أ. حسين شعبان وهدان
إننا أمةٌ جمعها الله من شتاتٍ، ووحد عناصرها بعدَ فُرْقَةٍ وأعادها إلى مجدها بعد اغترابٍ طويلٍ مع الزمان قبل الإســلام، ثم أرسى لها قواعدَ السلامةِ في دينها ودنياها والتي من أهمها الوحدةُ العامة التي يجب ألا ينسى مذاقها الفرد في قلب المجتمع والمجتمع كله وهو يتعامل مع الفرد.
ومن عظمة هذا الدين أنه لا يترك فرصةً إلا واغتنمها في إشاعة روح الوحدة العامة بين أفراد الأمة بكل وسيلةٍ وفي أيِّ مناسبةٍ.
خطب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بالجابية فقال: يا أيها الناس، إني أقمت فيكم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال: “أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته، وساءته سيئته، فذلكم المؤمن” (الألباني في صحيحي الجامع 2546 بسندٍ صحيحٍ عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه).
ورمضان الكريم في كوثرية عطائه يفيء علينا ما يجب الالتفات إليه من معالم الوحدة المفروضة لا اختيار للعباد فيها؛ فالوحدة فريضةٌ والتفرق بلوى وانتكاسةٌ إيمانيةٌ لا يمكن رتقها بأي بدائل أخرى ولو كانت من جلائل الأعمال وكريم الخصال ونقاء السرائر.
إن ذلك كله لا يغني عن وجوب التواصي والعمل بمبدأ الوحدة العامة بين المسلمين وغرس هذا الشعور بكل الطرائق المقنعة والمؤثرة حتى تنقشع غياهب الجهل وضيق الأفق عن عيون كثيرٍ من العاملين الآن في الساحة باسم الإسلام والذين لا يرون نجاح هذا الدين إلا من خلال أنفسهم فقط، ولا يستشعرون الخسار والضياع إلا إذا مسهم هم فقط ومن يلتفون حولهم، أما البقية الباقية خلافهم فهم لا يستحقون هذه المشاعر ولا يمكن أن يتوحدوا معهم في أي عملٍ أو نشاطٍ أو حتى فيما يستكن في السرائر.
الوحدة واجبٌ والتزامٌ يجب أن يحرص عليه المسلم كما يحرص على صرامة الأداء لشتى العبادات {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)، وهذا الدين العظيم الذي أمرنا بالصلاة والزكاة والحج والصيام وسائر العبادات هو ذاته الذي أمرنا بالالتفاف حول رايةٍ واحدةٍ للمجموع العام للأمة بطريقةٍ متفردةٍ في صياغة معالم هذه الوحدة التي لم يسبق إليها نظامٌ في العالمين.
رسائل الوحدة
ورمضان يحدو للمؤمنين على سبيل الهدى والرشاد نشيد الجمع والتلاقي مع نبذ التفرق، ناهيك عن التضاغن والإرجاف، وإن المتأمل لعطاءات هذا الشهر المبارك يجد أن أعظم رسائله إلى الأمة هي رسائل الوحدة والحب وكأنه قائمٌ بأمر الله في تجميع الأشتات بالتقائها على:
– الجمع على الإفطار والإمساك؛ فالإفطار والسحور من أسباب الجمع على الموائد بعد أن كان الجلوس عليها من ذي قبل في غير رمضان فرادى أو يزيد لكثرة الشواغل وأسبابٍ أُخَرٍ، وسياق الحال يدل على رمزيةٍ ملهمةٍ بأن رمضان يجمعنا حتى على الموائد.. فاجتمعوا ولا تتفرقوا بعد ذلك.
– الجمع على القيام في صورةٍ تُكسب النفس روح الإخبات لرب الأكوان من المجموع لا من الفرد لأن الفرد لن يتذوق هذا المذاق الإيماني الآثر إذا صلى وحده.. فأنعم بها من عبادةٍ جامعةٍ.
– الجمع على القرآن ومجالسه ومدارسته وما يفيئه على نفوس المسلمين من التلاقي على مائدته وعوائدها الموقوفة على كتاب الله العزيز.
– الجمع على حلقات العلم والتعلم وثني الركب أمام العلماء ليزداد الجميع نوراً في القلوب وانشراحاً في الصدور، ومن ثم استلام الدستور الذي يجب التعامل به بين الجميع.
– الجمع على معنى صلة الرحم والإحسان إلى الجيران بمزيد الكرم.
– الجمع العام للمجتمع في عاداتٍ لا يمكن وصفها إلا بأنها مزيلات أسباب الشقاق.
– درس الوحدة من زكاة الفطر بوحدة المشاعر الحية بعطف الغني على الفقير.
وباختصارٍ فإن رسائل الوحدة في رمضان لا تنتهي، لكنها لا تصل إلا إلى كل قلبٍ سليمٍ خالِ من الأوضار والعلل.
مظاهر سلبية
ومع أن هذه رسائل رمضان وهذا نهجه الكريم فمع الأسف المحبط لأشواق الحالمين بالتوحد والتلاقي فقد نجح الشيطان نجاحاً قد يكون مؤقتاً أو يدوم عند البعض في تذويب عناصر الوحدة بين المؤمنين بل والصائمين في رمضان، ولندرك بيان المعنى بالمثال:
– عدم الاتفاق على بداية الشهر، فهل هذه ضرورةٌ وقدرٌ ليس لنا أن نحيدَ عنه؟ أم من الممكن أن نعيد تفكيرنا بشكلٍ ناضجٍ تجلله التقوى؟.. أما آن الأوان؟
– عدم الالتقاء على هدفٍ واحد لإصلاح المجتمع بخططٍ لا تعرف الإطارات الفارقة بين المسلمين، حيث إن رمضان تجميعٌ للجهد كما هو حشدٌ لطاقات المجتمع الإيمانية، والجهد المقسَّمُ لا يعطي إلا نتائج هزيلةً لا تتفق مع الإمكانيات المأهولة لكل مجتمعٍ بأسره، والسبب هو التفرق والتنائي كأن كلَّ من يعمل باسم الإسلام كأنَّهُ يعمل في صحراء لا أحد معه ولا يرى أحداً حوله، ففي القرية الواحدة والمدينة الواحدة بل والحيّ الواحد يروم كثيرٌ من المسلمين عمل الخير بطريقةٍ فرديةٍ لا تحقق المصالح العامة للمجتمع على النحو المنشود كما لو أنهم اجتمعوا وتفاهموا قبل أن ينشطوا على فُرقةٍ.
– عدم إذابة ما ران على الصدور من دغلٍ وأحقادٍ تفرق الخطى وتنذر بالخراب المادي والمعنوي!، والأنكى من ذلك هو عدم مجاوزة الحفرة التي وقع فيها كثيرٌ من المسلمين من إثارة الحفائظ وتعكير النفوس برديء النقول من عفن الكلام وإشاعة البغض والخصام، أما لكم من رمضان معلم هداية؟.
رمضان يمنح رسائل للقلوب للدلالة على هداها وراحتها.
ومنها أن الوحدة فرحةٌ وحبورٌ وسعادةٌ وأن التفرق انتكاسةٌ إيمانيةٌ وشقاءٌ، فكيف نشقى وقد أتانا رمضان جامع أشتات الخير؟!.
إلى جميع القائمين لله بأي أمرٍ من دعوةٍ أو خدمةٍ أو ثقافةٍ أو تثقيفٍ أو تربيةٍ بأن يتزودوا من زاد هذا الشهر الكريم ثقافة توحيد الجهود والقلوب وضبط الخطى جمعاء على دربٍ واحدٍ لمصلحة الجميع.
فلو كان لرمضان لسانٌ ينطق لأمرنا بتقوى الله في أمر الجماعة المسلمة الكبرى والتي لا تعرف الألوان والواجهات المميزة.
ارحموا أمتكم باجتماعكم وعدم تفرقكم.
وإلى مدعي الفهم والصلاح والتقوى، زاوجوا بين الادعاء ودليله المقنع.
تذوقوا طعم الوحدة ولو مرةً واحدة بعدما حرمكم هذه المشاعر تربيةٌ موغلةٌ في التفرق، أو صحبةٌ لا ترى نجاح الإسلام إلا في أشخاصها، أو طول البقاء على منابعَ ثقافية تلهم أن النجاة تكمن في الغرق، تذوقوا طعم الوحدة الذي من لم يذقه فإنه محرومٌ بعين يقين المعنى.
والله لإن قابل الإنسان ربه بكل معنىً صالح وله رصيدٌ من روائع العبادات التي لا تهدأ منها الليالي والأيام، ولكن قلبه متجانفٌ للفرقة والانزواء والتشرذم لمصلحة جماعته أو عائلته أو قُطره مع إغفال أمور الأمة وقضاياها الكبرى فإنه على خطرٍ عظيمٍ في دينه، لأن العمل لله لا تضمُّه هذه المشاعر العمياء في إطارٍ مسجونٍ.
فهل من الممكن أن يتحرر الغارقون عقلياً ونفسياً في بحار الفرقة ويفهموا رسائل رمضان في أمر الوحدة؟ أرجو ذلك.
——
* المصدر: موقع منارات.
[ica_orginalurl]