاتهم، وقلت لنفسي: هذا خير من ديننا الذي نحن عليه، فما برحتهم حتى غابت الشمس، ولا ذهبتُ إلى ضيعة أبي، ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري، وسألت النصارى حين أعجبني أمرُهم وصلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا: في الشام..، وقلت لأبي حين عدت إليه: إني مررت على قوم يصلُّون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا، فحاورني وحاورته، ثم جعل في رِجْلي حديدًا وحبسني، وأرسلت إلى النصارى أُخبرهم أني دخلت في دينهم، وسألتهم إذا قدم عليهم ركب من الشام أن يخبروني قبل عودتهم إليها؛ لأرحل إلى الشام معهم، وقد فعلوا، فحطمت الحديد وخرجت، وانطلقت معهم إلى الشام..، وهناك سألت عن عالِمهم، فقيل لي: هو الأسقفُ، صاحب الكنيسة، فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم، وأصلِّي وأتعلم، وكان هذا الأسقف رجلَ سَوْء في دينه؛ إذ كان يجمع الصدقات من الناس ليوزِّعَها، ثم يكتنزها لنفسه، ثم مات، وجاؤوا بآخرَ فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً على دينهم خيرًا منه، ولا أعظمَ منه رغبة في الآخرة، وزهدًا في الدنيا، ودأبًا على العبادة، وأحببته حبًّا ما علمت أني أحببت أحدًا مثله قبله، فلما حضر قدرُه قلت له: إنه قد حضرك من أمر الله -تعالى- ما ترى، فبمَ تأمرني، وإلى مَن توصي بي؟.
قال: أيْ بني، ما أعرف أحدًا من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجلاً بالمَوْصل، فلما توفِّي، أتيت صاحبَ الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرتْه الوفاة، سألته فأمرني أن ألحقَ برجل في عمورية في بلاد الروم، فرحلت إليه، وأقمت معه، واصطنعت لمعاشي بقراتٍ وغنمات، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إلى مَن توصي بي؟ فقال لي: يا بني، ما أعرف أحدًا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلَّك زمانُ نبي، يبعث بدِين إبراهيم حنيفًا، يهاجِر إلى أرض ذات نخل بين حرَّتين، فإن استطعت أن تخلص إليه فافعل، وإن له آياتٍ لا تخفى؛ فهو لا يأكل الصَّدقة، ويقبَل الهدية، وإن بين كتفيه خاتَمَ النبوَّة، إذا رأيتَه عرفته، ومرَّ بي ركب ذات يوم، فسألتهم عن بلادهم، فعلِمتُ أنهم من جزيرة العرب، فقلت لهم: أعطيكم بَقَراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟ قالوا: نعم، واصطحبوني معهم حتى قدموا بي واديَ القرى، وهناك ظلموني، وباعوني إلى رجل من يهود، وبصرت بنخل كثير، فطمعت أن تكونَ هذه البلدة التي وُصفت لي، والتي ستكون مُهاجَرَ النبيِّ المنتظر، ولكنها لم تكُنْها، وأقمت عند الرجل الذي اشتراني، حتى قدم عليه يومًا رجل من يهود بني قُريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنتُ أنها البلد الذي وُصفت لي، وأقمتُ معه أعمل له في نخْلِه في بني قريظة حتى بعث اللهُ رسولَه، وحتى قدم المدينة، ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف، وإني لفي رأس نخلة يومًا، وصاحبي جالس تحتها إذ أقبل رجل من يهود، من بني عمِّه، فقال يخاطبه: قاتل اللهُ بني قيلة؛ إنهم ليتقاصفون على رجُل بقباء، قادم من مكة يزعمون أنه نبي، فوالله ما أن قالها حتى أخذتني العُرَواء، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي، ثم نزلت سريعًا، أقول: ماذا تقول؟ ما الخبر؟ فرفع سيدي يده ولكَزني لكزة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبِلْ على عملك، فأقبلت على عملي.
ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقباء، فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرتُه للصدقة، فلما ذُكر لي مكانكم رأيتكم أحقَّ الناس به فجئتكم به، ثم وضعته، فقال الرسول لأصحابه: “كُلُوا باسم الله”، وأمسك هو، فلم يبسط إليه يدًا، فقلت في نفسي: هذه والله واحدة، إنه لا يأكل الصدقة، ثم رجعت وعدت إلى الرسول -عليه السلام- في الغداة، أحمل طعامًا، وقلت له -عليه السلام-: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شيء أُحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه: “كلوا باسم الله”، وأكل معهم، قلت لنفسي: هذه والله الثانية، إنه يأكل الهدية، ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته، فوجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه وعليه شملتان، مؤْتزرًا بواحدة، مرتديًا الأخرى، فسلَّمت عليه، ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بردته عن كاهله، فإذا العلامة بين كتفيه، خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي، فأكببت عليه أقبِّله وأبكي، ثم دعاني -عليه الصلاة والسلام- فجلست بين يديه، وحدَّثته حديثي كما أحدِّثكم الآن، ثم أسلمت، وحال الرِّق بيني وبين شهود بدر وأحد”.
هكذا كانت بدايته المزهرة، ومن أشرقت بدايته أشرقت نهايته، ومن اجتهد في البحث عن الحقيقة جمعه الله بها.
يقول صاحب “الظلال” مؤكدًا تلك الحقيقة، وهو يتحدث عن ثمرة الإيمان والمجهود المضني في البحث عن الحقيقة: “ويختفي شعور كالشعور الذي عشته في فترة من فترات الضياع والقلق، قبل أن أحيا في ظلال القرآن، وقبل أن يأخذَ اللهُ بيدي إلى ظلِّه الكريم، ذلك الشعور الذي خلعَتْه رُوحي المتعبة على الكون كله، فعبرتُ عنه أقول:
وقَف الكون حائرًا أين يمضي؟ *** ولماذا وكيف -لو شاء- يمضي
عبثٌ ضائع وجهد غَبِين *** ومصيرُ مقنَّع ليس يُرْضي
فأنا أعرف اليوم -ولله الحمد والمنة- أنه ليس هناك جهدٌ غَبِين؛ فكل جهد مجزي، وليس هناك تعبٌ ضائع؛ فكل تعب مثمر، وأن المصيرَ مُرْضٍ، وأنه بين يدَيْ عادلٍ رحيم، وأنا أشعر اليوم -ولله الحمد والمنّة- أن الكونَ لا يقف تلك الوقفة البائسة أبدًا؛ فروح الكون تؤمِن بربها، وتتجه إليه، وتسبح بحمده، والكون يمضي وَفْق ناموسه الذي اختاره اللهُ له، في طاعة وفي رضًا وفي تسليم، وهذا كسب ضخم في عالم الشعور وعالم التفكير، كما أنه كسب ضخم في عالم الجسد والأعصاب، فوق ما هو كسب ضخم في جمال العمل والنشاط والتأثُّر والتأثير”.
وقد ضحَّى صاحب “الظلال” بحريته وراحته -بل وبروحه- لأجل أن يصلَ إلى تلك الحقيقة السامقة ويثبت عليها، كما ضحَّى من قبله جَدُّه سَلْمان، وكذلك المخلصون من بعده أصحاب الهمم العالية والأشواق الراقية.
وتمشيًا مع ناموس الكون إذا أردنا الوصول إلى الحقائق في العقائد الصحيحة والأخبار الصادقة السليمة، وأي أمر يعرض لنا في حياتنا كبر أو صغر -في عصرٍ كثُرت فيه الأباطيل والأراجيف، وزيِّفت فيه الحقائق، وكثُر فيه الدجل باسم العلم والتقدم والمدنية- لا بد من أن نضحيَ بكثير من الوقت والجهد والمال؛ كي نقف على الحقائق التي إن فقدناها ربما فقدنا دينَنا، فيضيع إثرَ ذلك ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا؛ فالعقائد لا تبنى إلا على الحقائق، ولغة العلم لا تعرف إلا الحقائق؛ فوجب أن نبذل الجهد للوصول إليها كما كان آباؤنا.
الدرس الثاني: براءة الإسلام من الجمود:
الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها، هكذا علَّمنا ديننا، فلا نرفض الحضارة الغربية بجملتها، ولا نأخذها بكليتها، ولكن ما وافق دينَنا فأهلاً به وسهلاً، وما خالف فلا حاجة لنا به؛ لأنه وقتئذ لا يكون فيه نفعٌ للبشرية؛ لأن الشريعة ما منعت شيئًا إلا لضررِه، وفي هذا الموقف الذي نعرض له من حياة سلمان أقوى برهان على روعة الإسلام، ورد على من يتهمون الإسلام بالجمود والانزواء.
يقول صاحب “رجال حول الرسول”: “يوم الخندق، في السنة الخامسة للهجرة؛ إذ خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة، مؤلِّبين المشركين، ومحزِّبين الأحزابَ على رسول الله والمسلمين، متعاهدين معهم على أن يعاونوهم في حرب حاسمةٍ تستأصل شأفة هذا الدين الجديد، ووضعت خطة الحرب الغادرة، على أن يهجم جيش قريش وغطفان “المدينة” من خارجها، بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمين، الذين سيقعون آنئذ بين شقِّي رحى تطحنهم، وتجعلهم ذكرى!
وفوجئ الرسولُ والمسلمون يومًا بجيش لجبٍ يقترب من المدينة في عُدة متفوقة، وعتاد مدمدم، وسُقط في أيدي المسلمين، وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة، وصوَّر القرآنُ الموقف؛ فقال الله -تعالى-: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (الأحزاب: 10).
أربعة وعشرون ألف مقاتل تحت قيادة أبي سفيان وعيينة بن حصن يقتربون من المدينة؛ ليطوِّقوها، وليبطشوا بطشتهم الحاسمة؛ كي ينتهوا من محمد ودينه، وأصحابه، وهذا الجيش لا يمثِّل قريشًا وحدها، بل ومعها كل القبائل والمصالح التي رأت في الإسلام خطرًا عليها، إنها محاولة أخيرة وحاسمة يقوم بها جميع أعداء الرسول؛ أفرادًا، وجماعات، وقبائل، ومصالح، ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب، وجمع الرسول أصحابَه ليشاورَهم في الأمر، وطبعًا، أجمعوا على الدفاع والقتال، ولكن كيف الدفاع؟
هنالك تقدَّم الرجُلُ الطويل الساقين، الغزير الشعر، الذي كان الرسولُ يحمل له حبًّا عظيمًا، واحترامًا كبيرًا.
تقدَّم سلمان الفارسي، وألقى من فوق هضبة عالية نظرة فاحصة على المدينة، فألفاها محصَّنة بالجبال والصخور المحيطة بها، بيد أن هناك فجوةً واسعة، ومهيأة، يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحِمى في يُسْر.
وكان سلمان قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب، وخُدَع القتال، فتقدم للرسول -صلى الله عليه وسلم- بمُقترَحه الذي لم تعهَدْه العرب من قبل في حروبها، وكان عبارة عن حفْرِ خندق يغطِّي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة”.
وهكذا اقترح سَلمان فكرةً عسكرية خَبَرها من أرض فارس، الذين يسجدون للنيران من دون الله، هذه الفكرة لم يعهدها المسلمون ولا العرب، فرحَّب بها رسولُ الله ولم يرفضها لكونها فارسية، بل وشارك في الحرب معهم؛ إشارة إلى أن دينَنا لا يخشى الانفتاح على الحضارات المختلفة؛ لأن به قوة ذاتية تفرِّق بين النافع والضار والصحيح والسقيم، وفى الخبر الذي أخرجه البخاري في “صحيحه” (9/ 55 رقم 5010) في فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة، من حديث أبي هريرة في قصته مع الشيطان الذي كان يسرق من الزكاة التي وكَّله رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بها، وفيه يقول الشيطان: إذا أويتَ إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، لن يزالَ عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((صَدَقك وهو كَذُوب، ذاك شيطان))، فلم يمتنع رسولُ الله من قَبول ما جاء به من حقٍّ، وإقرار ما جاء به من صِدْقٍ، فأثبت له الصدقَ الذي لا يدل على المدح؛ فهو معدن خبيث.
** المصدر: المختار الإسلامي
[ica_orginalurl]