السنوسي محمد السنوسي

حيرة الإلحاد

تناقض بعض الشرائع السماوية جعلها تستعصي على الفهم

عجيب أمر هؤلاء الذين يدعون إلى الإلحاد، وإلى إنكار وجود الله سبحانه، وإلى أن يسير الناس في الحياة لا حظ لهم من إيمان يملأ عليهم أفئدتهم، ولا من عبادة تخشع لها جوارحهم وتنقاد!.

إنهم لا يعادون الإسلام فحسب، وهو الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، على اختلاف في الشرائع والأحكام للأقوام والأمم التي توزعت على امتداد القرون المتطاولة، حتى ختم الإسلام بشريعة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-..

إنهم لا يعادون هذا الإسلام فحسب، بل يعادون أيضا الأديان الباطلة، والمعتقدات الموغلة في الخرافات والترهات.. فإنها جميعا متفقة على ضرورة الإيمان، أي على أصل القضية!

إن «الناس من أقدم العصور حيارى، يجدون في أنفسهم إلهاما بالفطرة إلى التسليم بقوة قاهرة، يستلهمونها ويستمدون منها العون، ويستقبلون منها الخير والشر، فيدعونها خوفا وطمعا، ويتملقونها بالقرابين والعبادات، ويجدون في الإيمان بهذه القوة – التي اختلفوا في تكييفها – سندا وملاذا من رهبة القوى المادية في الكون، وسلوى وعزاء عمّا هم فيه من قسوة الحياة وآلامها»(1).

وإذا كان الإيمان – في معناه العام – هو إحساس الإنسان وشعوره بضرورة وجود قوة أخرى أكثر كمالا واقتدارا منه – كانت هي البدء الذي به كان، وإليها خاتمة المطاف والمنتهى.. فإن هذا الإحساس البشري الذي يعمر به قلب الإنسان ووجدانه هو فطرة الإنسان التي فُطر عليها، والتي رُكبت في طبعه، فصارت لازمة من لوازم حياته، المعنوية والروحية. وكما يبحث الإنسان عن الطعام والشراب والهواء للإبقاء على كيانه المادي، يشعر بالحافز للبحث عن هذه القوة الخفية، والتقرب منها واسترضائها للإبقاء على كيانه الروحي والمادي معا(2).

من تجاوز الكنيسة إلى تجاوز الدين

لقد ظل الإنسان الغربي في «عقوده المظلمة» – خاصة في أواسط القرن السادس عشر – يعاني صراعا مريرا مع الكنيسة، محاولا الخروج من سيطرتها وربقتها، بعدما فرضت الكنيسة رؤيتها الخاصة للكتاب المقدس، ولسائر نشاطات الحياة حتى على الجوانب العلمية منها(3)، إضافة إلى تحالف رجال الكنيسة مع الإقطاعيين، وهو ما أدى إلى أن يثور الإنسان الغربي ليس على سلطة الكنيسة فقط، بل على سلطة الدين ذاته!

ومن هنا.. نشأت موجات متتابعة من الإلحاد، ومن الجرأة على الله، تسفه فكرة الإيمان، وتصمها بالعبودية والخنوع، وتعتبرها قيدا على حرية الإنسان وإرادته.

لكن – والحق يقال – قد يكون للإنسان الغربي بعض العذر فيما فعل، إذ كانت سيطرة الكنيسة وقيودها قد بلغت حدا مرهقا للإنسان، ومثلت عبئا على الإيمان ذاته!

لكن البعض من المفتونين بالغرب وثقافته وحضارته، راحوا ينقلون معركة الإنسان الغربي مع الكنيسة، وخروجه على دينها الذي يحرم العلم.. راحوا ينقلون ذلك إلى أرض المسلمين، ويسقطون تلك المعركة على الإسلام، دون أن يدركوا أن لا وجه أبدا للمقارنة بين الإسلام، وما انتهت إليه الكنيسة من دين، وأن هذا الصراع بين العلم والدين إنما هو ابن البيئة الغربية بشكل حصري!

وفي مواجهة موجات الإلحاد، أوائل القرن العشرين، حذر الأستاذ عبد العزيز جاويش من خطورة تلك القضية، وأوضح أن الذين يصورون علاقة العلم والدين حربا قائمة دائمة لا يستقر لهما صلح، إنما هم تلاميذ آثار الغربيين، ممن يفتنون بكل جديد، ولو كبل عقولهم بأغلال التقليد، وحبسهم عن التدبر والتفكير.

وأكد جاويش أن هؤلاء لو كان لهم علم بأصول القرآن الكريم، ووقفوا على ما مكن للعقل والوجدان من قواعد الحرية الصادقة في سائر شعب الحياة، لما زلت لهم قدم في مزالق التقليد، ولفقهوا إجلال ذلك الكتاب الذي يقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(الإسراء:36)، والذي يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(النحل:43)(4).

التحريف مدعاة للإلحاد

من الملاحظ – وكما سنرى من خلال سرد بعض التجارب الذاتية – أن التحريف الذي لحق ببعض الشرائع السماوية، وأصابها بالتناقض، وجعلها تضاد العقل وتستعصي على الفهم، فضلا عن لاعقلانية المذاهب الوضعية التي ذهبت بعيدا في منحدر الخرافات.. أن ذلك كان مدعاة للإلحاد، وسببا أساسيا في أن يرفض العقلاء تلك المزاعم التي تسمى «دينا»!

ولما كان الإسلام – الدين الخاتم – قد تكفل الله سبحانه بحفظ كتابه وينبوعه الصافي، الذي يشتمل على أصول العقائد وأمهات الفضائل وقواعد الشرائع، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).. فإننا نستطيع أن نقرر باطمئنان أن الإلحاد هو مشكلة من خارج بيئتنا الحضارية(5). فبيئتنا الحضارية لم تعرف صداما مع العلم، ولا إجحافا بمكانة العقل، ولا تسلطا على مناهج البحث العلمي، ولم تدع إلى مقررات تصادم الفطرة السليمة والعقول المستقيمة.

إن خطورة العقائد المحرفة، تكمن في أنها تبعد الناس ليس عن اتباع هذه العقائد المحرفة فحسب، بل عن الاعتقاد الديني بوجه عام. ولذلك يقول مراد هوفمان في تقديمه لأحد كتب جيفري لانج: «عندما يزعم المؤلف بأن العقائد الدينية في العصر الحديث لا تفعل شيئا، سوى أنها تزيد من أزمة الإيمان والدين، فإنه يردد صدى ما قاله محمد أسد عام 1934م، عندما تنبأ أن الشكوك التي أثارتها العقيدة النيقية(6) وخاصة عن أفكار التجسيد والتثليث، لن تبعد أصحاب الفكر عن كنائسهم وحسب، بل عن الإيمان بالله تبعا لذلك»(7).

ويسجل ألفونس «أتيين دينيه» – الذي أسلم وتسمى بـ«ناصر الدين» – شهادته عن اتساق العقيدة الإسلامية مع الفكر والعقل، فيقول: «إن العقيدة المحمدية(8) لا تقف عقبة في سبيل التفكير، فقد يكون المرء صحيح الإسلام، وفي الوقت نفسه حر التفكير. وكما أن الإسلام قد صلح منذ نشأته لجميع الشعوب والأجناس، فهو صالح كذلك لكل أنواع العقليات، وجميع درجات المدنيات»(9).

ولما سئل البروفيسور «هارون مصطفى ليون» عما أعجبه في الإسلام، ذكر أن من مفاخر الإسلام، أنه مبني على العقل، لا يطالب معتنقيه أبدا بتجميد طاقاتهم الفكرية، مخالفا بذلك عقائد أخرى، تلزم تابعيها بالاعتقاد الأعمى لمذاهب وآراء معينة، دون تفكير فيها(10).

وقد وجه هوفمان نقدا حادا لما دخل من تحريف على المسيحية، جعلها لاعقلانية! فيقول: عندما يتوسط المسيحيون في خطأ محاولة الدفاع العقلاني عن مذهب «التثليث» يأخذون أولا بالتذرع ببعض الألاعيب اللغوية، وينتهي بهم الأمر إلى التراجع، زاعمين أنه بما أن «التثليث» هو سر من الأسرار، فإنه بذلك يستعصي على التفسير. ثم يؤكد هوفمان أن من الابتذال القول بأن «الأسرار الدينية» تستعصي على التفسير، وهي كذلك بحكم تعريفها، ولكن ليس هناك ما يمنعنا إطلاقا من أن نقرر بداية ما إذا كانت المسألة تتعلق بسر من الأسرار بالفعل، أو أنها – كما في حالة «التثليث» – من نسج قلوب البشر وعقولهم. ويضيف: «لقد مضى ذلك الوقت الذي كان فيه للمسيحية أن تستفيد من فكرة «التثليث»، خاصة عندما تنتشر بين شعوب تؤمن بالتسلسل الهرمي للآلهة، أما اليوم فإن «التثليث» لا يعدو أن يكون عبئا على المسيحية»(11).

فمراد هوفمان يفرق بين ما يعتبر سرا من الأسرار، وما هو من نسج عقول البشر. ويوضح أنه «الأسرار» قد يجوز عدم فهمها، ولكنه «التثليث» ليس أصلا من هذه الأسرار، وإنما هو من نسج الخيال.

ولكننا يجب أن نضيف هنا توضيحا لما ذكره السفير هوفمان، أن حتى ما يسمى «الأسرار» – أي ما يطلق عليها الإسلام «العقائد» – فإنها لا يجوز أن تتناقض مع العقل.. ولكن يجب أن نفرق في مسائل العقائد بين ما لا يستطيع العقل إدراك كنهه وحقيقته مثل: عذاب القبر، وغير ذلك من الأمور الغيبية وبين ما يحكم العقل باستحالته، مثل: التثليث ووراثة الخطيئة الأولى، فالنوع الأول يقف فيه العقل عند حدوده ويؤمن به، أما النوع الثاني فإن العقل يرفضه، ويأبى الاعتراف به، وعلى ذلك فهناك من عقائد الإسلام ما نؤمن به ولا ندرك كنهه، لكن ليس في الإسلام ما يحكم العقل باستحالته، أو ما يخالف الحقائق المنطقية.

تجارب ناطقة بالتوحيد

أمام هذا الأمر الداعي للعجب والدهشة – أي الإلحاد – فإنني أرى أن من الأوفق، ونحن نحاول أن نمد لمن أغراهم بريقه الزائف يد الهداية والإرشاد، عسى الله أن يمنحهم نورا ينقذون به أنفسهم من التردي في مهاوي ظلمات الجحود.. أرى أن نعرض لهم نماذج مضيئة من أبناء الحضارة الغربية، سبقوهم في طريق التعرف على الله، والتسليم بمنهجه، والسعادة في رحابه.

فلاشك أن عرض هذه النماذج يفيدنا في هذا المقام من ناحيتين:

الأولى: أن حياة أولئك الذين اهتدوا هي نفسها أوضح مناقشة للمزاعم التي ما فتئ هؤلاء يرفعونها في وجه دعاة الإيمان، ويلبسون بها على العامة، وعلى الشباب الذين لا تسعفهم معارفهم للصمود في وجهها.

أما الناحية الثانية، فهي أن هذه النماذج المضيئة تقول لهم بلسان الحال: لقد أغرانا الشيطان كما أغراكم، وتربص بنا كما تربص بكم، وقعد لنا في طريق الهداية كما قعد لكم، لكننا -بمعونة من الله وفضل- قد اجتزنا كل تلك العقبات، وآوينا إلى ركن شديد، ووجدنا في واحة الإيمان ما ظللنا نبحث عنه، وما شقينا لعقود بسبب الابتعاد عنه.

فمن محمد أسد الصحفي النمساوي الذي كان يهوديا، إلى رجاء جارودي الفرنسي الذي كان عضوا باللجنة المركزية للحزب الشيوعي، إلى جيفري لانج الأميريكي الذي فضل الإلحاد على دين الكنيسة..

هذه النماذج – وغيرها كثير – ناطقة بضرورة الإيمان، وأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وناطقة أيضا بأن الإسلام هو الدين الجدير بأن يمنحه الإنسان ثقته، وأن يسلم له قياده، وأن يرسو بسفينة عقله على شطآنه.. فهو دين الله الخاتم، المحفوظ بحفظه من التحريف والتبديل إلى يوم الدين، ومن ثم، كان قادرا على مخاطبة أرقى العقول البشرية، على اختلاف الزمان والمكان.

وما الإلحاد إلا مشكلة من خارج بيئتنا الحضارية، فلنحذر من محاولات إرهاق العقول، وتشتيت الجهود عن مواجهة التحديات التي تحيط بنا من كل حدب وصوب!.

——————————

الهوامش

1- الرسالة الخالدة، الأستاذ عبدالرحمن عزام، ص: 18، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، 1964م.

2- في الإيمان والإسلام، الأستاذ أحمد حسين، ص: 13، دار القلم، بدون تاريخ، بتصرف يسير.

3- حينما أثبت كوبرنيكس دوران الأرض حول الشمس، وحينما زاد جاليليو دوران الأرض حول نفسها؛ قرر المكتب المقدس في فبراير 1616م أن مذهب كوبرنيكس سخيف، وبمقارنته بما جاء في وصية المسيح يعد هرطقة. ولقد حرمت روما تعليم نظام المجموعة الشمسية إلى ما بعد منتصف القرن الثامن عشر، مما أربك دراسة العلوم الطبيعية هناك. انظر: أثر القرآن في تحرير الفكر البشري، الشيخ عبد العزيز جاويش، ص: 41، هدية مجلة «الأزهر»، ربيع الآخر 1433هـ، بتصرف يسير.

4- المصدر نفسه، ص: 111، 114، باختصار وتصرف.

5- لم يعرف تاريخنا «الإلحاد» كظاهرة، وإنما كحالات معدودة.

6- أي العقيدة التي تقررت في مؤتمر «نيقية» سنة 325م، والتي قررت بنوة عيسى وألوهيته.

7- من تقديم د. مراد هوفمان لكتاب د. لانج، «حتى الملائكة تسأل»، ص: 12، ترجمة د. منذر العبسي، دار الفكر، دمشق، ط1، 2001 م.

8- الصواب أن نقول «العقيدة الإسلامية»، لأن الغرب يقصد من نسبة العقيدة إلى محمد  ” صلى الله عليه وسلم” ، إظهار الإسلام وكأنه من اختراع محمد، وليس وحيا إلهيا.

9- أوروبا والإسلام، د. عبد الحليم محمود، ص: 99، دار المعارف، ط2، 1982م.

10- في الدعوة إلى الإسلام، المستشار محمد عزت الطهطاوي، ص: 256، دار التراث، ط1, 1979م.

11- يوميات ألماني مسلم، هوفمان، ص: 159، 160، ترجمة د. عباس رشدي العماري، مركز الأهرام للترجمة والنشر، ط1، 1993م.

———

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي.

[ica_orginalurl]

Similar Posts