“يكمن في قرارة الفكر الإسلامي نقد نظرية التطور بحسب رؤية “تشارلز داروين” القائمة على أن هناك سلفا مشتركا لجميع الكائنات الحية، وأن تلك الكائنات قد تطورت رقيا حتى وصلت إلى الإنسان نتيجة لطفرات عشوائية حدثت بالصدفة؛ فقصة خلق آدم عليه السلام واضحة في كتاب الله تعالى.. إلا أن توجها جديدا بين بعض المتخصصين والمهتمين بملف الإلحاد يحمل في طياته تفاصيل يراها البعض قد تضع حدا للتضارب بين العلم والدين في تلك القضية بما تحمله من طرح مختلف.. إنها فكرة التطور اللادرويني أو ما يُعرف ب “التطوير الإلهي”[1]…
أخي الفاضل، سعادة الدكتور محمد العوضي..
تحياتي وسلامي لسيادتكم… ودعواتي لكم بتمام الصحة والعافية.. استرجعت في الأيام السابقة بعض حواراتنا خلال زيارتيّ السابقتين للكويت، وأيضا عبر الهاتف، حول نظرية التطور في علم البيولوجيا، وقد حدث ذلك كرد فعل لما يسود في إعلام دول الخليج هذه الأيام من حوارات حول الإلحاد، الذي كاد أن يصبح ظاهرة تعصف بعقول بعض شبابنا و مفكرينا.
أخي الفاضل، أسمح لي أن أعرض على المثقفين العرب – من خلال منبركم – بعضا من المفاهيم حول هذه القضية الخطيرة:
أولا: الإلحاد المعاصر إلحاد علمي، نشأ في تربة أوروبية خالصة، وبالرغم من تعدد أسبابه وتشابكها، فإن أهمها هو «عدم مجاراة الخطاب الديني الكنسي» في العصور الوسطى في أوروبا لمستجدات العلم التجريبي، وكذلك اضطهاد الكنيسة للعلماء وتكفيرهم، اذ اعتبرت بعض ما طرحه العلم من جديد.. خروجا على ثوابتها الدينية.
لقد أدى ذلك الموقف إلى رفض العلم والمجتمع لمفاهيم الدين، حتى وصل الأمر إلى أن أصبح نصف أساقفة الكنيسة الإنكليزية في القرن الثامن عشر من الملاحدة!
ثانيا: زاد الأمر تعقيدا، موقف «المؤسسة الدينية» في الغرب، الرافض لنظرية التطور التي طرحها تشارلز دارون في منتصف القرن التاسع عشر.. بذلك وضعت المؤسسة الدينية نفسها حكما على المفاهيم العلمية، وكلما قدم العلم المزيد من الأدلة على صحة مفهوم التطور زاد رفض المجتمع للدين.
وقد حسم الصراع نهائيا لصالح مفهوم التطور، عندما أعلن الاتحاد الأميركي لتقدم العلوم “AAAS” وهو أكبر هيئة علمية في العالم، إذ يضم مئة وخمسين ألف عالم من جميع الدول (أن مفهوم التطور قد صار بمثابة الحقيقة العلمية المحورية في علم البيولوجيا).
ثالثا: تشتمل نظرية دارون على مفهومين أساسيين: الأول، أن هناك سلفا مشتركا لجميع الكائنات الحية، وأن تلك الكائنات قد تطورت رقيا حتى وصلت إلى الإنسان.
والمفهوم الثاني، أن هذا التطور قد وقع نتيجة لطفرات عشوائية حدثت بالصدفة، والعلم إذ يقدم الأدلة على وقوع التطور فهذا إثبات لصحة المفهوم الأول، أما أن التطور قد حدث عشوائيا فذلك أمر لا يقدر العلم على إثباته، بل إن العلم الحديث يؤكد استحالة أن تكون العشوائية وراء خلق الإنسان، هذا الكائن الاستثنائي شديد التعقيد لذلك ينبغي أن نفرق بين «مفهوم التطور» وهو ما أثبته العلم وبين «نظرية التطور لدارون» التي نرفض قولها بالخلق العشوائي.
«أن الطرح المقبول والذي يجمع بين الطرح الديني والطرح العلمي في عملية الخلق، هو مفهوم «التطور الموجه» أو «التطور اللا دارويني» والذي يعرف أيضأ باسم «التطوير الإلهي» ويبين هذا المفهوم أن ألله عز وجل وجَّه عملية التطور حتى وصلت إلى أسلاف الإنسان، وعندها قام الخالق جل شأنه – من خلال التدخل المباشر بتسوية أحد هذه الأسلاف آدم عليه السلام (والنفخ فيه من روحه، وبذلك صار آدم أبو البشر، الذي بدأ خلق سلفه الأول)، الخلية الأولى (من طين) «… وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ » (السجدة:7)، ولاشك أن هذا الأصل التطوري لا يتعارض مع تميز الإنسان، فتميزنا كبشر إنما هو بنفخة الروح وليس بالجسد.
وأؤكد لكم أن آيات خلق الإنسان في القرآن الكريم يمكن فهمها في سلاسة ووضوح في ضوء مفهوم الخلق التطوري، وقد جمعت في الفصلين الأخيرين من كتابي «كيف بدأ الخلق» بعضا من اجتهادات بعض العلماء الأفذاذ في ذلك الشأن فيمكن للقارئ الرجوع إليها.
خامسا: أصدرت الكنيسة الكاثوليكية عام 1996 بياناً أعلن فيه البابا يوحنا السادس أن الكنيسة لا تعارض كلمة العلم بأن الإنسان قد خُلق تطوراً، طالماً نؤمن بأن الله عز وجل هو الذي نفخ فيه الروح كذلك يقوم شُرَّاح سفر التكوين الآن وعلى رأسهم عالم اللاهوت الكبير س. ك لويس (C.S.Lewis) بتفسير الآيات المتعلقة بخلق الإنسان في التوراة في ضوء مفهوم التطور.
هكذا تبادر المؤسسات الدينية في العالم الغربي إلى المصالحة مع العلم، حماية لشبابها من الانجراف في طوفان الإلحاد ألسنا نحن، أصحاب المنهج الحق، أولى بتبني كلمة العلم، حتى لا نسقط في نفس الدرك الذي وقعت فيه أوروبا منذ بداية العصر الحديث، ومازالت تتخبط فيه حتى الآن؟
كيف حدث التطور اللادرويني ؟
سادساً: سيدي، هل يعلم قراؤك الكرام أن عدداً من أساتذة إحدى كليات الطب في إحدى بلادنا العربية قد شكلوا مجموعة أطلقت على نفسها اسم «ملاحدة الكروموسوم البشري الثاني!؟» يالله، ما حكاية هذا الكروموسوم البشري الذي جر بعض صفوة الأمة الى الإلحاد؟ إليكم التفاصيل كما ذكرها فرانسيس كولينز رئيس مشروع الجينوم البشري في كتابه: (لغة الإله).
إذا قارنا جينوم الإنسان بجينوم الشمبانزي، وجدنا أن الأول يحتوي على 23 زوجا من الكروموسومات، بينما يحتوي الثاني على 24 زوجاً، لقد اتخذ الرافضون للتطور من ذلك دليلاً على موقفهم فاختلاف عدد الكروموسومات ليس بالشيء الهين.
لكن بتدقيق النظر في الكروموسوم البشري الثاني، وُجد انه يحتوي على الجينات الموجودة على كروموسومين من كروموسومات الشمبانزي، وهما (2A-2B).
وتفسير ذلك أن السلف المشترك بيننا وبين الشمبانزي وبقية الرئيسيات كان لديه 24 زوجا من الكروموسومات، ثم حدث اندماج بين كروموسومين من كروموسومات بعض أفراده، فشكل هؤلاء الفرع التطوري الذي نشأ منه الإنسان.
وأصبح عدد كروموسوماتنا 23 زوجاً، بينما بقيت كروموسومات الفرع الذي نشأ منه الشمبانزي دون اندماج.
ليس الأمر هكذا فقط فإذا عرفنا أن كروموسومات خلايا جميع الكائنات الحية تحتوي في أطرافها على تكوين يعرف باسم «تيلومير» Telomere – مسؤول عن تحديد سر الخلية (فقد وجدت التيلو ميرات في طرفي الكروموسوم البشري الثاني كالمعتاد)، بالإضافة إلى تيلوميرين وجدا في منتصف هذا الكروموسوم، مما يؤكد أنه يتكون من كروموسومين منفصلين تم اندماجهما.
كذلك إذا اعتبرنا أن في منتصف الكروموسومات منطقة واحدة تسمى «السنترومير Centromere» – مسؤول عن تنظيم انقسام الكروموسوم، فقد وجد العلماء (2) سنترومير في الكروموسوم البشري الثاني أحدهما نشيط والآخر خامل ما يعني أن هذا الكروموسوم قد تكون من اندماج كروموسومين منفصلين لكل منهما السنترومير الخاص به.
ويعلق د. أحمد مستجير العالم وأستاذ البيولوجيا الجزيئية السابق بجامعة القاهرة على ذلك قائلاً: «يبدو أن الدليل الذي يقدمه الكروموسوم البشري الثاني على وجود السلف المشترك الذي يجمع بيننا وبين بقية الرئيسيات وخاصة الشمبانزي دليل دامغ لا يمكن دحضه!”.
سيدي ماذا أنت قائل لرجال ألحدوا بعد أن قدم لهم علم البيولوجيا الجزيئية علم الجينات الدليل العلمي الذي لا يدحض – وغيره من الأدلة كثير- على الأصل المشترك الذي يجمع بين الإنسان وبقية الرئيسيات، وفي نفس الوقت نواجههم بخطاب ديني يرفض مفهوم التطور؟
سيدي… لماذا نضع عقول صفوة الأمة وعقول شبابنا في هذه الفتنة، والمخرج منها بين أيدينا. هو ما طرحناه في «رابعاً» و «خامساً»؟
سيدي: ما أشبه الليلة بالبارحة…
اسمح لي بهذا المقال، من خلال منبركم، أن أدق أجراس الخطر… أن تبني الكثيرين موقفاً رافضاً لمفهوم التطور – وغيره من حقائق العلم – يجعلنا في موقف مشابه لموقف أوروبا، عندما رفضت الكنيسة المستجدات العلمية، فكانت النتيجة أعتى موجة إلحاد في تاريخ البشر… موجة مازالوا حتى الآن في ذروتها.
سيدي… أخشى أن تتشابه المقدمات، فتتشابه النتائج.
سيدي… أختم رسالتي بأن أقول أن مجابهة الإلحاد لا تكون بالرفض والقهر والبطش، ولكن تكون بمقارعة الحجة بالحجة، خاصة وأننا صرنا نحيا في زمان قول الحق عز وجل “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ“(فصلت:53). صدق الله العظيم
والله تعالى أعلى و أعلم،،،
الهامش:
[1] – إضافة المحررة
_______________________________________________
المصدر: خطاب من أ.د. عمرو شريف نشره د/ محمد العوضي على منصته الخاصة في جريدة الراي الكويتية بتاريخ.. 12/3/2012 http://www.alraimedia.com/ar/article/makalat/2012/03/12/318438/nr/nc
[ica_orginalurl]