د.فاطمة بنت صالح الجارد
مراتب جمع مرتبة والمرتبة هي: الـمَنْزِلةُ. وفـي الـحديث: من مات علـى مَرْبَتةٍ من هذه الـمَراتِب، بُعِثَ علـيها؛ الـمَرْتَبة: الـمَنْزِلةُ الرَّفِيعةُ؛ أراد بها الغَزْوَ والـحجَّ، ونحوهما من العبادات الشاقة (1).
المراتب في الاصطلاح هي: الدرجات (2).
ومراتب دعوة غير المسلمين هي الدرجات التي يتبعها الداعي في دعوته لغير المسلمين بحسب ما تقضيه الأحوال.
وقد أطلق ابن القيم مراتب الدعوة على كيفيتها(3) وامتداد مكانها (4) وعلى هذا فالدعوة لا بد أن تكون مرتبة بأسلوبها وبانتشارهاK كما أن الإعلام بالدعوة قد يكون سريا وقد يكون جهريا، وهاتان مرتبتا الإعلام، وكذلك طريقة الاتصال قد يكون اتصالا مباشرا أو وغير مباشر، وقد تتوالى هذه أو تختلف بحسب حاجتها، وكذلك قد يكون الاتصال فرديا وقد يكون جماعياً، فقد تتوالى المرتبتان أو تختلفان حسب الحاجة.
فمراتب الدعوة لغير المسلمين تكون كالتالي:
أولاً- الترتيب الكيفي (الأساليب):
وهو ما يتعلق بأسلوب الدعوة فلا بد من مراعاة هذا الجانب لتأليف قلوبهم إلى الإسلام وتحبيبهم له والأصل في ذلك قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (5) قال ابن القيم رحمه الله تعالى: جعل الله مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريقة الحكمة والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب والمعاند يجادل بالتي هي أحسن(6).
والمتبع لسيرة المصطفى يجد أنه اتبع هذه الأساليب مع المسلمين وغيرهم كما سيأتي بيانه, وهناك مراتب أخرى خاصة بغير المسلمين وهي أسلوب المباهلة والأساليب الفعلية كالقتال والإجلاء.
فمراتب الأسلوب لغير المسلمين تكون كما يلي:
1 ـ القول اللين:
فقد أمر الله موسى ـ عليه السلام ـ عندما أرسله إلى فرعون بأن يقول له قولا ليناً قال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (7) “والقول اللين هو الكلام الدال على معاني الترغيب والعرض واستدعاء الامتثال، بأن يظهر المتكلم للمخاطب أن له من سداد الرأي ما يتقبل به الحق ويميز به بين الحق والباطل مع تجنب أن يشتمل الكلام على تسفيه رأي المخاطب أو تجهيله ………. ومن اللين في دعوة موسى عليه السلام ـ لفرعون قوله تعالى: {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (8) وقوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (9)
وكذلك في دعوة إبراهيم ـ عليه السلام ـ ويظهر ذلك في دعوته لأبيه في قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}. (10)
قال الشيخ الفخر الرازي: واعلم أن إبراهيم عليه السلام رتب هذا الكلام في غاية الحسن لأنه نبه أولاً على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان ثم أمر باتباعه في النظر والاستدلال وترك التقليد ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لاينبغي ثم أنه ـ عليه السلام ـ أورد هذا الكلام الحسن مقرونا باللطف والرفق فإن قوله في مقدمة كل كلام:{ يَا أَبَتِ } دليل على شدة تعلق قلبه بمصالحه.(11) قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: وقد أمرنا الله باتباع ملة إبراهيم، فمن اتباع ملته، سلوك طريقه في الدعوة إلى الله بطريق العلم والحكمة، واللين والسهولة، والانتقال من رتبة إلى رتبة، والصبر على ذلك، وعدم السآمة منه، والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق، بالقول والفعل، ومقابلة ذلك بالصفح، والعفو، بل بالإحسان القولى والفعلى.(12)
2 ـ الوعظ والنصح:
يقصد بالوعظ: الأمر بفعل الخير وترك الشرّ بطريقة فيها تخويف وترقيق يحملان على الامتثال، (13) وأما النصح فهو: الدعاء إلى ما فيه الإصلاح والنهي عما فيه الإفساد. (14)
وقد أمر الله بأن تكون الدعوة بالوعظ، والمتأمل لدعوة الرسل كان يغلب عليها جانب الوعظ , وقد اشتملت الكتب السماوية جميعها على الموعظة، ودل القرآن على ذلك بآيات كثيرة. (15)
ويرى بعض العلماء أن الوعظ خاص بالإنكار على المسلمين، منهم الشيخ أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ حيث قال: الوعظ يكون لمن أقدم على الأمر، وهو عالم بكونه منكراً، أو فيمن أصر عليه بعد أن عرف كونه منكراً، كالذي يواظب على الشرب، أو على الظلم، أو على اغتياب المسلمين. (16)
قلت : من خلال الأمثلة التي ذكرها الشيخ أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ يفهم أنه قصر الوعظ على الإنكار على المسلمين، والصحيح عدم قصره عليهم فقط بل يعم الكافرين، وذلك لعدة أوجه:
الوجه الأول: أن الله سبحانه وتعالى سمى القرآن موعظة وهو مليء بالمواعظ، وقد أرسل به الرسول – صلى الله عليه وسلم – على قريش وقد كانت أمة كافرة تعبد الأصنام قال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } (17) قال الزمخشري: أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد، شفاء أي: دواء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة، ودعاء إلى الحق ورحمة لمن آمن به منكم.(18)
قالت الباحثة: فإذا كان الخطاب موجهاً للناس جميعاً ومنهم الكافرون أو كان لقريش خاصة، وقد سمي موعظة فدليل أن الكافرين يدعون بالوعظ، كما أن الوعظ هنا في التوحيد، والتوحيد يخاطب به أيضاً الكافرون.
والوجه الثاني: أن الله تعالى قد خص سورة هود في أن فيها موعظة للكافرين وتذكره للمؤمنين، لشمولها على أحوال الأمم السابقة المكذبة لرسلهم، فعندما قص قصصهم قال تعالى: – في آخر السورة – {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (19) قال الطبري: وجاءك موعظة تعظ الـجاهلـين بـالله وتبـين لهم عِبره مـمن كفر به وكذّب رسله. وتذكرة تذكر الـمؤمنـين بـالله ورسله كي لا يغفلوا عن الواجب لله علـيهم. (20) وقال القرطبي: الموعظة ما يُتّعظ به من إهلاك الأمم الماضية، والقرون الخالية المكذبة؛ وهذا تشريف لهذه السّورة؛ لأن غيرها من السّور قد جاء فيها الحقّ والموعظة والذّكرى ولم يقل فيها كما قال في هذه على التّخصيص. (21)
والوجه الثالث: خطاب الله سبحانه وتعالى للكافرين بالوعظ في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (22) فالله سبحانه وتعالى أطلق على هذا الخطاب وعظاً وهو موجه لكفار قريش وفي هذا الخطاب يطالبهم بالتفكر والتأمل ليثبت لهم عكس ما ادعوه.
والوجه الرابع: إسلام عثمان بن مظعون عندما سمع أجمع آية في القرآن في الوعظ، وقد أطلق الله سبحانه وتعالى عليها وعظاً وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (23) عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قال: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّه – صلى الله عليه وسلم- بِفِنَاءِ بَيْتِهِ بِمَكَّةَ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَكَشَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- فَقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: (ألَا تَجْلِسُ) قال: {بَلَى } قال: فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مُسْتَقْبِلَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُهُ إِذْ شَخَصَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَنَظَرَ سَاعَةً إِلَى السَّمَاءِ فَأَخَذَ يَضَعُ بَصَرَهُ حَتَّى وَضَعَهُ عَلَى يَمِينِهِ فِي الْأَرْضِ فَتَحَرَّفَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – عَنْ جَلِيسِهِ عُثْمَانَ إِلَى حَيْثُ وَضَعَ بَصَرَهُ وَأَخَذَ يُنْغِضُ رَأْسَهُ كَأَنَّهُ يَسْتَفْقِهُ مَا يُقال: لَهُ وَابْنُ مَظْعُونٍ يَنْظُرُ فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ وَاسْتَفْقَهَ مَا يُقال لَهُ، شَخَصَ بَصَرُ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إِلَى السَّمَاءِ كَمَا شَخَصَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ حَتَّى تَوَارَى فِي السَّمَاءِ فَأَقْبَلَ إِلَى عُثْمَانَ بِجِلْسَتِهِ الْأُولَى قال:{ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ كُنْتُ أُجَالِسُكَ وَآتِيكَ مَا رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ كَفِعْلِكَ الْغَدَاةَ }قال:(وَمَا رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ ؟) قال: رَأَيْتُكَ تَشْخَصُ بِبَصَرِكَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ وَضَعْتَهُ حَيْثُ وَضَعْتَهُ عَلَى يَمِينِكَ فَتَحَرَّفْتَ إِلَيْهِ وَتَرَكْتَنِي فَأَخَذْتَ تُنْغِضُ رَأْسَكَ كَأَنَّكَ تَسْتَفْقِهُ شَيْئًا يُقال لَكَ قال: وَفَطِنْتَ لِذَاكَ قال عُثْمَان رضي الله عنه: نَعَمْ، قال رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – 🙂 أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ آنِفًا وَأَنْتَ جَالِسٌ(قال: رَسُولُ اللَّهِ ؟ قال:) نَعَمْ (قال: {فَمَا قال لَكَ ؟ }قال: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (24) قال عُثْمَانُ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي وَأَحْبَبْتُ مُحَمَّدًا) (25) (26)
ومن الوعظ الحسن الترغيب بتعريفهم بفضل إيمانهم فالأجر لهم مضاعف عن أبي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – : (ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم -…..الحديث).(27)
3- المجادلة:
هي دفع القول على طريق الحجة بالقوة….. وتكون حقا في نصرة الحق وباطلاً في نصرة الباطل.(28)
والأصل فيها قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(29)، والأمر هنا لم يخصص لذا فتكون المجادلة للمسلمين وغير المسلمين، ولكن تختلف لغير المسلمين باختلاف المدعوين.
أ: مجادلة مدعي الربوبية:
كما جادل إبراهيم وموسى ـ عليهما السلام -، النمرود بن كنعان وفرعون مصر ففي جدال إبراهيم قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (30)
وفي جدال موسى عليه السلام لفرعون: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}. (31)
والهدف من هذه المجادلة هو قطع حجتهم وإفحامهم وإثبات عجزهم.
ب: مجادلة منكري الربوبية:
ويكون الجدال معهم لإثبات قدرة الله على الخلق والتدبير والملك والإحياء والإماتة ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (32)
جـ: مجادلة أهل الكتاب:
وقد استطر القرآن الكريم في هذه المجادلة ومن ذلك الدعوة إلى كلمة سواء وهي لا إله إلا الله قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. (33)
4 ـ الغلظة:
وتكون الغلظة بالقول وبالفعل وهذا الأسلوب يستخدم مع من دعي بالأساليب السابقة وعاند وجحد ومن هذه الأساليب.
1 ـ المباهلة:
المُبَاهَلَةُ الملاعنة و الابْتِهَالُ الاسترسال في الدعاء والتضرع فيه.(34)
وقد بين القرآن والسنة كيفية المباهلة مع اليهود والنصارى كما يلي:
أ: مباهلة اليهود:
لقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأنهم وحدهم الفائزون بمغفرة الله ورضوانه، وأنهم ليس لغيرهم من الأمم في الآخرة عند الله نصيب، كما في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (35) وقوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (36) وقد نقض الله تعالى تلك الدعاوى الباطلة بقوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (37) (38) فكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت. (39) فامتنعت اليهود من إجابة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. (40)
ب: مباهلة النصارى:
وقد جاءت دعوة النصارى إلى المباهلة عندما قدم وفد من نجران فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (41)
في صحيح مسلم: لَمَّا نَزَلَتْ هٰذِهِ الآيَةُ. دَعَا رَسُولُ اللّهِ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَناً وَحُسَيْناً فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هٰؤُلاَءِ أَهْلِي». (42)
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ قَالَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تَفْعَلْ فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّا لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا قَالَا: إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلَّا أَمِينًا فَقَالَ: لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. (43)
2 ـ التهديد:
يكون التهديد إما بالقول أو بالفعل:
أ ـ التهديد بالقول:
إما بالوعيد بجزاء الفعل في الآخرة كقوله تعالى: (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) (44) وكما في تهديد الرسول – صلى الله عليه وسلم – لهرقل الروم: (فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ) (45) الأريسيين جمع الأريس. قال ابن ححر: الأريس قيل معناها الأكار ـ أي الفلاح ـ وقيل معناها الأمين، أي تقال للتابع والمتبوع، والمعنى في الحديث صالح على الرأيين، فإن كان المراد التابع فالمعنى أن عليك مثل إثم التابع لك ترك الدخول في الإسلام، وإن كان المتبوع فكأنه قال فإن عليك إثم المتبوعين، وإثم المتبوعين يضاعف باعتبار ما وقع لهم من عدم الإذعان إلى الحق من إضلال أتباعهم.(46)
أو تهديد بفعل كتهديد إبراهيم ـ عليه السلام ـ قومه بتكسير أصنامهم في قوله تعالى: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) (47)
ب ـ الغلظة بالقتال:
ويكون هذا مع أهل الحرب من الكفار. قال تعالى: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ). (48) قال ابن كثير: “معناه: غلِّظ عقوبتهم، وأثخنهم قتلاً؛ ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة” (49) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). (50)
قال القرطبي: أمر الله نبيه أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله. والمنافقين بالغلْظة وإقامة الحجة، وأن يعرّفهم أحوالهم في الآخرة. (51)
ويكون القتال بالترتيب الأقرب فالأقرب. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (52). قال القرطبيُّ: “أي: شدة وقوة” (53) وقال ابن كثير: أي: وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإنّ المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقًا لأخيه المؤمن، غليظًا على عدوه الكافر (54) أي ابدءوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارا دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ الروم، لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ، والشام كانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام. (55)، وقال قتادة: الآية على العموم في قتال الأقرب فالأقرب، والأدنىٰ فالأدنىٰ. (56)
ثانياً: الترتيب المضموني (الموضوعي):
والمقصود به موضوع الدعوة، فلا بد أن يخضع هذا الترتيب لحال عقيدة المدعوين كما يلي:
1 ـ تقرير عقيدة الربوبية:
لقد فطر الله الناس على الفطرة عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ) ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (57) ” (58). والفطرة تدعو المرء إلى الاتجاه إلى الخالق، لكن الإنسان تحيط به مؤثرات تجعله ينحرف حينما يتجه إلى المعبود الحق. (59) وتزداد المؤثرات على الإنسان فيعتقد بإيجاد الدهر له وللكون قال تعالى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (60) فأول مرتبة يبتدأ بها المدعو عند هؤلاء تقرير عقيدة الربوبية ودعوتهم إلى إفراد الله بالخلق والملك والتدبير وإيقاظ تلك فطرة التي خلقهم الله عليها ودعوتهم إلى التدبر بأنه لا بد لكل مخلوق إلى خالق، والتأمل في خلق الكون ومايحويه من مخلوقات من مد الأرض، ورفع السماء، وإيلاج الليل والنهار، وتكوير الكواكب، وتسخير الفلك، وتسيح الرعد، وإنزال الماء، وإرسال الرياح، وخلق الإنسان وتطور ذلك الخلق، وتصويره في الأرحام وتسخير الكون كله له، ووصف البعث، والجزاء وجميع الدلائل على قدرته، والدلالة على أنها الخالق والمالك لها ومدبرها واحد. والآيات على ذلك كثيرة.
2 ـ تقرير عقيدة الألوهية:
والذين يخاطبون في هذا التقرير كثير وقد استطرد فيه القرآن كثيراَ سواء في دعوة أهل الكتاب أو مشركي العرب فقد ورد على ألسنة عدد من الرسل وهم نوح وهود و صالح وشعيب قوله تعالى:(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ) (61) وعلى لسان موسى كما ورد على لسان موسى لقومه في قوله تعالى: (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) (62) وعلى لسان عيسى عليه السلام قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (63) وفي دعوة محمد – صلى الله عليه وسلم – كثير من ذلك منها قوله تعالى:(قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا) (64) كما أنه صلى الله عليه وسلم أرشد إلى هذا المضمون أثناء بعث معاذ إلى اليمن عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللَّه عَنْهمَا ـ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: (إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِم). (65)
ب: تقرير عمومية رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). (66)
ج: تعليمهم الفرائض والعبادات:
كما اتضح ذلك في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ في الحديث السابق.
ثالثاً: الترتيب المكاني:
وهذا المقام الثاني الذي أطلق عليه ابن القيم مراتب الدعوة وأشرنا إليه في أول المبحث وذكر أنها خمس مراتب حيث ذكر الأولى النبوة، والصحيح أنها أربعة مراتب كمايلي:
المرتبة الأولى ” إنذار عشيرته الأقربين ” فعندما أمره الله بالقراءة في الآيات السابقة، وأثبت له ربوبيته نهاه ألا يدع معه إله آخر وأن ينذر عشيرته الأقربين قال تعالى: (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (67) عن أبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ـُ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا). (68)
المرتبة الثانية: ” إنذار قومه ” وبدأت هذه المرتبة بنزول قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (69) أي فاجهر به أظهر ما تؤمر به وبلغه علناً على رؤوس الأشهاد، أو فرق بين الحق والباطل بما أمرك الله بتبليغه. (70) فأعلن الدعوة وجهر بها تنفيذاً لهذا الأمر من الله سبحانه وتعالى.
المرتبة الثالثة ” إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة ” قال تعالى: (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) (71) فكان صلى الله عليه وسلم يستثمر تجمعات العرب في الحج فيعرض عليهم الإسلام.
المرتبة الرابعة: “إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر ” وفي هذه المرتبة كانت الدعوة عن طريق إرسال الرسائل والرسل إلى الملوك، وكذلك عن طريق الجهاد. (72)
رابعاً: الترتيب الإعلامي:
السرية:
فقد بدأت دعوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في مكة، من أول نبوته سرا، بقوله تعالى: (قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (73) واستمرت مدة الدعوة ثلاث سنين. (74)
الجهرية:
وهي المرحلة التي أمره الله تعالى أن يدعو الناس إلى الإسلام علنًا، مبتدأ بالأقربين كما قال تعالى: (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (75) فبدأ بالأقربين ثم من حوله ثم الناس أجمعين كما بينا في الترتيب المكاني. فكان يذهب إلى الناس في مواسم الحج كل عام، وإلى المواسم الأخرى في عكاظ، ومجنة، وذي المجاز وغيرها من الأسواق العربية الشهيرة. (76)
قلت: وهذا خاص بدعوة الرسول – صلى الله عليه وسلم -، أما غيرها، فتكون سرية الدعوة وجهريتها بحسب ما يستدعيه الحال وما تحيط به من ظروف.
خامساً: ترتيب الاتصال (الوسائل):
1 ـ الاتصال المباشر:
أ: الاتصال الفردي:
قد تحتاج الدعوة إلى أن تكون فرديه، وهذا يعد لعدة أسباب، أما متعلقة بالمدعو كأن يكون صاحب سلطة، ويكون له متبوعين كما في قصة موسى مع فرعون، أو يكون له مكانة من الداعي كما في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب. فعن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قال: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم – فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – لِأَبِي طَالِب: ( يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ…) الحديث. (77)
ب: الاتصال الجماعي:
وهو دعوة الناس أو فئة منهم. عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدِّيلِيِّ وَكَانَ جَاهِلِيًّا أَسْلَمَ فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بَصَرَ عَيْنِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهِ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَقُولُ شَيْئًا وَهُوَ لَا يَسْكُتُ يَقُولُ أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا…..) الحديث (78)
2- الاتصال بالمراسلات (الغير مباشر):
ويكون بإرسال الرسائل والرسل والوفود.
والاتصال لا يكون بالترتيب بل يكون حسب الظروف المحيطة بالدعوة. وكذلك التراتيب الأخرى ليست على إطلاقها، فقد تسبق مرتبة أخرى، ماعدا ما يتعلق بالترتيب الموضوعي فلابد من البدء بالعقيدة.
————————————
(1) لسان لعرب، باب: الراء، مادة رتب. مكتبة الحديث الشريف، شركة العريس الإصدار الثامن.
(2) فيض القدير، 1 / 105.
(3) انظر مفتاح دار السعادة، ابن القيم،، 1 / 474. انظر المعجم الوسيط، مرجع سابق، 2/ 1050، حرف الواو، مادة وضع. موسوعة أخلاق القرآن، مرجع سابق، 1 / 68.
(4) انظر زاد المعاد، ابن القيم، 1 / 86.
(5) سورة النحل، آية رقم: 125.
(6) فيض القدير، 1 / 105.
(7) سورة طه، آية رقم: 43، 44.
(8) سورة النازعات، آية رقم: 18ـ 19
(9) سورة طه، آية رقم: 47.
(10) سورة مريم، آية رقم: 41 ـ 45.
(11) التفسير الكبير، الإمام فخر الدين الرازي، ت 606، ط بدون رقم [ بيروت، دار إحياء التراث، 1415هـ/ 1995م] ، 21/ 545.
(12) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي [ بيروت مؤسسة الرسالة، الطبعة السادسة، 1417هـ / 1997م ]، ص 444.
(13) التحرير والتنوير، ابن عاشور، 5 / 108.
(14) تعريفات سيد شريف ط بدون رقم [ استنابول، مطبعة أحمد كامل، 1327هـ]، ص: 16، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، قام باخراج هذه الطبعة ابراهيم انيس وآخرون، ط بدون رقم و تاريخ[ استانبول، المكتبة الاسلامية]، 2 / 925.
(15) انظر الاحتساب باللسان، فاطمة بنت صالح الجارد، رسالة ماجستير مطبوعة تحت النشر، [ ط 1، 1426هـ / 2005 م، الرياض، دار المؤيد، ] ص: 138.
(16) إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، ط[ بيروت، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 1417هـ /1996م ]، 2 / 444.
(17) سورة هود، آية رقم: 57.
(18) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للإمام محمود بن عمر الزمخشري، ت 528هـ، رتبه وضبطه وصححه مصطفى حسين أحمد، د. ط، د. ت، د. م [دار الكتاب العربي] ، 2 / 241.
(19) سورة هود، آية رقم: 120.
(20) جامع البيان في تأويل القرآن، الطبري، 12/ 87.
(21) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 9/ 116.
(22) سورة سبأ، آية رقم: 46.
(23) سورة النحل، آية رقم: 90.
(24) سورة النحل، آية رقم: 90.
(25) أخرجه أحمد ، وصححه المحقق أحمد شاكر، حاشية المسند، 3 / 285، ح: 2922وقال: ابن كثير: إسناد جيد متصل حسن.
(26) انظر الاحتساب باللسان، المرجع السابق، ص: 191 ـ 194.
(27) أخرجه البخاري، ك: العلم، ب: تعليم الرجل أمته وأهله،1 / 48، ح: 97، ومسلم، ك: الإيمان، ب: وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم 1 /134، ح: 154.
(28) الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد الانصاري القرطبي، ط بدون رقم [ بيروت، دار إحياء التراث،، 1405هـ / 1985م ] ، 7 / 77.
(29) سورة النحل، آية رقم: 125.
(30) سورة البقرة، آية رقم: 258
(31) سورة الشعراء، آية رقم: 23ـ 29.
(32) سورة الجاثية، آية رقم: 24 ـ 28.
(33) سورة آل عمرآن، آية رقم: 64.
(34) المفرادت في غريب القرآن، ابو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، تحقيق، محمد سيد كيلاني، د. ت، د. ت، [ بيروت، دار المعرفة ]، ص: 63، مادة: بهل.
(35) سورة البقرة، آية رقم: 111.
(36) سورة البقرة، آية رقم: 80.
(37) سورة البقرة، آية رقم: 94 ـ 96.
(38) انظر أصناف المدعوين وكيفية دعوتهم، د. حمود بن أحمد الرحيلي، [ ط 1، 1414هـ الرياض، دار العاصمة ] ص: 44 ـ 45.
(39) تفسير الفرآن العظيم، ابن كثير القرشي الدمشقي، د.ط، د.ت[ الرياض، مكتبة الرياض الحديثة ] 1 / 220.
(40) جامع البيان في تفسير القرآن، 1/ 336.
(41) سورة آل عمران، آية رقم: 61.
(42) صحيح مسلم، ك: فضائل الصحابة، ب: فضائل علي رضي الله عنه، 15 / 147، ح: 6173.
(43) صحيح البخاري، ك: المغازي، ب: قصة أهل نجران، 8 / 427، ح: 4273
(44) سورة آل عمران، آية رقم: 63
(45) أخرجه البخاري، ك: بدء الوحي، ب: بدء الوحي،1 / 9، ومسلم، ك: الجهاد والسير، ب: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل 3 / 1396.
(46) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر 8 / 178.
(47) سورة الأنبياء، آية رقم: 57.
(48) سورة التوبة، آية رقم: 57.
(49) تفسير القرآن العظيم، 4 / 69.
(50) سورة التوبة، آية رقم: 73.
(51) الجامع لأحكام القرآن، 18 / 201.
(52) سورة التوبة، آية رقم: 123.
(53) الجامع لأحكام القرآن، 8 / 297.
(54) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 2 / 41.
(55) جامع البيان في تفسير القرآن، 11 / 52.
(56) الجامع لأحكام القرآن،القرطبي، 8/ 297.
(57) سورة الروم، آ ية رقم: 30.
(58) صحيح البخاري، محمد بن اسماعيل البخاري د. ط، د. ت [ بيروت، دار إحياء التراث العربي] ك: الجنائز، ب: إذا أسلم الصبي ومات هل يصلى عليه، 1 / 456، ح: 1292، ورواه مسلم، صحيح مسلم، أبو الحسن مسلم بن الحجاج، ط بدون رقم [ بيروت، دار ابن حزم، 1416هـ ] ك القدر، ب: معنى كل مولود على الفطرة، 4 / 2047، ح: 2658.
(59) العقيدة في الله، عمر الأشقر،[ عمان، دار النفائس، الطبعة العاشرة، 1415هـ / 1995م ] ص 69.
(60) سورة الجاثية، آية رقم: 24.
(61) سورة هود، آية رقم: 50.
(62) سورة طه، آية رقم: 98.
(63) سور ة المائدة، آية رقم: 72.
(64) سورة الجن، آية رقم: 20.
(65) أخرجه البخاري، ك: الزكاة، ب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا،2 / 544، ح: 1425. ، ومسلم، ك: الإيمان، 1 / 50، ح: 19
(66) سورة سبأ، آية: 28.
(67) سورة الشعراء، آية رقم: 213_214.
(68) أخرجه البخاري، ك: الوصايا، ب: هل يدخل الولد والنساء من الاقارب، 3 / 1013، ح: 2602. ومسلم، ك: الإيمان، ب: قوله (وأنذر عشيرتك الأقربين، 1 / 193، ح: 204.
(69) سورة الحجر، آية رقم: 94.
(70) انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، [ بيروت، دار احياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1417هـ / 1996م ]، 2/ 105.
(71) سورة القصص، آية رقم: 46.
(72) انظر زاد المعاد في هدي خير العباد،ابن قيم الجوزية، تحقيق شعيب الأرنؤوط،عبد القادر الأرنؤوط، ط [ بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الرابعة عشر، 1407هـ / 1986م ]، 1 / 86.
(73) سورة المدثر، آية رقم: 2 ـ 3.
(74) أثر الهجرة على تطور الدعوة الإسلامية وانتشارها في أنحاء العالم، للدكتور محي الدين الألواني ، www.iu.edu.sa/Magazine، وانظر الدعوة الإسلامية في عهدها المكي، رؤوف شلبي [ط 3،1403 هـ / 1983م، الكويت، دار القلم ] ص: 293.
(75) سورة الشعراء، آية رقم: 213_214.
(76) الجامع لأحكام القرآن،القرطبي، 8/ 297.
(77) أخرجه البخاري، ك: تفسير القرآن، ب: قوله تعالى:(إنك لا تهدي من أحببت)، 4 / 1788، ح: 4494، ومسلم، ك: الإيمان، ب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، 1/ 54،ح: 24.
(78) أخرجه أحمد، 4/ 341، ح: 19026. وصححه المحقق أحمد شاكر، انظر حاشية المسند، 12 / 419، ح: 15965.
المصدر: موقع دعوتها.
[ica_orginalurl]