إن تغيير النفوس ونقلها من ميولها ومألوفاتها أمر ليس سهلاً، وإن الأعراف التي استقرت في العقول وتواطأ الناس عليها لا تتغير بأمر يصدر أو دعوة توجَّه، والعادات في السلوكيات التي تجذرت وترسخت لا يتصور اقتلاعها في يوم وليلة ولذا فلا بد من إدراك حقيقة مهمة للدعاة وهي أن المراعاة والتدرج لازمان للتغيير وحصول الاستجابة، وكما قيل: ((إذا أردت أن تطالع فأمر بما يستطاع))، وهناك أمور كثيرة يلزم مراعاتها والأخذ بالتدرج فيها وهذه خلاصة نافعة في هذا الباب:-
أولا: مراعاة الطبائع:
إن الناس يختلف بعضهم عن بعض، في علمهم وفهمهم وطبائعهم الشخصية وعوائدهم الاجتماعية، وكل ذلك يحتاج الداعية إلى مراعاته، وبالنسبة لطبائع الأشخاص فإن المدعوين على ثلاثة أنواع:
1- فمنهم الراغب في الخير ولكنه غافل قليل البصيرة فيحتاج على دعوته بالحكمة.
2- ومنهم المعرض عن الحق المشتغل بغيره فمثل هذا يحتاج إلى الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب التنبيه على ما في التمسك بالحق من المصالح العاجلة والآجلة، وعلى ما في خلافه من الشقاء والفساد.
3- الطبقة الثالثة من الناس من له شبهة قد حالت بينه وبين فهم الحق والانقياد له فهذا يحتاج إلى مناقشة وجدال بالتي هي أحسن حتى يفهم الحق وتنزاح عنه الشبهة (مجموع فتاوى ابن باز(2/241-243)
ومن الناس من طبعه الحدة وسرعة الانفعال، ومنهم من يميل إلى السكينة وطول البال وكل له مدخل وأسلوب يناسبه ومراعاة ذلك مهمة في نجاح الداعية.
ثانياً: مراعاة الأفهام:
تفاوت الأفهام أمر معروف، وله أسبابه من قلة العلم أو اختلاف البيئة، أو استحكام العوائد ونحو ذلك.
قال ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى ]فذكر إن نفعت الذكرى[: أي ((ذكر حيث تنفع التذكرة، ومن هنا الأدب في نشر العلم فلا يضعه عند غير أهله)) تفسير ابن كثير (4/500)، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ((يا عائشة لو لا أن قومك حديث عهدهم – قال ابن الزبير: بكفر- لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس وباب يخرجون)) أخرجه البخاري، في كتاب العلم، باب ترك بعض الأخبار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس (الفتح)(1/223)، قال ابن حجر في الفتح: ((ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأنّ الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرّماً)) الفتح لابن حجر(1/225).
وروى الإمام البخاري في صحيحه، في كتاب العلم، باب من خصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألاَّ يفهموا، عن علي بن أبي طالب قال: حدِّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟ صحيح البخاري، كتاب العلم. وروى مسلم ابن مسعود: ((ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) أخرجه مسلم في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (1/11).
قال ابن حجر: ((ممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي في ظاهرها الخروج على السُّلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب.
وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب والله أعلم)) فتح الباري (1/225).
ولذا ينبغي للداعية مراعاة ذلك وعدم مخالفته سيما بالنسبة للعوام، ومن تقصر بهم الأفهام، وقد عدَّ الشاطبي في الاعتصام هذا التجاوز ضرباً من الابتداع فقال: ((ومن ذلك التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه، فإنه من باب وضع الحكمة في غير موضعها، وسامعها إما أن يفهمها على غير وجهها- وهو الغالب- وهي فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق، والعمل بالباطل، وإما لا يفهم منها شيئاً وهو أسلم)) الاعتصام (2/13).
وأوضح ذلك أيضاً في موافقاته ومثل له بأمثلة من إنكار الصحابة لذلك فقال: ((ومن ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات، وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة، ولذلك أنكرت عائشة على من قالت: لم تقضي الحائض الصوم، ولا تقضي الصلاة ؟ وقالت لها: أحرورية أنت ؟، وقد ضرب عمر بن الخطاب صبيغاً لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل وربما أوقع خيالاً وفتنة وإن كان صحيحاً)) الموفقات (4/191).
وهذه كلمات للشاطبي أضعها أمام عين كل داعية وأهتف بها في سمعه ليعلم أنه ((ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره إن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام، بل ذلك ينقسم: فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أولا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص)) الموفقات (4/189).
وأزيد الأمر وضوحاً بذكر القاعدة الضابطة الرائعة التي ذكرها الشاطبي وأرشد إليها مخاطباً كل عالم وداعية حيث أوصاه أن يعرض مسألته على الشريعة فقال: ((فإن صحت في ميزانها فانظر في ماَلها بالنسبة إلى حال الزمن وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تتقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على المصلحة الشرعية والعقلية))الموفقات (4/191).
ثالثاً: مراعاة المقاصد والنيات:
قد يتفق اثنان في عمل ما ومع ذلك يختلف الحكم عليهما باختلاف النوايا، فهناك من يفعل الفعل ناسياً، أو جاهلاً بحرمته، أو متأولاً فيه، أو مكرها عليه ولكلٍ حكمه ومنهم من يفعل الإثم قاصداً عالماً بالحرمة لكنه مغلوب بضعف عزمه، ووسوسة شيطانه فلا يلبث أن يندم ويتوب ويستغفر، ومنهم قاصد مصرّ، وآخر محادٌّ لله ورسوله وهكذا، ونحن نعلم أن النوايا مخفية في طوايا القلوب، ولكن بعض القرائن والأحوال تدل عليها، وقد تصرح بها الألسنة فتعرف بوضوح.
وفي المسائل الفقهية ما يوضح هذا المعنى سيما في أحكام الطلاق والأيمان والنذور إذ يسأل أصحابها عن مقاصدهم وما نووا بكلامهم، ويعول في الحكم على نواياهم ويوكل أصحابها في صدقهم إلى تدينهم لله، وما يعرف عنهم من قرائن وأحوال ولنا الظواهر. ومراعاة مثل هذا من الأمور التي لا ينبغي إهمالها كما قال ابن القيم: ((إياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه فتجني عليه وعلى الشريعة، وتنسب إليها ما هي بريئة منه)). ومن أبز الأمثلة على اعتبار النيات حديث التائب الذي قال ((اللهم أنت عبدي وأنا ربك)) أخطأ من شدة الفرح (أخرجه مسلم، في كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها (عبد الباقي)(4/2103) فلم يؤاخذ بذلك، ومثله حديث مسلم في قصة الرجل الذي أوصى أن يحرق ويذرّ رماده في البر والبحر خشية من عذاب الله، فغفر الله له لهذا المقصد الذي استولى على قلبه (أخرجه مسلم، في كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (عبد الباقي)(4/2109).
رابعاً: مراعاة الأحوال الخاصة:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم الوصية والنصيحة من بعض أصحابه فقال لأحدهم: ((لا تغضب)) أخرجه البخاري، في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب (الفتح)(10/535)، وقال لآخر: ((قل آمنت بالله ثم استقم)) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام (عبد الباقي)(1/65)،وقال للثالث: ((لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل الذكر (شاكر) (5/427) وما ذلك الاختلاف في الجواب إلا مراعاة منه صلى الله عليه وسلم للأحوال الخاصة بالسائلين إذ كان يعلم حاجة كل واحد منهم والجانب القاصر عنده، والأمر اللائق به، فأوصى كل واحد بما يناسبه.
وجاء شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ((أقبل وأنا صائم ؟ قال: لا، فجاء شيخ فقال: أقبّل وأنا صائم ؟ فقال: نعم، فنظر الصحابة بعضهم إلى بعض (أي متعجبين من اختلاف الفتوى) فقال صلى الله عليه وسلم: قد علمت نظر بعضكم إلى بعض إن الشيخ يملك نفسه)) مسند الإمام أحمد (2/185)، وهذا واضح الدلالة في التفريق بين حال الشيخ وحال الشاب ومراعاة ذلك في الفتوى والمعاملة والتوجيه.
خامساً: مراعاة الأعراف والعوائد العامة:
إن كل بلد لها أعرافها وكل بيئة لها عوائدها، ومراعاة ذلك بالضوابط الشرعية، من ضروب الحكمة وموافقة جوهر الشريعة، وقد امتن الله على البشر بإرسال الرسل وخص بالمنة كون الرسل من البشر وامتن على الأقوام بأن جعل الرسل منهم وينطقون بألسنتهم، فقال تعالى:]وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم[إبراهيم [4] فهذا ((من لطفه تعالى بخلقه أن يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به)) تفسير ابن كثير(2/522)، ولذا ينبغي لداعية التنبه بذلك، الحرص على معرفة الأعراف والعوائد في البيئة التي يدعو إليها لتكون دعوته مؤثرة في النفوس، مقنعة للعقول، محببة للقلوب، مناسبة للظروف، قابلة للتطبيق فإذا جاء في بيئة يغلب عليها الفقر ويشيع فيها الكسل فإن المطالبة بالزهد في الدنيا والترفع عن شهواتها غير مناسب للبيئة وأحوال الناس، وإذا دعا قوماً فاضت الأموال في أيديهم وشغلت الدنيا أوقاتهم فالحديث عن ضرورة التمتع بالمباح من الدنيا والحث على ذلك غير ملائم كذلك، كما لا ينبغي أن يطول الحديث في الإنكار على أمور لا وجود لها في بيئة الدعوة إذ لا نفع في ذلك، بل ربما ترتب عليه ضرر من حصول تشويش واضطراب أو حصول تطلع وافتتان بتلك الأمور.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين منبهاً على هذا الموضوع: ((ولا تَجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك)) إعلام الموقعين (3/78)، ثم بين أثر ذلك وضرره فقال ك ((ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم بل هذا الطبيب وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم)) إعلام الموقعين (3/78).
وضرب ابن تيمية لذلك مثالاً علمياً فقال: ((ولو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم (أي الكفار) في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة)) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (ص: 173).
سادساً: مراعاة الأولويات:
المراد بمراعاة الأولويات معرفة مراتب الأعمال ووضعها في مواضعها، فإن المنهج الإسلامي قد جعل لكل عمل قدراً، فإماطة الأذى وإن كانت من الإيمان فإنها في الرتبة الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناه إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان)) ” ولا إله إلا الله ” يقاتل لأجلها كما أخبر الرسول الكريم ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله )) وإماطة الأذى لا يمكن أن تكون سبباً لقتال بل هي دون ذلك بكثير ويكفي فيها نصح ووعظ، ولا يمكن المساواة بينهما، في الدعوة إليهما والبذل في سبيل تحقيقهما.
وهذا ظاهر في بيان تفاوت عدد من الأعمال فيما تضمنه قوله تعالى ]أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون[ التوبة [19_20].
ولا بد للداعي أن يعلم أن الأصول لا بد أن تقدم على الفروع، والفروض تقدم على النوافل، وفروض الأعيان مقدمة على فروض الكفايات، وفروض الكفايات التي فيها عجز ظاهر أولى من التي انتدب لها غيره من المسلمين.
وللشيطان أرب في هذا الجانب لدى الدعاة فهو في معركة المراغمة يبدأ بالكفر فإن عجز فإلى البدعة، فإن لم يفلح فإلى كبائر الذنوب، فإن فشل فإلى صغائرها، فإن لم يتمكن فإلى الاستكثار من المباح فإن ((تملص الداعية وسلَّ نفسه لم يكن استعلاؤه على الراحة والرغد كافياً لحصار الشيطان في زاوية اليأس، بل للشيطان محاولة سادسة فيكون له التفاف واقتحام من ثغرة أخرى، فينثر ترتيب قائمة الأولويات النسبية، بعكس القواعد الشريعة في تفاضل الأعمال الإيمانية ويلهي المؤمن بالمفضول المرجوح، فيقضي من له علم نافع عن جمهور المنتفعين منه، يشغله بزيادة ركوع أو سجود، هما جليلان، لكن التعليم أوجب عليه بعد الفرض منهما، وينقل آخر له وفرة قوة وبسطة في الجسم والذكاء وخبرة في السياسة والإدارة، من تفاعله المنتج مع يوميات الخطة الجماعية، ومن صولاته في ساحة الفكر إلى إشراف على بناء مدرسة أو إغاثة منكوب)) المسار (ص:19).
من المعلوم أن هناك مقاصد ضرورية مقدمة، ومقاصد حاجية تأتي بعدها، وهناك أيضاً مقاصد تحسينية تأتي في المرتبة الأخيرة، ولا بد من مراعاة ذلك ومعرفة أن ((المقاصد الضرورية أصل للحاجية والتحسينية)) الموفقات (2/17)، ((وأن الضروري هو الأصل وأن ما سواه مبنى عليه كوصف من أوصافه أو كفرع من فروعه، ويلزم باختلاله اختلال الباقين لأن الأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أولى فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشريعة لم يكن اعتبار الجهالة والغرر، وكذلك لو ارتفع أصل القصاص لم يمكن اعتبار المماثلة فيه فإن ذلك من أوصاف القصاص ومحال أن يثبت الوصف مع انتفاء الموصف)) الموفقات (2/18).
والعقيدة هي أساس والشريعة هي البناء، ولا بناء من غير أساس ولا عمل من غير توحيد وإخلاص ]وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعناه هباء منثوراً[ الفرقان [23] ]ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك[ الزمر [65]، وسائر الرسل والأنبياء كانت الدعوة إلى التوحيد عندهم هي أولى الأولويات وأهم المهمات وكلهم كان نداؤهم ]اعبدوا الله مالكم من إله غيره[ هود [50]، ومن منطلق العقيدة الإيمان سعوا إلى علاج الانحرافات الواقعة في مجتمعاتهم كلٌ بحسبه، فموسى عليه السلام عالج الطغيان السياسي الفرعوني وما ترتب عليه من إذلال الناس واستعبادهم على أساس الإيمان، ولوط عليه السلام عالج الانحراف الخلقي والشذوذ الجنسي في قومه، وهكذا سائر الرسل والأنبياء.
والمصطفى صلى الله عليه وسلم بدأ بالإيمان والتوحيد ثم شرعت الشرائع وفرضت الفرائض ((والدعاة عليهم أن يسلكوا سبيله وأن يقتفوا أثره بادئين بالأهم فالمهم ولكن إذا كان المجتمع مسلماً ساغ للداعي أن يدعو إلى الأهم وغيره)) بل يجب ذلك عليه ((لأن المطلوب إصلاح المجتمع المسلم وبذل الوسع في تطهير عقيدته من شوائب الشرك ووسائله، وتطهير أخلاقه مما يضر بالمجتمع ويضعف إيمانه ولا مانع من البدء بعض الأوقات بغير الأهم إذ لم يتيسر الكلام في الأهم ولا مانع أيضاً من اشتغاله بالأهم وإعراضه عن غير الأهم إن رأى المصلحة في ذلك أو خاف إن هو اشتغل بهما جميعاً أن يخفق فيهما جميعاً)) مجموع فتاوى ابن باز (1/325).
وهذا الأمر ينبغي أن يفهم فهماً صحيحاً، وأن يطبق تطبيقاً سليماً من غير إفراط ولا تفريط، فالمراد بالبدء بالعقيدة التركيز على أصولها وأركانها وهو ما يجب على المكلف اعتقاده، إذ يجب عليه ((أن يؤمن بالله ورسوله ويقر بجميع ما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما أمر به الرسول ونهى، بحيث يقر بجميع ما أخبر به وما أمر به فلا بد من تصديقه والانقياد له فيما أمر، وأما التفصيل فعلى كل مكلف أن يقر بما ثبت عنده من أن الرسول أخبر به وأمر به، وأما ما أخبر به الرسول ولم يبلغه أنه أخبر به ولم يمكنه العلم بذلك فهو لا يعاقب على ترك الإقرار به مفصلاً وهو داخل في إقراره بالمجمل العام، ثم إن قال بخلاف ذلك متأولاً كان مخطئاً يغفر له خطؤه، إذا لم يحصل منه تفريط ولا عدوان، ولهذا يجب على العلماء من الاعتقاد ما لا يجب على آحاد العامة، ويجب على من نشأ بدار علم وإيمان من ذلك ما لا يجب على من نشأ بدار جهل)) مجموع فتاوى ابن تيمية (3/327-328)، بالتالي فإن الداعية إذا علَّم الناس أصول الإيمان على الإجمال أو وجدهم بها عالمين كان الأولى به أن يركز لهم على مقتضيات الإيمان وآثاره وربط ذلك بواقع حياتهم، وهذا أجدى وأنفع من المضي بهم إلى مزيد من المسائل والفروع التي لا يحتاجها إلا طلبة العلم بل ربما المتخصصين منهم.
سابعاً: مراعاة المصالح والمفاسد:
وهذا الأمر في غاية الأهمية وذلك لأن ((الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل )) إعلام الموقعين (3/3)، وهذا مبحث دقيق ينبغي في البداية التنبه إلى أن المراد بالمصالح والمفاسد ما كانت كذلك في حكم الشرع لا ما كان ملائماً أو منافراً للطبع ولا يكون تقريرها وفق أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ودرء مفاسدها العادية (الموفقات (2/37-40) ثم النظر في تقرير المصالح والمفاسد وتقريرها والترجيح بينها يحتاج إلى تقوى لله صادقة، بصيرة علمية نافذة، ومعرفة بالواقع واسعة، ليتمكن الداعية من تحقيق مقصود الشريعة التي ((جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما)) مجموع فتاوى ابن تيمية (20/48)، والدقة في هذا المبحث تكمن في أن المعروف قد يترك فعله والحض عليه، والمنكر قد يترك النهي عنه والإنكار عليه، بل قد يُدعى إلى ترك بعض أفعال الخير، ويقصد إلى فعل بعض المنكر وكل ذلك باعتبار تحقيق المصلحة ودفع المفسدة، فعند تحقيق أعظم المصلحتين تفوت أدناهما وهي من المعروف المطلوب فعله، وعند درء أكبر المفسدتين يُرتكب أخفهما وهي المنكر المطلوب تركه، والخلاصة أن السيئة تحتمل في موضعين دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصَّل إلا بها، والحسنة تترك في موضعين، إذا كانت مفوَّتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها عن منفعة الحسنة)) مجموع فتاوى ابن تيمية (20/53).
وفقه المسألة يزيل ما قد يعلق في العقول من عجب أوشك وبيانه أنه ((إذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقُدِّم أو كدهما، لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة)) مجموع فتاوى ابن تيمية (20/57).
وهذه أمثلة عملية في هذا الباب أسوقها من كلام العلماء:
المثال الأول: يقول ابن تيمية: ((فمن كانت العبادة توجب له ضرراً يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها كانت محرمة، مثل أن يصوم صوماً يضعفه عن الكسب الواجب أو تمنعه عن العقل أو الفهم الواجب أو يمنعه عن الجهاد الواجب… وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها وأوقعته في مكروهات فإنها مكروهة وقد أنزل الله في ذلك قوله تعالى ]يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين[ فإنها نزلت في أقوام من الصحابة كانوا قد اجتمعوا وعزموا على التبتل للعبادة، وهذا يسرد الصوم وهذا يجتنب النساء فنهاهم الله عن تحريم الطيبات من أكل اللحم والنساء)) مجموع فتاوى ابن تيمية (25/272-273).
المثال الثاني: يقول ابن باز: ((أما إذا كان هجر الشخص قد يترتب عليه ما هو من فعله لأنه ذو شأن في الدولة أو ذو شأن في قبيلته، فيترك هجره ويعامل بالتي هي أحسن ويرفق حتى لا يترتب على هجره ما هو شر من منكره وما هو أقبح من عمله والدليل على ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم لم يعامل رأس المنافقين عبد الله بن أبي سلول بمثل ما عامل به الثلاثة وهم: كعب وصاحباه، بل تلطف به ولم يهجره لأنه رئيس قومه ويخشى من سجنه وهجره فتنة للجماعة في المدينة ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفق به حتى مات على نفاقه نسأل الله العافية)) مجموع فتاوى ابن باز (4/235).
المثال الثالث: قال العز بن عبد السلام: ((الكذب سيئة محرمة إلا أن يكون لجلب مصلحة أو دفع مفسدة كالكذب في حالة الإصلاح بين المتخاصمين لأن مصلحة تأليف القلوب أحسن من مفسدة الكذب، وككذب الرجل على زوجته لإصلاحها وحسن عشرتها، وكالكذب على الأعداء كأن يختبئ عندك رجل مظلوم والظالم يسألك عنه، حفظ العضو أعظم من مصلحة الصدق الذي لا يضر ولا ينفع فما الظن بالصدق الضار)) قواعد الأحكام في مصلحة الأنام للعز بن عبد السلام (ص:84).
ثامنا: مراعاة الأوقات:
والمقصود بمراعاة الوقت تخير الوقت الملائم للدعوة من حيث فراغ المدعوين واستعدادهم للتلقي، وكذا المراعاة لأوقات المواعظ والدروس، ومناسبة طول وقتها لأحول الناس، ويندرج تحت ذلك مراعاة استعداد المدعو وبلوغه المرحلة التي يكون فيها الوقت مناسباً لتفاعله واستجابته.
وشاهد الضرب الأول ما روي عن ابن مسعود: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا)) أخرجه البخاري، في كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا (الفتح) (1/161) قال ابن حجر معلقاً: ويستفاد من الحديث استحباب ترك المداومة في الجد والعمل الصالح خشية الإملال، وإن كانت المواظبة مطلوبة ولكنها على قسمين إما كل يوم مع عدم التكلف، وإما يوماً بعد يوم، فيكون يوم الترك لأجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط، وإما يوماً في الجمعة، ويتخلف باختلاف الأحوال والأشخاص والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط (فتح الباري (1/163)، وعن ابن عباس مثال آخر أشمل وأظهر إذ روي عنه أنه قال: حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات ولا تملَّ الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه (شرح السنة (1/314).
وأما الضرب الثاني فيشهد له قول ابن مسعود: ((حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم وأقبلت عليك قلوبهم فإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم))، فسئل عن علامة انصراف القلوب فقال: ((إذا التفت بعضهم إلى بعض، ورأيتهم يتثاءبون فلا تحدثهم)) شرح السنة (1/313)، ويضاف إليه ما روي عن عائشة أنها قالت لقاص أهل مكة عبيد بن عمير: ألم أحدَّث أنك تجلس ويُجلس إليك ؟ قال: بلى يا أم المؤمنين، قالت: فإياك وإملال الناس وتقنيطهم (شرح السنة(1/314) وإملال الناس يكون بإطالة الحديث في كثير من الأحوال.
وأما الضرب الثالث فمثاله ما رواه البخاري ((عن حكم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا
خير من اليد السفلى)) أخرجه البخاري، في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (الفتح)(3/393)، قال ابن حجر ((وفيه أنه ينبغي للإمام أن لا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء في حاجته لتقع موعظته له الموقع)) فتح الباري (3/ 395).
وهكذا نرى أمر المراعاة متشعباً ومهماً، والحقيقة أن المراعاة ضرب من التدرج لأن المراعاة كثيراً ما تقتضي ترك أمر لعدم ملاءمته إما للطبع أو الفهم أو الحال أو غير ذلك والاستعاضة عنه بغيره حتى يكون ممهداً لعرض الأمر المتروك فيأتي في وقته المناسب فمثلاً ((إذا كان الحكم مستغرباً جداً مما لم تألفه النفوس وإنما ألفت خلافه فينبغي للمفتي أن يوطئ قلبه ما يكون مؤذناً به كالدليل عليه، والمقدمة بين يديه، فتأمل ذكره سبحانه قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر الشبيبة وبلوغه السن الذي لا يولد فيه لمثله في العادة فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة عيسى عليه السلام وولادته من غير أب، فإن النفوس لما أنست لولد من بين شخصين كبيرين لا يولد لهما عادة، سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب)) إعلام الموقعين (4/163).
وهذه أمثلة رويت عن عمر بن عبد العزيز في مراعاته لأحوال الأمة فيما سبقه من الزمن وحرصه على التدرج في الإصلاح.
1- حكي ((أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – قال يوماً لأبيه عمر: مالك لا تُنفذ الأمور ؟! فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق !! قال عمر: لا تَعجَل يا بني، فإن الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة)) الموفقات (2/93-94).
2- قال له ابنه ذات يوم ((يا أبت: ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل ؟ فو الله ما كنت أبالي لو غَلت بي وبك القدور في ذلك.
قال: يا بني، إنِّي إنما أروِّض الناس رياضة الصعب، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعاً من طمع الدنيا فينفروا من هذا، ويسكنوا لهذا ))
3- روي أن ابنه دخل عليه فقال يا أمي المؤمنين: ما أنت قائل لربك غداً، إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها، أو سنة فلم تُحيها ؟ فقال أبوه: رحمك الله وجزاك من ولد خيراً يا بني، إن قومك قد شدوا هذا الأمر عُقدة عقدة، وعروة وعروة، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقاً يكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يراق في سببي محجمة من دم، أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا هو يميت فيه بدعة ويحي فيه سنة ؟ تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص: 240) وغني عن التنبيه أن التدرج يمكن أن يكون تهاوناً وتفريطاً وأن المراعاة لا يصح أن تكون مداهنة ونفاقاً.
________________________
المصدر: كتاب مقومات الداعية الناجح للدكتور بادحدح.
[ica_orginalurl]