الأمر الوارد في تلك الآية الكريمة بصحبة الصادقين والاقتداء بصدقهم موجه لعموم المؤمنين: (ولهذا قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ” أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من أهله وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجا من أموركم ومخرجا)(تفسير ابن كثير، ط العلمية، ج4، ص204). وهو يندرج ضمنالمنظومة الأخلاقية الإسلامية التي تخير الإنسان بين الالتزام بالأخلاق الحسنة وملازمة أهلها، في الدنيا ثم في جنة الآخرة، أو السقوط في مستنقع الأخلاق المذمومة وملازمة أصحابها، فيخسر معهم الدنيا ثم يصاحبهم في جحيم الآخرة…
(مقتطف من المقال السابق)
د. حازم علي ماهر*
من الصدق إلى المصداقية!
المصداقية لغة، هي: مطابقة الفعل للقول، وتعني جدارة الشَّخص أو الأمر بأن يكتسب الثِّقةَ..”(معجم اللغة العربية المعاصرة) أي أن الذي يصدقه الناس ينال ثقتهم، والذي يكذبونه يفقد المصداقية عندهم، سواء كان ذلك بالحق أو بالباطل.
وقد يحدث أن ينجح الإنسان في اختبار الصدق، عسى أن يكتب عند ربه صِدِّيقًا، إلا أنه يفاجَأ بأن كثيرا من الناس لا يُصدِّقون صدقه، فيتعاملون معه وكأنه (كذاب)، لا يختلف عن كثيرين غيره، وتلك آفة بعض مجتمعاتنا المعاصرة؛ أن الصادق فيها يكذب، بينما قد يصدق الكاذب لسلطته أو لماله أو لحسبه..، لينطبق على عصرنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ) قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: “الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ” (سنن ابن ماجة).
وفقدان المصداقية لا ينتج فقط بسبب تلوث المحيطين بالصادقين أو انطماس بصيرتهم، بل قد ينتج عن قصور ما في الملتمسين للصدق أو المدعين له، كأن تنحرف بوصلتهم، فيبتغون به مرضاة الناس شركًا بالله عز وجل، أو يتذبذبون بين الصدق والكذب، أو يقولون ما لا يفعلون إصرارًا وتكرارًا، أو يضمرون في سرائرهم ما يناقض علانيتهم غالبًا، أو يتوهمون أن كذبهم (أبيض) لا ضير فيه طالما كان هو السبيل الوحيد للتمكين في الأرض لنصرة الدين الحق والعدل في زعمهم!
ولتجدن أكثر الناس الذين يفتقدون المصداقية هم هؤلاء الذين يمارسون السياسة بقواعدها الميكافيلية التي تقوم على أن الغاية تبرر الوسيلة، وتستبيح الكذب لتحصيل المنافع المادية وكسب أصوات الناخبين أو نيل ثقة المواطنين عمومًا، فيزعمون أنهم هم الصادقون، بينما هم -في حقيقتهم- منافقون، يظهرون ما لا يبطنون.
والمؤسف أن البعض من هؤلاء السياسيين يظنون أن الحفاظ على مصداقيتهم وثقة الناس في وعودهم بالصلاح والإصلاح لا يكون إلا بمزيد من الكذب، والإحجام عن اتهام النفس ونقد الذات، أو على الأقل بإنكار المسئولية عن فشلهم –القاتل أحيانًا- وعزوها إلى المؤامرات الكونية التي يبدو أنها جُعلت فقط للفشلة من سياسيي المسلمين، الذين يكادون يدَّعون العصمة، وينكرون كل خطأ، ولو ثبت ثبوتًا يقينيًا!
وقد يستغرب البعض حرص الناس جميعًا، وليس السياسيين فقط، على عدم خسارة ثقة الآخرين فيهم، ظنًا منهم أن ذلك ينافي الإخلاص الواجب في الالتزام بالقيم وبالدين بصفة عامة، غير مدركين أن هذا الحرص قد يكون نابعًا من الإخلاص لا الرياء، لكون المصداقية هي إحدى العوامل الأساسية المتطلبة لجذب الناس للالتزام بالأخلاق وتجنب نفورهم منها ومن الداعين إليها، ومن هذا المنطلق ممكن أن نفهم –مثلا- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تجنب الشبهات التي قد تسيء لصورته النقية أمام الناس -وهو خيرهم- حتى لا ينفضوا من حوله بإساءة ظن أو ضلال فهم؛ مثل تجنبه الأمر بقتل المنافقين على الرغم من وصول بعضهم إلى درجة خيانة الله ورسوله، حتى (لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه) (جزء من الحديث الذي رواه الشيخان)، ومثل تحاشيه هدم الكعبة وإعادة بنائها على أساس إبراهيم عليه السلام؛ لأن قومه كانوا حديث عهد بجاهلية ولن يتقبلوا هذا الأمر بسهولة (صحيح البخاري)، ومثل مسارعته إلى إبلاغ الصحابيين أن المرأة التي تقف معه هي زوجته صفية حتى لا يوقع الشيطان في أنفسهما شيئًا (صحيح مسلم).
والملاحظ –كذلك- أن هناك غريزة فطرية في عمق كل إنسان تدفعه إلى الحرص على كسب إعجاب المحيطين به، ومقاومة أي تشويه لسمعته فيما بينهم، فتراه يكره أن تذكر سيرته فيما بينهم بسوء، وهو أمر أخذته في الحسبان الأحكام الشرعية والقواعد القانونية الوضعية حين حرَّمت جميعها جرائم القذف في حق الناس، والتي مؤداها أن يُنسب للمقذوف في حقه –أو في حقهم- ما لو صدق لوجب احتقاره فيما بين الناس، بل وزادت الشريعة الإسلامية على ذلك بتحريم الغيبة والنميمة والبهتان، حفاظًا على سمعة الناس وحماية لأعراضهم، كما اعتدَّت بكراهية الإنسان لاطلاع الناس على فعل ما، معيارًا على أنه من الأفعال الآثمة، مصداقًا لما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم -الذي رواه مسلم-: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس).
ولقد أصبح اطلاع الناس على خصوصيات الآخرين، حسنًا أو سيئًا- متاحًا بشكل أكبر من أي عصر آخر، لاسيما من خلال أجهزة الاتصال الحديثة ووسائل التواصل المختلفة، التي سهلت من عمليات التجسس على المستخدمين من جهات مختلفة، أمنية وتجارية…، وهو أمر يدعو للحيطة والحذر، ولكنه يدعو كذلك إلى التزام الصدق والاتسام بالشفافية –قدر الاستطاعة- باعتبارها هي السبيل الآمن لحفاظ الإنسان على حسن صورته ومثاليتها، وإلا فقد ينفضح في قعر بيته!
فحفاظ الإنسان على مصداقيته كاملة في هذا العصر بات يستلزم مجاهدة النفس والعمل المستمر والدؤوب للوصول إلى الدرجة القصوى من الاتساق مع الذات، والتفوق الأخلاقي، فضلا عن الوفاء بالعقود والعهود مع الآخرين، والسعي الدائم للفعالية والإنجاز كل في مجاله؛ لأن هؤلاء هم من يحصلون على ثقة الآخرين، فيبلغون درجات من التأثير عليهم لا يبلغها سواهم، لا أولئك الذين لا ينتجون إلا كلامًا مجردًا لا يصدقه عمل، بل قد يكذبه، ولذا قيل قديمًا: حال رجل في ألف رجل، خير من قول ألف رجل في رجل!
ويمكن الاستعانة بدراسة النماذج الرائعة من الشخصيات التي استطاعت بناء مصداقيتها، واستثمارها في تنمية الإنسان، وتقوية الإيمان، بل وفي تبوئ المناصب والقيادة في المجالات المختلفة، وذلك للاحتذاء بها والاقتداء بسيرتها وبحرصها على الصدق إلى الحد الذي فتح لها قلوب الناس فنالوا ثقتهم، وهو الأمر الذي يحسن التوقف عنده في المقال المقبل عسى أن يكون خير ختام لهذه السلسلة من المقالات المتعلقة بقيمة الصدق.
لمطالعة بقية أجزاء السلسلة يمكن للقارئ الكريم زيارة العناوين التالية:
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (1)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (2)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (3)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (4)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (5)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (6)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (7)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (8)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (9)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (10)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (11)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (12)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (13)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (14)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (15)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (16)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (17)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (18)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (19)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (20)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (21)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (22)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (23)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (24)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (25)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (26)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (27)
____________________________________
[ica_orginalurl]