-
منتصر الخطيب
يعد فن البحث والمناظرة، وما يتطلبه من آداب ومنهجيات خاصة، من المباحث والفنون العلمية التي اهتم بها علماء الإسلام قديما وحديثا، ودرسوها دراسة مستوعبة، وتعمقوا فيها ومارسوها نظريا وعمليا؛ بهدف توسيع آفاقهم وصقل مداركهم وإقناع الغير بآرائهم واجتهاداتهم، ومن ثم تعاطوا مع هذا الفن ومارسوه في مختلف العلوم الشرعية واللغوية، ولم يخل أي عصر من العصور الإسلامية من وجود مناظرات ومحاورات ومناقشات في هذا العلم أو ذاك، وبين هذا أو ذاك، أو في هذه المسألة أو تلك من المسائل التي تكون مجال بحث ومناظرة تثري البحث العلمي وتبين قيمة فكر هؤلاء العلماء الأجلاء.
ولئن كان فن البحث والمناظرة وآدابه ومنهجه قد عرف بين العلماء واشتهر في بلاد الشرق الإسلامي، فإنه عرف وانتشر كذلك في بلاد الغرب الإسلامي – المغرب والأندلس – بحكم ما أنجبت هذه البلاد من علماء كبار، التقى علمهم بعلم الشرق، فكون ذلك الرصيد العلمي الهائل، والثراء الفكري والحضاري الكبير الذي لايزال جله حبيس المخطوطات.
يقول أبوزهرة: “وقد عُني العلماء في الإسلام بالجدل والمناظرة عناية شديدة من يوم أن نشب الخلاف الفكري بين العلماء ورجال الفكر في هذه الأمة، وانتهت عنايتهم بوضع قواعد لتنظيم الجدل والمناظرة، لكي يكونا في دائرة المنطق والفكر المستقيم، أسموها علم الجدل أو علم أدب البحث والمناظرة”(1).
وهكذا اندرج المسلمون والنصارى بالأندلس معا ضمن ذلك التقليد، وأسهموا في هذا الرصيد التاريخي والثقافي والمعرفي بها. وقد جمعت المناظرة الدينية بين الإسلام والنصرانية منذ أن اضطرهما التاريخ إلى الالتقاء ببعضهما، فدفعت بالإسلام والمسيحية إلى الانخراط معا في تقليد التعايش والمثاقفة بينهما على أرض الأندلس. ولقد عبرت عن أجزاء من تمظهرات هذا الواقع، أعداد من كتب المناظرات الدينية التي كانت تعقد باستمرار، عمل بعض المهتمين بموضوعها على إخراج بعض متونها وتحقيقها؛ ومن بينهم يمكن أن نذكر عبدالمجيد التركي، وعبدالمجيد الشرفي، وأحمد حجازي السقا، ومحمد رزوق، وغيرهم.
يقول د. عبدالواحد العسري: «لم تتبلور بالأندلس مناظرات جدلية دينية بين النصارى والمسلمين خلال الفترة نفسها التي ظهرت فيها بالشرق الإسلامي، بيد أنه بمجرد ما وصلت رسالة عبدالمسيح الكندي إلى الأندلس، أخذ النصارى في إنتاج ردود ضد الإسلام على منوالها، ووفقا لمحتوياتها. ولقد دافع «فان كونينكز فلد» على هذه الأطروحة وانتصر لها، معززا ذلك بشواهد تاريخية ونصية متعددة» (2).
ويعد كتاب أبي الوليد الباجي (ت 474هـ) «المنهاج في ترتيب الحجاج» أهم الكتب التي اعتنت بفن المناظرة والجدل، ويعتبر الباكورة في هذا الفن في الغرب الإسلامي/الأندلس؛ موطنه، وقد اتسم الباجي بطابع الثقافة الفقهية الأصولية الجدلية الشاسعة والجامعة، فهو الفقيه المالكي الوحيد الذي استطاع أن يجادل الفقيه الظاهري ابن حزم في المجالس التي كانت تعقد بدعوة من الأمير ابن رشيق، بعد رجوعه من رحلته المشرقية، كما شهد بذلك مؤرخ المالكية القاضي عياض في ترتيب المدارك. وقد ذكر الباجي ذلك في مقدمة كتابه فقال: «ولو تأملت ما في كتابنا هذا من هذه الطريقة؛ لرأيته كله مأخوذا من الكتاب والسنة ومناظرة الصحابة، وإنما للمتأخر في ذلك تحرير الكلام وتقريبه من الأفهام»(3).
ولقد سطر مفكرو الإسلام منذ العهود الأولى شروطا وآدابا لهذه المناظرات، ووضعوا ضوابط علمية لإقامتها؛ خشية الانزلاق بها إلى متاهات عقيمة لا طائل من ورائها، وقد رسم ابن خلدون في المقدمة معالم هذا العلم، ومسوغاته وغاياته، فقال: «فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعا، وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج، ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابا وأحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول، وكيف يكون حال المستدل والمجيب، وحيث يسوغ له أن يكون مستدلا، وكيف يكون مخصوصا منقطعا، ومحل اعتراضه أو معارضته، وأين يجب عليه السكوت ولخصمه الكلام والاستدلال، ولذلك قيل فيه إنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه» (4).
ويقول د. حبنكة الميداني: «ولما كان الجدال في الواقع الإنساني من الوسائل التي تستخدم لنشر الأفكار والإقناع بها، وكان الإنسان أكثر شيء جدلا، والجدال سلاحه للدفاع عن أفكاره؛ فقد أمر الإسلام به للدفاع عن الحق الإسلامي؛ مشروطا بأن يكون بالتي هي أحسن.. فقال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125)، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت:46).. ومن هذا يتحصل لدينا أن الجدال للوقوف على الحق لإقناع الناس به عمل محمود.. أما الجدال انتصارا للنفس ورغبة بالاستعلاء والغلبة فهو عمل مذموم، وقد يكون حراما إذا كان فيه طمس للحق أو تضليل للمناظر» (5).
مناظرات الفجر الأول
وشهد تاريخ المسلمين عددا كبيرا من هذه المناظرات منذ الفجر الأول؛ ولنا في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة في ذلك حين أتاه أحد مبعوثي قريش – عتبة – يفاوضه فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أفرغت؟ قال: نعم. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم” : {حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} (فصلت:1-2) حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَعِقَةً مِّثْلَ صَعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:13). فقال عتبة: حسبك حسبك» (6). وحفظ لنا التاريخ نماذج لمناظرات أجراها بعض علماء الإسلام مع مختلف الفرق وأهل الديانات؛ كمناظرة عبدالله بن عباس “رضي الله عنه” مع الحرورية فيما أنكروه على علي “رضي الله عنه” . ومناظرة اليهودي لمسلم في مجلس المرتضى. ومناظرة في الرد على النصارى من تأليف فخر الدين الرازي. وجهود الفقيه أبي بكر الطرطوشي (ت 520هـ) في الجدل مع اليهود؛ ثم الرسالتان موضوع هذه المشاركة: رسالة راهب فرنسا إلى الأمير الأندلسي المقتدر بالله الأندلسي حاكم سرقسطة يدعوه فيها إلى الدخول في النصرانية، وجواب الفقيه أبي الوليد الباجي عليها، والتي تبقى أهم هذه المناظرات وأشهرها، وقد تم تحقيقها ونشرها من طرف الدكتور محمد عبدالله الشرقاوي الأستاذ بقسم الفلسفة بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وصدرت عن دار الصحوة للنشر والتوزيع بالقاهرة.
جاء في تصديرها: «هاتان وثيقتان بالغتا الأهمية، لأنهما تكشفان عن جانب من العلاقة الثقافية أو الجدلية الدينية أو الحضارية – سمها كيف شئت – بين المسلمين في الأندلس، والنصرانية في أوروبا الغربية في القرن الخامس الهجري. الوثيقة الأولى أو الرسالة الأولى بعث بها راهب فرنسا – متطاولا – إلى الأمير المسلم المقتدر بالله، حاكم سرقسطة؛ يدعوه فيها إلى الدخول في دين النصارى، ويشرح له بعض أسسه وقواعده ومحاسنه. والوثيقة الثانية: هي نص الجواب الذي كلف الأمير القاضي أبا الوليد الباجي بكتابته ردا على رسالة الراهب الفرنسي، بعد مقابلة مبعوثَيه ومناقشتهما. والرسالتان معروفتان لدى الباحثين الغربيين معرفة جيدة، فقد نشرتا في الغرب وترجمتا إلى أكثر من لغة أوروبية، ولكنهما – للأسف – على أهميتهما الكبيرة لا يكاد يعرفهما إلا نفر يسير جدا من الباحثين المسلمين المتخصصين، فضلا عمن سواهم» (7). ومما جاء في رسالة الراهب الفرنسي من الدعوة الصريحة لهذا الأمير بالدخول في النصرانية قوله: «… إلى الصديق الحبيب الذي نؤمله أن يكون خليلا مدانيا، المقتدر بالله على دولة هذه الدنيا، الملك الشريف، من الراهب أحقر الرهبان، الراغب في الإنابة والإيمان بالمسيح يسوع، ابن الله سيدنا!!!.. لما انتهى إلينا أيها الأمير العزيز أمرك الرفيع في الدنيا وبصيرتك في تبيين أحوالها المتغيرة، رأينا أن نراسلك وندعوك، لتؤثر الملك الدائم على الملك الزائل الفاني… وقد كان فيما سلف من ذنوب إبليس وتضليله للعباد ما يلقيه العذاب الأليم يوم القيامة من الله سيدنا يسوع المسيح، وقد ضاعف تلك الذنوب بما أوبق فيه هذه الأمم العظيمة.. فاعتبر ـ أيها الملك الشريف ولا تؤثر شيئا على نجاة نفسك يوم الحكم والجزاء، فإنا مخلصون في خدمة أمورك، ومسارعون إلى تفديتك بنفوسنا… وإن لم يظهر لك – يا أيها الحبيب – مراجعتنا بجوابك على ما تضمنه كتابك لآفات الكتب، فأودع ذلك إخواننا هؤلاء وأطلعهم على سرك، وما يتمثل في نفسك، ونحن نضرع إلى سيدنا يسوع المسيح أن يتولى رعايتك، ويتكفل سلامتك، ويهديك إلى دينه المقدس، ويسعدنا بالإيمان الصحيح به آمين…» (8).
فجاء جواب الفقيه القاضي الجليل الفاضل أبي الوليد الباجي رحمه الله على هذه الرسالة ببيان ضعف موضوعها ودحض مفترياتها: حيث قال: «بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على محمد وعلى آله وسلم، العزة لله، والصلاة على رسوله.. تصفحت أيها الراهب الكتاب الوارد من قبلك، وما متت به من مودتك، وأظهرته من نصيحتك، وأبديته من طويتك، فقبلنا مودتك لما بلغنا من مكانتك عند أهل ملتك، واتصل بنا من جميل إرادتك، ونبهتنا لعمر الله بنصيحتك، على ما يلزمنا من ذلك لك، ولولا ما كنا نعتقد من بعد مستقرك، وتعذر وصول كتابنا إليك لكنا أحرياء أن نأتي من ذلك ما يلزم، ونسلك منه السبيل الأوجب، ولكنت – عندنا – جديرا بعرض الحق عليك وإيصاله إليك، فقد قرر لدينا من وصل من رسلك، وأهل ملتك ما تظهره من حرصك على الخير، ورغبتك في الحق، مما قوى رجاءنا في قبولك له، وإقبالك عليه، وأخذك عليه، وأخذك به، وإنابتك إليه… ولما تكررت علينا رسائلك ووسائلك تعينت علينا مفاوضتك، فيما رضيناه من مسألتك، ومعارضتك فيما اخترناه من منهجك في النصح، الذي يجري إليه أهل الفضل، وأمرنا الله به على ألسنة الرسل، وكففنا عن معارضتك على ما استقبحناه من خطابك، وسخطناه من كتابك، من سب الرسل الكرام، والأنبياء المعظمين – عليهم السلام -، وانحرفنا عن ذلك إلى أن نحذرك وننذرك ونعذرك فيما لم يبلغك علمه، ولم يتحقق لديك حكمه، ونبالغ في الرفق بك، والتبيين لك على منهج الخطب والرسائل، لا على طريق البراهين والدلائل، مساعدة لك على مذهبك في كتابك، وموافقة لك في مقصدك، فعسى أن يكون أقرب إلى استمالتك، وأبلغ في معارضتك ومعالجتك…
ولوددنا أن تصير إلينا فنبلغ الغرض من تعليمك، ونتمكن من تفهيمك، ونبين لك من تحقيق الكلام وتحريره، وتفصيله وتوجيهه، وترتيب الأدلة ومقتضاها، وإحكام البراهين ومنتهاها، ما يزيل كل سخيفة من نفسك، ويطهر من دنسها قلبك، فتعاين الحق جليا واضحا، والدين قويا لائحا… والله نسأل أن يهديك ويهدي بك من قبلك فتفوز بأجورهم، وتكون سببا إلى استنقاذهم، فأنت فيما بلغنا مطاع فيهم. والسلام على من اتبع الهدى» (9).
لقد كان أبوالوليد الباجي من العلماء والفقهاء البارزين في الأندلس، بذل جهودا كبيرة لتوحيد صفوف المسلمين في الأندلس ضد النصارى الإسبان، فطاف مدن الأندلس وقواعده لجمع شتات الأمة الممزق. وكان عميق الفهم، صاحب حجة، يقيم الحجة على خصومه من الفقهاء، فكان صادقا في أقواله وأفعاله، وفي دعوته وفي عرضها. واستطاع أن يستوعب المناهج التي درسها سواء في بلاده الأندلس أو في رحلته إلى المشرق من فقه وحديث ولغة وعلم الكلام وغيرها، حتى تأهل ليكون داعية لحمل رسالة التوحيد والجهاد في سبيل الله. وكان تردده بشرق الأندلس وما بين سرقسطة وبلنسية ومرسية ودانية؛ فحدث يوما أثناء وجوده في سرقسطة أيام حكم المقتدر أحمد بن هود (حكمه ما بين: 438هـ و474هـ) أن جاءت رسالة من أحد عمالقة الرهبان الفرنسيين يدعو فيها هذا الأمير إلى الدخول في الديانة المسيحية والانسلاخ عن العقيدة الإسلامية، فكتب الباجي رسالة على لسانه رد فيها على هذا الراهب؛ وسلك فيها طريق الاعتدال، وطرق الحجة بالحجة، وأعاد الداعي مدعوا، وبقي الأمير وإمارته سرقسطة على دين الإسلام.
وأول ما يلاحظ على مجمل هذه الرسالة كما يقول د. الشرقاوي محقق الرسالتين: «بيد أن رسالة الباجي تظهر – في تقديري – رؤية إسلامية صحيحة وعميقة، لما عليه العقيدة النصرانية من اضطراب وتناقض ووهاء، كما أنها تبرز مسؤولية القاضي الباجي في الدعوة إلى الله تعالى بين غير المسلمين، ووعيه بالطريق الأرشد إلى ذلك. فالقضية – عنده – لم تكن مجرد تدبيج جواب على رسالة راهب فرنسي بعث بها – مع رسولين – إلى المقتدر بالله حاكم سرقسطة، أقصى ما يؤمله الباجي من ورائه أن يرضى المقتدر بالله عنه، لكن طموحه السديد كان أبعد من ذلك وأعظم؛ إذ كان يروم تعريف راهب فرنسا وكبير رجالات الكنيسة فيها بمحاسن الإسلام، وما عليه النصرانية – بعد التحريف – من مجافاة للعقل والمنطق، فضلا عن مصادمتها للفطرة السليمة بأسلوب قويم حكيم. وإن كل فقرة في الرسالة لتؤكد هذا المعنى وتعمقه» (10).
كما أن الموضوع الأكثر إثارة في هذه الرسالة هو محاولة الباجي الجواب على الراهب الفرنسي في مسائل الاعتقاد، وخاصة فيما يتعلق بنبي الله عيسى – عليه السلام – الذي يعتقدون ببنوته – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا – يقول د. عبدالواحد العسري: «سبق أن ذهبنا إلى أن الخلاف الأساسي الذي تدور عليه جميع المجادلات الإسلامية النصرانية يكمن في التصورات المختلفة للنصارى وللمسلمين لله وللنبوة. ذلك هو ما استقطب مجموع الدعاوى والاعتراضات التي دارت بالمجلس الخامس الذي ناظر فيه الأنصاري، رئيس كتبة الملك وحاجبه» (11)، في إشارة إلى مناظرة أخرى في نفس المجال.
ولقد نقض الباجي دعوى الراهب دون أن يعترض على لفظ رسالته ولا على صحة نقلها. كما عمل على منعها بإبطال ما استلزم من ألفاظها مناظره من تصورات تشبيهية وتحييزية لله ولصفاته التي رام بنسبتها للإسلام نسف دعوى هذا الدين بخصوص التوحيد والتنزيه اللذين يقوم عليهما. وبذلك استطاع أبوالوليد الباجي أن يحقق هدفه من مجادلته للنصارى التي اضطر إليها، باعتراضه على دعاواهم ومنعها وإبطالها، فأفحمهم وانتصر عليهم، معتمدا في كل ذلك بعض قواعد المناظرة المنطقية والتداولية والأخلاقية.
وهكذا أبطل الباجي دعوة النصارى المبطلين لدينه والمنكرين لنبوة نبيه، بالاستناد إلى كتبهم المقدسة على دعواهم. واتخذ نفسه في مناظرته أدوار المدعي المعلل والمجيب للدفاع عن تصور اعتقاد المسلمين لله تعالى ولنبوة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، لذلك بادر في مناظرته إلى القول: «وما من نحلة ولا ملة إلا وهي تزعم أن نفوسها نيرة بما تعلمه، منشرحة بما تعتقده، وكذلك تقول البراهمة الذين يكذبون الرسل، والدهرية الذين يدعون الأزل، والفلاسفة القائلون بقدم العالم، والثنوية المثبتون لخلق النور والظلام، فما أحد من هذه الفرق إلا وهو يدعي أن نفسه أسكن إلى ما تعتقده، وأوثق بما تنتحله، وأنور بما يزعم أنه يعلمه من نفوس مثبتي الرسل، ومتبعي الكتب. لكن وضع الكلام ونشره، وتمييزه ووصفه يعلي الحق ويثبته، ويدحض الباطل ويمحقه»(12).
وأهم خصلة في جواب الباجي هذا التزامه بشروط المناظرة التي وضحناها من قبل، والتي منها التزام المتناظرين بالأدب والأخلاق والجدال بالتي هي أحسن، يقول د. حبنكة الميداني: «فالمسلم مطالب بأن يلتزم في مجادلته لإثبات الحق الذي يؤمن به وإقناع الناس به، الخطة التي هي أحسن من كل خطة يمكن أن يتخذها الناس في مجادلتهم. لذلك كان من أخلاق المسلم وآدابه مع خصوم دينه ومخالفي عقيدته؛ فضلا عن إخوانه المؤمنين أنه لا يسلك مسالك السب والشتم والطعن واللعن والهمز واللمز والهزء والسخرية والفحش والبذاءة» (13)، وهذا ما نلحظه في الأسلوب الذي اعتمده الباجي في رسالته في الرد على راهب فرنسا؛ فقد كان شديد الأدب حافظا لسانه من الزلل متجنبا الاستهزاء والسخرية.. ولاشك أن في هذا الجواب ما يدفعنا إلى تجلي دور هذه المناظرات في إحقاق الحق ودفع الخصوم. مما يضطرنا إلى البحث عن المزيد من أصول هذه المناظرات لتتبع ردود المسلمين على نصارى الأندلس في محاورتهم لهم في باب الاعتقادات من أصول الدين، واستجلائه ووضعه في الحسبان أثناء المناظرات الفكرية التي تدار اليوم، متتبعين روح التسامح التي طبعت نقاشهم ذلك، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
الهوامش :
1- تاريخ الجدل، محمد أبوزهرة، دار الفكر العربي، ص:36.
2- مقال بعنوان: قواعد المناظرة وأخلاقياتها من خلال مجادلة محمد القيسي ومحمد الأنصاري للنصارى بالأندلس، د. عبدالواحد العسري، مجلة كلية آداب تطوان.
3- المنهاج في ترتيب الحجاج، لأبي الوليد الباجي، تحقيق عبدالمجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، ص:8-9.
4- المقدمة، ابن خلدون، دار الفكر، ص:263.
5- ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، د. حبنكة الميداني، دار القلم، ص:363.
6- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي، دار الفكر، الحديث رقم: 9824.
7- رسالة راهب فرنسا إلى المسلمين ورد أبي الوليد الباجي عليها، د. محمد عبدالله الشرقاوي، دار الصحوة، ص:27.
8- نفسه، نص الرسالة والجواب عليها.
9- نفسه، نص الرسالة والجواب عليها.
10- نفسه، المقدمة.
11- المقال السابق.
12- نص الرسالة.
13- ضوابط المعرفة، د. حبنكة الميداني، ص:363.
—-
* المصدر: الوعي الشبابي.
[ica_orginalurl]