الجاذبية .. طالما وجدت كقانون؛ فالكون يستطيع وسيقوم بخلق نفسه من لا شيء! الخلق التلقائي هو سبب وجود شيء بدلا من لا شيء.. ليس لزاما أن نقحم إلاها ليبدأ عمل الكون!!!
مصطفى نصر قديح
طالعت مؤخرًا كتاب (التصميم العظيم) أو (The Grand Design) من تأليف الفيزيائيَّين ستيفن هوكينج و ليوناردو ملودينو..
والكتاب يحوي في طياته نقض فكرة الإله جملة وتفصيلًا، ويصف الإله بأنه مجرد فكرة ليس لها أي أساس علمي وأن العلم ينفي وجوده مطلقا. هكذا زعم المؤلفان وهكذا دائما يزعم هوكينج، وحاول أن يستدل على صحة ما ذكره بمجموعة من النظريات والقوانين العلمية التي تعد أحد أعمدة الفيزياء، فهل نجح في ذلك أم جانبه الصواب ؟!
دعونا نناقش سويًا ما طرحه ستيفن هوكينج في كتابه، بموضوعية وحيادية، وفي ضوء الأدلة العلمية التي توصل إليها العلم، وننظر في صحة كلامه من عدمه.. هل ما قاله بُني على أساسٍ علمي تقره الفيزياء أم أن العكس صحيح؟ وهل كان موفقًا في طرحه واستدلالاته وما ذهب إليه؟ هذا ما سنتعرض له في موضوعنا..
يقول هوكينج في كتابه التصميم العظيم في ص142:
“لأنها تشكل الزمان والمكان، فإن الجاذبية تسمح لهما باستقرار موضعي، وعدم استقرار عالمي. وعلى نطاق الحديث عن الكون بأكمله، فإن الطاقة الموجبة المتمثلة في المادة يمكن أن تكون في توازن مع الطاقة السالبة المتمثلة في الجاذبية، وبذلك فإنه لا قيود تمنع من تخليق أكوان كاملة”.
“طالما أنه يوجد قانون كالجاذبية، فالكون يستطيع وسيقوم بخلق نفسه من لا شيء! الخلق التلقائي هو سبب وجود شيء بدلا من لا شيء.. ليس لزاما أن نقحم إلاها ليبدأ عمل الكون”.
يدّعي هوكينج هنا أن سبب خلق الكون هو وجود قوة الجاذبية، ويدفعنا ذلك إلى التساؤل.. ما هي الجاذبية؟!
ما هي الجاذبية ؟
الجاذبية هي ميل (الكتل والأجسام) للتحرك والانجذاب نحو بعضها البعض -كما في الجاذبية بين الأرض والشمس مثلا- وكمحاولة لوصف قوى الجاذبية بين الأجسام غير المشحونة، استنبط نيوتن قانون الجذب العام من خلال مشاهدات فلكية عديدة.
حيث ينص قانون الجذب العام لنيوتن: “إنّ كل جسم يجذب جسمًا آخر في الكون بقوة محمولة على الخط الواصل بين المركزين، وشدتها متناسبة طرديًا مع كتلتيهما وعكسيًا مع مربع المسافة بينهما“.
- الصورة القياسية لقانون الجذب العام لنيوتن، حيث:
– هي عبارة عن القوة الناتجة عن الجاذبية
– هو ثابت الجذب العام بين الكتل
– هي كتلة الجسيم الأول
– هي كتلة الجسيم الثاني
– هي البعد بين الجسيمين
يتبين لنا من التعريف السابق أن الجاذبية ناشئة عن المادة، طارئة عليها، حيث وُجدت الأجسام (الكتل) أولًا ثم عملت الجاذبية على ربطها ببعض..! وهذا هو مفهوم نيوتن عن الجاذبية.
وبعد أن تعرضنا لمفهوم الجاذبية وقانون الجذب العام، هيا بنا الآن عزيزي القارئ لنرى كلام هوكينج عن خلق الجاذبية للكون! حيث يقول هوكينج في بداية كلامه:
“إن الجاذبية هي التي تشكل الزمان والمكان (الزمكان)” وهذا صحيح، فوجود الجاذبية هو السبب في ربط الكتل مع بعضها البعض، بل وربط الزمان بالمكان -كما بين آينشتاين- وهذا ما سنعرفه بعد قليل، ولكن دعنا نكمل كلامه، حيث يقول:
“وعلى نطاق الحديث عن الكون بأكمله، فإن الطاقة الموجبة المتمثلة في المادة يمكن أن تكون في توازن مع الطاقة السالبة المتمثلة في الجاذبية، ولذلك فإنه لا قيود تمنع من تخلق أكوان كاملة” هذه جزئية سنتعرض لها فيما بعد عندما نتحدث عن نظرية الأكوان المتعددة، ونظرية إم M-Theory (واحدة من الحلول المقترحة لنظرية كل شيء TOE) تفصيليا، ولكن دعنا نعرض الجزء الذي ارتبط بكلامه الأول؛ ألا وهو:
“طالما أنه يوجد قانون الجاذبية فإن الكون يخلق نفسه من لا شيء“
حيث لا أعلم أين الأساس العلمي الصحيح الذي بنى عليه هوكينج كلامه هذا؟!. إذ بعد أن تعرضنا لكلام نيوتن وتعريفه للجاذبية، نجد أن أطروحات هوكينج تعارض ما طرحه نيوتن حول الجاذبية وفهمه لها، حيث يقول نيوتن إن الجاذبية هي عبارة عن:
“قوة بين أجسام مادية“، وبالتالي فإنها وجدت بعد وجود الأجسام لا قبلها، فوجودها مترتب على غيرها، لا العكس.. ولأن فهم نيوتن عن الجاذبية لم يكن مكتملا، لنذهب إلى أينشتاين ومفهومه الأوضح وتفسيره الأصح عن الجاذبية. ففي أوائل القرن العشرين، وفي بحثين نُشر أولهما في عام 1905، وثانيهما في عام 1915، قام الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين بتغيير مفهوم الجاذبية. فحسب نظرية نيوتن كانت الجاذبية هي قوة، بينما أثبتت النسبية أن الجاذبية هي مجال، فحسب النسبية: (الجاذبية هي عبارة عن انحناءات في الفراغ تُسببها الكتلة، فكلما كانت كتلة الجسم أكبر كلما كان انحناء الفضاء حوله أكبر. والأجسام الأقل كتلة سوف تقع في هذا الانحناء الذي صنعه الجسم الأول، وبالتالي سيأسرها بجاذبيته). وهو ما يعرف بنظرية النسبية لأينشتاين، وبالتدقيق في تعريف أينشتاين، نجد ثلاثة أشياء في غاية الأهمية قد ذكرها واستنتجها من مفهومه للجاذبية:
أما الأول: فهو الفراغ؛ وهنا ربما يتصور البعض أن الفراغ هو العدم، وهذا خطأ بالطبع لأن العدم هو اللاشيء، أي ليس هناك شيء لا مادة ولا طاقة، بل ولا حتى فراغ، فالفراغ الذي يقصده أينشتاين هو الفراغ الفيزيائي، ويمكن تعريفه بأنه “المكان أو الحيز الخالي من أي مادة أو طاقة، سوى جزء ضئيل جدا من الطاقة” حيث لا يوجد ما يسمى فراغًا كاملا، فلم يستطع أحد إفراغ حيِّز ما من كل جزيئات الطاقة (المادة)، أي في كل الأحوال فإنه سيحتوي على جزء -ولو ضئيل جدا- من الطاقة.
وأما الشيء الثاني الذي أثبته أينشتاين: فهو المجال؛ والمجال هو المنطقة التي تظهر فيها آثار الشيء، كالمجال المغناطيسي مثلا، فهو المنطقة التي تظهر فيها آثار المغناطيس، ولأنه لا يوجد مجال دون شيء ناتج عنه بالمثل، فالجاذبية هي الأخرى لا يمكن أن توجد دون أن يوجد ما نتجت عنه، وهو المادة (الكتلة).
ثالثا: حسب نسبية أينشتاين؛ فالجاذبية هي عبارة عن انحناءات في الفراغ تُسببها الكتلة، وبإلقاء الضوء على هذه الجملة جيدا، وبالأخص آخر كلمتين (تُسببها الكتلة)، والضمير في تسببها عائد على الجاذبية، نجد أن الجاذبية ناتجة عن وجود الكتلة وليس العكس! فعلى حسب كلام كلا من نيوتن وأينشتاين، يتبين أن الجاذبية ما هي إلا قوة ناشئة عن الكتلة (مفهوم نيوتن)، أو مجال ناتج عن وجود الكتلة (مفهوم آينشتاين)، وهو ما يجعل كلام هوكينج غير مقبول لأنه جعل الجاذبية المتولدة بسبب وجود المادة خالقة للمادة.
وكما أنه من المعروف أن بداية الكون والزمان، والقوى الأربع بما فيها الجاذبية هو الانفجار الكبير، فالحديث عن ما قبل الانفجار الكبير هو شيء خارج نطاق قوانين الفيزياء.
يجدر بنا أيضا الحديث أنه حتى في الأوساط العلمية لم يلقى كتاب هوكينج “التصميم العظيم” قبولا يذكر، ونرى ذلك واضحًا في آراء بعض العلماء، نذكر هنا بعضها فقط..
(1). يقول البروفيسور باول ديفيز الفيزيائي الإنجليزي في صحيفة الجارديان منتقدًا هوكينج بشدة:
“تبقى القوانين المطروحة غير قابلة للتفسير، هل نقبلها هكذا كمعطى خالد؟ فلماذا لا نقبل الله؟ حسنا وأين كانت القوانين وقت الانفجار الكبير؟ إننا عند هذه النقطة نكون في المياه الموحلة (1)”
(2).أيضًا يقول الفيزيائي وعالم الفضاء مارسيلو جليسر:
“إن ادعاء الوصول لنظرية نهائية يتنافى مع أساسيات وأبجديات الفيزياء والعلم التجريبي وتجميع البيانات، فنحن ليس لدينا الأدوات لقياس الطبيعة ككل فلا يمكننا أبدًا أن نكون متأكدين من وصولنا لنظرية نهائية، وستظل هناك دائما فرصة للمفاجآت كما تعلمنا من تاريخ الفيزياء مرات ومرات، وأراها ادعاء باطل أن نتخيل أن البشر يمكن أن يصلوا لشيء كهذا.. أعتقد أن على هوكينج أن يدع الله وشأنه (2)”
(3).عالم الفيزياء النظرية بيتر ويت من جامعة كولومبيا:
“لست من أنصار إدخال الحديث عن الله في الفيزياء، لكن إذا كان هوكينج مصرا على دخول معركة الدين والعلم، فما يحيرني هو استخدامه لسلاح مشكوك في صلاحيته أو فاعليته مثل النظرية إم (3)”
(4).كما أفردت جريدة الإيكونومست حديثا عن كتاب هوكينج، ووصفت كلامه بغير القابل للاختبار.. مضيفة:
” يبدو أن الفلسفة حلت محل العلم (4)”
(5).الفيلسوف الأمريكي ويليام كريج يقول ساخرا هو الآخر:
“لا شيء جديد علميًا في هذا الكتاب بالمرة، ولكن نقاش فلسفي بحت خصوصًا في الثلث الأول! وهو شيء غريب إذا علمنا أن هوكينج في أول صفحة من كتابه يقول: إن الفلسفة قد ماتت (5)”
(6).كما يقول محمد باسل الطائي أستاذ الفيزياء الكونية بجامعة اليرموك بالأردن:
“قوانين الفيزياء على الحقيقة بحاجة إلى مُشغل، هذا ما نتعلمه من ميكانيكا الكم، فجميع الصياغات القانونية في ميكانيكا الكم تتخذ الصياغة الرياضية الإجرائية (Operator formulation) وهذه الصياغة تخفي في مضمونها وجود المُشغل، ومن جانب آخر فإن جميع الفيزيائيين الدارسين لميكانيكا الكم يعلمون أن الصفة المؤسسة لميكانيكا العالم وظاهرات العالم هي الصفة الاحتمالية وليست الحتمية، أي أن نتائج فعل قوانين العالم (القياسات) ليست حتمية بل هي احتمالية، هذه الحقيقة تغيب عن عقل واينبرج، وعن عقل هوكينج حين يتحدثون عن الله (6)”
بروفيسور الرياضيات جون لينوكس والذي أفرد كتابًا بعنوان “الإله وستيفن هوكنق.. لمن التصميم إذاً؟” يحدثنا قائلا:
“إن القول بأن الفلسفة قد ماتت، خطير جدًا، خصوصًا عندما لا تتوقف أنت نفسك عن استخدامها، ولأن هوكينج لديه فهم مغلوط لكل من الفلسفة والدين، فهو يريدنا أن نختار بين الله وقوانين الفيزياء، إن القوانين الفيزيائية لا يمكن أن تخلق شيئا فهي مجرد الوصف الرياضي للظواهر الطبيعية، فقوانين نيوتن للحركة لن تدفع كرة البلياردو على الطاولة بدون لاعب يضربها، القوانين لن تحرك الكرة فضلا عن خلقها.. إن ما يقوله هوكينج خيال علمي بحت.
من أين جاءت الخطة الكونية التي تحدث عنها هوكينج؟ إنها ليست من الكون حتما، فمن جعلها تعمل إن لم يكن الله؟ إن محاولة العلماء الملحدين الهروب من فكرة الخالق يجعلهم يعزون الوجود لأشياء أقل مصداقية كالطاقة والقوانين أو الكتل! بالنسبة لي: كلما زاد فهمي للعلم كلما زاد إيماني بالله، لتعجبي من اتساع وتعقيد وتكامل خلقه (7)”
ولعل السؤال المطروح بشدة الآن، أيهما وُجد أولا: الجاذبية أم المادة؟!
فإن قلنا الجاذبية كما يدعي هوكينج، وأنها سبب خلق الكون نفسه، فمن أين جاءت؟ ومن الذي كتب لها القانون الذي تسير عليه؟ وإن كانت المادة هي من وُجدت أولا (حسب ما فسره نيوتن وأينشتاين) فلا يوجد أي حجة لهوكينج فيما ذهب إليه، ويصبح مقاله مجرد فلسفة لا دليل على صحتها، وعلى عكس ما ذكره لنا في كتابه بأن الفلسفة قد ماتت!
_________________________________
المراجع:
(1) Paul Davies, “Stephen Hawking’s big bang gaps”, The Guardian, Saturday 4 September 2010.
<www.theguardian.com/commentisfree/belief/2010/sep/04/stephen-hawking-big-bang-gap>
(2) Marcelo Gleiser, “Hawking And God: An Intimate Relationship”, September 09, 2010.
<www.npr.org/blogs/13.7/2010/09/08/129736414/hawking-and-god-an-intimate-relationship>
(3) Peter Woit, “Hawking Gives Up”, Posted on September 7, 2010.
<www.math.columbia.edu/~woit/wordpress/?p=3141>
(4) “Even Stephen Hawking doesn’t quite manage to explain why we are here”, The Economist Newspaper, Sep 9th 2010.
<www.economist.com/node/16990802?story_id=16990802>
(5) The Grand Design: A Critique (1 of 3) – Youtube
<www.youtube.com/watch?v=OSYmBsGIeT8>
(6) محمد باسل الطائي، “ستيفن هوكينج وخلق العالم؟”، الحوار المتمدن- العدد: 3150 – 2010 / 10 / 10.
<www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=231582>
(7) John C. Lennox, “God and Stephen Hawking: Whose Design Is It Anyway?”, Lion UK (September 1, 2011).
____________________________
المصدر: موقع براهين
[ica_orginalurl]