الكاتب/ د. محمد دودح
قبل الثورة المحمومة في مجال العلوم التجريبية وتوفر الأدوات اللازمة لم يكن لبشر المعرفة بآلية الوظائف العقلية العليا التي تميز الإنسان عن الحيوان وتحديد مواقعها بالمخ، وشيئا فشيئا اكتُشفت المناطق المتعلقة بالحواس والكلام والحركة وبدأت تتضح معالم المنظومة العاطفية والأنشطة اللاإرادية والأساس الكيميائي للنشاط العصبي وأصبح في الإمكان تسجيل كهربية المخ من الخارج باستخدام جهاز رسم المخ والتصوير الإشعاعي لكشف تراكيبه وأمكن تصور آلية بعض الوظائف العليا كالتذكر والتعلم، والاكتشاف المذهل هو التعرف على مراكز بالمخ تنشط بالإيمان والعبادة لتستعيد توازن وظائف النفس والبدن مقرةً لمبدأ الخلق بأن الإيمان فطرة مغروسة بالنفس وفي نشاطها بالخشوع شفاء للنفوس والأبدان بآليات تبدو وشيكة الاكتشاف.
وهكذا تفاجئنا الأبحاث العلمية اليوم بأن الإيمان بالله تعالى وعبادته نزعة فطرية لها آلياتها ومراكزها بالمخ وإذا لم يحسن الإنسان توظيفها فقد أهم ما يميزه عن الحيوان وتعرض لفقدان التوازن النفسي والبدني، والعجيب أن توظيف تلك الآليات يتفق مع التوجيهات الدينية ممثلة في أتم وأشمل وأنقى صورها في تعاليم القرآن الكريم كمنهج حياة فضلا عن تضمنه لكثير من الحقائق المكتشفة حديثا.
العلاقة بين الروح والجسد
وقد اهتم علماء النفس بتحديد العلاقة بين نفس وجسم الإنسان وتأثير كل منهما على الآخر، وأصبح من المعلوم حاليا أن الكثير من الأمراض الجسمية يمكن أن تصاحبها مضاعفات نفسية أو تكون لها جذورا نفسية، فنشأ فرع أمراض النفس الجسمانية Psychosomatic disorders ، قال د.بدر الأنصاري: (يفترض بعض الباحثين أن التشاؤم Pessimism يزيد من احتمالات إصابة الإنسان بالأمراض العضوية كالسرطان، كما يرتبط التشاؤم بعديد من الاضطرابات النفسية كالاكتئاب واليأس والميل إلى الانتحار.. والفشل في حل المشكلات والنظرة السلبية إلى صدمات الحياة والشعور بالوحدة، وقد بينت بعض الدراسات التي أجريت على مرضى السرطان وجود علاقة إيجابية بين التشاؤم وسرعة انتشار المرض..
وقد يؤدى الشعور باليأس إلى سرعة انتشار السرطان في الجسم)(1)، وفي المقابل قد يفتح ذلك بابا واسعا لبحوث تؤكد التأثير العضوي للإيمان والرضا بالقدر مما قد يفسر ظواهر كالشفاء الذاتي في بعض حالات السرطان، ومن البشائر كشف مركز بالمخ ينشط بالتأمل Meditation المصاحب للعبادة ويعيد الوظائف الجسمية الأساسية إلى حالة الاسترخاء Rest State مؤيدا فطرية الإيمان وتأثيره العضوي.
وخلاصة الأبحاث العلمية التي نشرت للمرة الأولى عام 2001 وأجريت على المخ بتقنية جديدة للأشعة السينية(2) وقام بها فريق علمي على رأسه د. أندرو نيوبيرج Andrew Newberg أستاذ علم الأشعة Radiology بكلية الطب بجامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية هي أن: (الإيمان بالله تصميم داخلي built-in Design داخل المخ)(3)، وبهذا لا يمكن لأحد التخلص منه إلا تعاميا عن الفطرة السوية التي جعلت الإنسان ينزع للتدين على طول التاريخ وتعطيلا لقدرات هائلة وإمكانات بالغة التعقيد والتطور تمكنه من إدراك قدرة الله تعالى بالتفكر والاستقراء للخلق والتحليل والاستنتاج، ويمكن وصف الإنسان وفق عبارات د. نيوبيرج نفسه بأنه: (موجه بقوة نحو التدين hard-wired for Religion) وأن: (التجربة العملية لا يمكنها أن تخبرنا بطريقة مباشرة عن ذات الله ولكنها تخبرنا كيف خلق الإنسانَ لكي يعرفه ويعبده)، وهي تخبرنا أن: (عبادة الله وظيفة والإيمان به مطلب طبيعي يماثل الطعام والشراب)، وأن: (المخ البشري ليس معدا تشريحيا ووظيفيا فحسب للإيمان بالله وعبادته وإنما هو أيضا مهيأ عند قيامه بوظيفة العبادة لحفظ سلامة النفس والبدن بتوجيه العمليات الحيوية خلال منظومة عصبية وهرمونية متشابكة)، وبهذا نزداد يقينا في وجود الله تعالى وقدرته وإلا فلا فائدة من الملكات الهائلة الممنوحة للإنسان والتي ميزته عن كافة الأحياء الأخرى في الأرض، وهكذا لم يعد الإيمان بالله تعالى في الدراسات العملية الحديثة ضربا من الفلسفة والخيال الشعبي كما كان يردد الملاحدة بلا مستند في أوائل القرن العشرين، فقد خاب ظنهم أن الإنسان قد صنع ديانته بعدما تأكد أن: (الله قد خلقه متدينا بطبيعته ومؤهلا بقدرات كي يعرفه ويعبده).
الاستغراق في العبادة
وكما يصبح الإنسان نظيفا إذا مارس الوضوء حتى ولو لم يكن مسلما كذلك يناله الخير إذا مارس سلوكيات العبادة كالتفكر والخشوع والتأمل Meditation لأنها توظف مراكز أشبه ما تكون بمراكز الإيمان داخل المخ تعمل على الارتخاء والتخلص من المشاعر السلبية مثل الخوف والقلق والاكتئاب، وينتقل الإنسان من حالة الاستنفار والتوتر إلى حالة الراحة والسكينة حتى ولو لم يكن لصاحبها نصيب في ثواب الآخرة، وبإعلان مراكز الإيمان عن نفسها يمكن كشفها إذا وجدت التقنية المناسبة، وباستخدام تقنية خاصة في التصوير بالأشعة السينية تجعل في الإمكان معاينة التغير في نشاط مختلف المناطق الوظيفية بالمخ أمكن تحديد مناطق تختص بالتركيز الفكري بالفص الجبهي (الناصية) يزداد نشاطها أثناء تلك الخبرة التأملية، ولكن تغير النشاط في منطقة الفص الصدغي التي تجعل الإنسان يدرك وجهته بالفراغ كان ملفتا للنظر، ويفترض نيوبيرج أن تغير نشاط تلك المنطقة يفسر إحساس الزهاد الذين بلغوا في صلواتهم درجة استغراق عميقة بانتقالهم بعيدا عن العالم الفيزيائي حولهم إلى حالة روحية لا يدركها غيرهم إلا بمعايشة نفس التجربة، وهم خلال تلك الحالة من التحليق الروحي والتسامي الإيماني يشعرون خلال أداء الأذكار والصلوات بعدم الاهتمام بالعالم الفيزيائي المحيط وأنهم في حضرة جلال أسمى ومعية ذات عليا قاهرة تأسر الفؤاد وتملك الوجدان يتضاءل معها كل شيء ويفقد أهميته.
نشرت عدة دراسات علمية تبين كيف أن الإيمان بالله فطرة مغروسة في النفس البشرية وتوظيف آلياتها بالعبادة طريق إلى الصحة والسعادة. منه كتاب(الإيمان بالله مغروس بقوة داخل جيناتنا) للمؤلف ديان همر 2005وكتاب (الإيمان والصحة) لجيف ليفن ولارسي. وكتاب (الإيمان صحة وفلاح) ل(أدروبريمان).
وهكذا تأكد أن الاستغراق في العبادة يفتح آفاقا من الشعور بالتسامي ويقدم عونا على التخلص من آلام ومعاناة النفس والشفاء من الاضطراب كالقلق والتوتر والكآبة وتأثيراتهم البدنية، وتكرر الممارسة بانتظام يجدد القدرات بالانتقال إلى عالم تسترخي فيه النفس وتستريح من الضغوط، وفي تلك الحالة يُفقد الاهتمام بالعالم الخارجي رغم تزايد التنبه والوعي والجلاء أو تزايد الشعور به بل ربما عند درجة ما تزداد القدرة على احتمال الألم العضوي، قال د. لورنس ميكيني عميد المؤسسة الأمريكية لعلاج الاضطرابات الذهنية: (إن ممارسة التأمل العميق باعتباره صوره من الخشوع قد يساعد في حد ذاته على التغلب على الشعور بالألم النفسي والإحباط ويعيد التوازن في توزيع النشاط في مراكز المخ ويفرغ شحنات الشعور بالتعاسة وفقدان الأمل حتى عند غير المؤمنين)، وما يهمنا نحن المسلمون هو أن الشريعة الغراء قد سبقت في الحث على ذكر الله وإقامة الصلاة ونوهت بدور الإيمان والخشوع في راحة النفس؛ قال تعالى: “الّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوبُ. الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ طُوبَىَ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ“(الرعد: 28، 29).
ومن توجيهات القرآن الكريم أن الخشوع في العبادة مفتاح السعادة؛ قال تعالى:”قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ” (المؤمنون 1، 2)، وفي الأثر قول النبي محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ آمرا بالأذان: (أرحنا بها يا بلال)(4)، ولنا أبلغ الأثر في قصة التابعي عروة بن الزبير عندما أصيبت قدمه بمرض يستلزم بترها أيام الخليفة الوليد بن عبدالملك فطلب ألا يقطعوها إلا أثناء الصلاة تجنبا للألم(5).
ووفق ما قاله د. ميكيني قد بدأت الدراسات النفسية الدينية في الستينيات من القرن الماضي عندما ذهبت مجموعة من الباحثين الأمريكيين إلى الهند لدراسة الموجات الكهربية للدماغ EEG لممارسي اليوجا، وفي عام 1980 أطلق ميكيني ومساعدوه مصطلح (الدراسات النفسية الدينية Neurotheology) وأخرج عام 1994 كتابه بنفس الاسم، ويقدم هذا العلم الجديد تأييده التام للحقيقة الجوهرية في الدين وهي الإيمان بالله، قال ميكيني : (ويكفي أننا قد أوجدنا طرقا عملية لقياس الأنشطة الفكرية ولم يعد الإيمان بالله والمشاعر خلال الممارسات الدينية نشاطا فكريا غير قابل للتجربة والإثبات، ومن تلك التقنيات الجديدة طريقة التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي (MRI) functional magnetic resonance imaging وقد أكدت نتائج نيوبيرج بالفعل)، وبالمثل أكدت مجموعات طبية أخرى تلك النتائج منها فريق في بوسطن قام بفحص عدة متطوعين باستخدام تقنية الرنين المغناطيسي MRI فأكد وجود النشاط غير العادي خلال فترات الاستغراق التعبدي لمناطق التركيز الفكري، واكتشف تغيرات في نشاط مناطق أخرى بالمخ تتعلق بالإثارة Excitabilit، ووجد فريق آخر بقيادة د. دوسيك عميد المعهد الطبي للأبحاث الذهنية تغييرا ملحوظا كذلك في نشاط مراكز بالمخ تتعلق بالذاكرة.
ويقول د. بليتريني من جامعة بيزا في إيطاليا: (إن كل شيء نفعله أو نستشعره من نشاط بسيط كحركة إصبع إلى أعمق الانفعالات العاطفية الخبيئة بالنفس أو البادية مثل الغضب والحب يرسم خريطة مميزة المعالم للمراكز المتأثرة بالمخ ويصاحب كل شعور نموذج محدد يمكن تسجيله وتحليله كالتحاليل الطبية العضوية تماما، وهذا المجال الجديد لاستطلاع دخيلة الإنسان من عواطف ومشاعر وأفكار ومدى تأثره بالاعتقاد الديني ساحر حقا، ويدخل فيه الباحثون اليوم بحذر حريصين على المنهج العلمي في البحث والتحليل كبقية مجالات العلوم التجريبية)، ويقول د. مايكل ماكلوف من جامعة دالاس بالولايات المتحدة الأمريكية: (يتأثر الوجدان النفسي الروحي بالعالم الخارجي ويؤثر في الجسد ويمثل الإيمان والعبادة صمام أمان لتلك التأثيرات الطبيعية، وقد أفضت دراسته إلى أن الطبيعة البشرية مصممة بحيث تحفظها العبادة في توازن تام وتقيها الاضطراب).
وفي تحليل شمل 42 دراسة ميدانية واسعة وجد د. ماكلوف أن معدل الوفيات يقل بالاستغراق في الصلوات وبقية العبادات، وهذا التأثير مستقل عن عوامل أخرى مضرة بالصحة كتناول الخمور والتدخين، ولم يفت د. نيوبيرج أن يعلق على تلك النتيجة العجيبة بقوله: (نحن لا ندري حتى الآن على وجه اليقين كيف يؤدي الإيمان العميق والاستغراق في العبادة إلى الحفاظ على سلامة النفس وصحة البدن ومكافحة المرض وإطالة العمر، ولكن معرفتنا لآليات عمل الجسم البشري خاصة المخ تؤهلنا لتلمس آفاقا جديدة من البحث لنثبت يوما ما بحيادية وجود تأثيرات عضوية للإيمان والعبادة ندرك منها اليوم استقرار عدد ضربات القلب وضغط الدم والتغير الهرموني كماً ونوعاً والميل العصبي لتحقيق حالة من الهدوء نتيجة الخشوع والاستغراق، وقد تؤدي تلك العوامل وغيرها إلى تنشيط جهاز المناعة)(6).
النشوة الإيمانية
ولا نجد تعبيرا عن قمة الشعور الإيماني سوى ألفاظ كالنشوة والرضا والسعادة والبهجة والنعيم وراحة البال، وتلك الحالة لا يرتقي إليها إنسان بطريق آخر كإشباع لرغبة عابرة أو تحقيق أمل بعيد المنال، ولذا طمح د. نيوبيرج رصد حالة الصفاء والهناء تلك بلا كدر وخز الضمير وعبء شعور بالذنب ليخصها بالوصف، ولكن بلوغ تلك الدرجة وإمكان تسجيلها صعب التحقيق ولذا اكتفى د. نيوبيرج بعدد من الحالات التي مارست بعض ذلك الشعور ووصفته بأنه حالة من الارتياح والخفة والصفاء رغم التنبه للمؤثرات الخارجية، ويصاحب حالة النشوة أو التحليق الروحي تلك زيادة الشعور بالعالم أو ما يسمى بالجلاء الروحي الذي يتكامل عند بلوغ الخشوع غايته حيث الطهارة والسمو والرفعة الروحية وأنفس متعة يمكن تحصيلها، ووفق ما سجله د. نيوبيرج كان شعور الذين خضعوا للتجارب لما حولهم أكثر واقعية ووضوح وجلاء عما اعتادوا خلال أداء الأنشطة اليومية، وكان صحيا ونقيا لم يصاحبه أي نوع من الخوف أو تشويش الذهن أو فقدان الشعور بالزمان والمكان أو الوساوس والهلوسة كما يحدث في حالة الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية وتعاطي المخدرات والإدمان بالعقاقير.
ولم تهدف التجارب في المجال النفسي تلك لتمييز زيف أو صحة الاعتقادات وإنما إلى اكتشاف الآليات حتى عند غير المؤمنين، وهي تبين امتلاك الناس جميعا لأدوات للإيمان تنفعل بالخشوع في العبادة فتحفظ صحة النفس والبدن، وهذه الأدوات تصبح معدومة القيمة ولا عمل لها إذا لم توظفها العبادة مما يؤكد أن الإيمان بالله تعالى فطرة مركوزة في النفس البشرية ويؤيد صدق دعوة الأنبياء جميعا إلى عبادة الله الخالق وحده ويدحض ادعاء المغرضين في أن جوهر الدين في الأصل من ابتداع المخلوقين، وخلاصة تجارب د. نيوبيرج وأمثاله تقول: (إما الرفعة والسعادة والمتعة الحقيقية في العبادة وإما الشقاء والجحيم)، ولو تأمل الباحثون في ذلك المجال الجديد لوجدوا أن ما توصلوا إليه ليس إلا بعض ذخائر القرآن الكريم بصفته الكتاب الجامع للتعاليم الأصلية للرسل أجمعين والحاوي الوحيد لشريعة عالمية غير قومية تنسجم مع الفطرة السوية.
قال السيوطي في الإتقان (ج1ص423): (أخرج البيهقي.. أن رجلاً شكا إلى النبي وجع.. قال:(عليك بقراءة القرآن)، وفي سنن ابن ماجة (ج10ص326): (عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ (خَيْرُ الدَّوَاءِ الْقُرْآنُ)، وفي حاشية السندي على ابن ماجه (ج6ص434) قال: قَوْله (خَيْر الدَّوَاء الْقُرْآن) إِمَّا لأَنَّهُ دَوَاء الْقَلْب فَهُوَ خَيْر مِنْ دَوَاء الْجَسَد وَإِمَّا لأَنَّهُ دَوَاء لِلْجَسَدِ فَتَزْدَاد الْمَزِيَّة..، وشَرْط التَّدَاوِي بِهِ حُسْن الاعْتِقَاد وَمُرَاعَاة التَّقْوَى)، وفي كشف الخفاء (ج2ص95) قال العجلوني: (رواه القضاعي والسجزي عن علي مرفوعا (القرآن هو الدواء) وسنده حسن كما قال المناوي..، وعند سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني عن ابن مسعود موقوفا، وعند ابن ماجه والحاكم وصححه البيهقي عنه مرفوعا: (عليكم بالشفاءين؛ العسل والقرآن)، وعند ابن حبان (ج13ص464) وفي موارد الظمآن (ج1ص343): (عن عائشة أن رسول الله ـ دخل عليها وامرأة تعالجها أو ترقيها فقال: (عالجيها بكتاب الله)، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1931).
وقال د. خالد اللاحم في باب قراءة القرآن بقصد الاستشفاء بكتابه (مفاتح تدبر القرآن والنجاح في الحياة) (ج1ص40): قال تعالى: “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ” (الإسراء:82)، وقال تعالى: “قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء” (فصلت:44)، فالقرآن شفاء للقلوب من أمراض الشبهات والشهوات والوساوس.. وشفاء للأبدان من الأسقام فمتى استحضر العبد هذا المقصد فإنه يحصل له الشفاءان.. بإذن الله تعال)(7). وقال د. وائل أبو هندي: (أنصح كل من يستطيعُ من المرضى أن يقرأ القرآن الكريم بأن يفعل ذلك.. بما في ذلك مرضى الوسواس القهري فإن قراءة القرآن الكريم جزءٌ من علاجهم)(8).
التداوي بالقرآن
وقالت الباحثة ناهد عبد العال الخراشي: (هناك تساؤلا يطرح نفسه: لماذا تعجز المجتمعات الحديثة بالرغم مما لديها من تطور هائل في التكنولوجيا وفي جميع وسائل الحياة عن أن تخلق مجتمعاً آمناً؟ الجواب هو فقد الإيمان، فبعيداً عن الدين انحدرت الفضائل وضاعت القيم والأخلاق، قال وليم جيمس عالم النفس الأمريكي: إن أعظم علاج للقلق هو الإيمان..)، وذكر نهري لينك في كتابه (العودة إلى الإيمان): الذين يترددون على دور العبادة يتمتعون بشخصية أقوى وأفضل ممن لا دين لهم ولا يقومون بالعبادة.
وقال أليكس كاريل في كتابه (دع القلق وأبدأ الحياة): إن أولئك الذين لا يعرفون كيف يتخلصون من القلق يموتون صغار السن..، وقال في مقال منشور: الصلاة هي أقوى شلال للطاقة يستطيع المرء توليده..، وقال توماس هايسلون: إن الصلاة أهم وسيلة عرفت حتى الآن لبث الطمأنينة في النفوس وبث الهدوء في الأعصاب.
فالحياة (إذن) كنز ونفائس وأعظمها الإيمان بالله وطريقها منارة القرآن الكريم، والإيمان إشاعة الأمان، والأمان يبعث الأمل، والأمل يبعث السكينة، والسكينة نبع السعادة حصادها هدوء نفسي، فلا سعادة بلا سكينة نفس، ولا سكينة نفس بغير إيمان، ومما لا شك فيه أن للقرآن الكريم أثر عظيم في تحقيق الأمن النفسي والطمأنينة القلبية والسكينة، والسكينة.. نور يسكن إليه الخائف ويطمئن عنده القلق..، والقرآن الكريم فيه من عطاء الله ما تحبه النفس البشرية وتميل إليه، إنه يخاطب ملكات خفية في النفس.. تنفعل حينما يقرأ الإنسان القرآن، ولذلك حرص الكفار على ألا يسمعه أحد لأن كل من يسمعه سيجد له حلاوة وتأثير قد يجذبه إلى الإيمان، ولا شك أن في القرآن الكريم طاقة روحية هائلة ذات تأثير بالغ الشأن في نفس الإنسان، فهو يهز وجدانه..
ويصقل روحه ويوقظ إدراكه وتفكيره ويجلي بصيرته، فإذا بالإنسان بعد أن يتعرض لتأثير القرآن يصبح إنساناً جديداً، وإن كل من يقرأ تاريخ الإسلام ويتتبع مراحل الدعوة الإسلامية منذ أيامها الأولى ويرى كيف كانت تغير شخصيات الأفراد يستطيع أن يدرك مدى التأثير العظيم الذي أحدثه القرآن الكريم في نفوسهم، وتمدنا دراستنا للتاريخ بأدلة عن نجاح الإيمان بالله في شفاء النفس البشرية من أمراضها وتحقيق الشعور بالأمن بالطمأنينة، وقد بين القرآن ما يحدثه الإيمان من أمن وطمأنينة في نفس المؤمن بقول الله تعالى: “الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ” (الأنعام: 82)
وقوله تعالى:”وَمَن يُؤْمِن بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ“(التغابن:11)
وتتحقق للمؤمن سكينة النفس وأمنها وطمأنينتها لأن إيمانه يمده بالأمل والرجاء في عون الله تعالى ورعايته وحمايته فالإيمان هو الذي يقودنا إلى الأمان والطمأنينة والسعادة)(9).
وقال د. إبراهيم النقيثان: (الصلاة راحة للمؤمن حيث بها يناجي ربه وخالقه، فرسول الله يقول فيما رواه النسائي: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)..، وروى أبو داود عنْ حْذَيْفَةَ قولَه: (كَانَ النّبيّ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلّى)، وروى أحمد أن النبي كان يقول: (يا بلال أرحنا بالصلاة)، وذلك كما يشير فارس علوان (في كتابه وفي الصلاة وقاية) لما: (تضفيه الصلاة على المسلم من أمن واستقرار نفسي وتوازن عصبي وانسجام عقلي كلها ممزوجة براحة الضمير وشعور بالسعادة والبهجة وإشـباع في العـاطفة ولذة في الروح لا تعادلها لذة، هذه المعاني السامية يحسبها غير المصلي هراء ويعدها معاني جوفاء فيبقى محروما منها مهما أوتي من مال أو علم أو ترف)، وذكر عبد الرؤف المناوي في فيض القدير حين شرحه لحديث (قمْ فَصَلِّ ، فَإِنَّ فِي الصلاةِ شِفَاءً) والذي رواه أحمد وابن ماجة ما نصه: (فإن في الصلاة شفاء من الأمراض القلبية والبدنية والهموم والغموم قال تعالى:”وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ” (البقرة:45)، ولهذا كان النبي إذا حزبه أمر فزع إليها، والصلاة.. بالجملة لها تأثير عجيب في حفظ صحة القلب والبدن وقواهما..، لاسيما إذا وفيت حقها من التكميل).
وكما يقرر فارس علوان: (في الصلاة لذة لا يشعر بها إلا من أخلص وجه لله ومتعة لا يتذوقها إلا من استقرت حلاوة الإيمان في قلبه وراحة نفسية قلما توجد إلا عند من خضعت جبهته لله)، ويشير محمد نجاتي (في كتابه الحديث وعلم النفس) إلى أثر الصلاة في جانبها النفسي فيقول: (للصلاة تأثير فعَّال في علاج الإنسان من الهم والقلق، فوقوف الإنسان في الصلاة أمام ربه في خشوع واستسلام وفي تجرد كامل عن مشاغل الحياة ومشكلاتها إنما يبعث في نفس الإنسان الهدوء والسكينة والاطمئنان ويقضي على القلق وتوتر الأعصاب الذي أحدثته ضغوط الحياة ومشكلاتها.. ويبعث في النفس الأمل ويقوي فيها العزم والهمة.. وللصلاة تأثير في علاج الشعور بالذنب الذي يسبب القلق.. وعلى الجملة فإن للصلاة فوائد.. تساعد على شفائه من أمراضه البدنية والنفسية وتزوده بالحيوية والنشاط).
ويؤكد ذلك فارس علوان بقوله: (إن الطمأنينة النفسية والسكينة الروحية وشعور الأمن والاستقرار التي تضفيها الصلاة في قلوب المتقين وألباب الخاشعين تجعل الأمراض النفسية والشعور بالخوف والقلق والغضب والحزن والوحدة القاتلة والأمراض العقلية كالخرف نادرة الحدوث في مجتمع المصلين..، هذه بعض الآثار لهذه العبادة العظيمة، ولحكمة يعلمها الله ـ عز وجل ـ جعلها تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات)(10).
وقال د. رامز طه: (إذا كان البعض يدعى أن الطب النفسي Psychiatry وعلم النفس Psychology لا علاقة لهما بالدين فإنني أؤكد خطأ هذا الادعاء وعدم صحته تماماً خاصة فيما يتعلق بجزئية العلاج النفسي حيث القضية تعديل اعتقادات وأفكار ومفاهيم مرتبطة أشد الارتباط بالأخلاق والعادات والدين، وإن تجاهل الحضارة الغربية لأهمية الجوانب الروحية والدينية وضعها الآن في مأزق وهى تكتشف كل يوم آثار الإيمان والاعتقاد في النشاط النفسي والذهني بل وفى تغيير بيولوجيا الجهاز العصبي وكافة أجهزة الجسم، وعلى سبيل المثال فقد تم التأكد بصورة جازمة على ازدياد قدرة جهاز المناعة على قهر الأمراض المختلفة حتى تلك الأمراض الخبيثة عندما ينجح الإنسان في توظيف طاقات الإيمان الهائلة الموجودة داخله، وقد اعتمد العلاج النفسي على مر العصور على الدين واستعان به للمساعدة على مواجهة لحظات الهزيمة والألم واليأس، وإن إساءة استخدام البعض لهذه الجوانب المشرقة في حياة البشر لا يجعلنا نرفضها وندير ظهرنا لها، وقد أدرك عالم النفس الأمريكي وليم جيمس William James أهمية الإيمان للإنسان لتحقيق التوازن النفسي ومقاومة القلق.
وقد لاحظت من خلال ممارستي الطويلة أن بعض المرضى يعالجون أنفسهم ذاتيا بقراءة القرآن الكريم بعمق وخشوع وتأمل لمعانيه، وأنهم ينجحون غالباً في خفض درجة توترهم والتغلب على مشاعر الخوف والقلق والإحباط والوساوس التي تسيطر على أذهانهم بدرجة كبيرة تساند العلاج الدوائي وأساليب العلاج النفسي الأخرى، ولأن المرض النفسي ذو شقين أحدهما فكري أخلاقي والأخر جسماني فان العلاج يجب أن يتم بمعالجة آلام النفس بالكلمة والمناقشة وتعديل التفكير والسلوك بالإيمان والقيم والأخلاق ومعالجة الجسم الذي اختلت وظائفه بالأساليب الطبية والدواء في علاج تكاملي شامل.
وهكذا لم نبعد كثيراً عما جاء به القرآن الكريم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، قال تعالى:”وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ” (الإسراء: 82)، وقال تعالى: “قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ” (فصلت: 44)(11).
المراجع:
(1) الشخصية المستهدفة للإصابة بالسرطان (د. بدر محمد الأنصاري قسم علم النفس كلية العلوم الاجتماعية جامعة الكويت 1996م).
(2) The Effect of Meditation on the Brain activity using a brain imaging technology called single photon emission computed tomography (SPECT).
(3) عدد من المقالات منشورة بالإنجليزية.
(4) مسند أحمد ج5 ص364 و371.
(5) البداية والنهاية ج9 ص108.
(6) Religion and the Brain، DR. MICHAEL PERSINGER، Is the Brain a Modem for God? By AMY ELLIS NUTT، The brain at prayer، Anne Blair Gould
(7)مفاتيح تدبر القرآن والنجاح في الحياة، د. خالد بن عبد الكريم اللاحم أستاذ القرآن وعلومه المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض، 1425هـ.
(8) د. وائل أبو هندي جواب منشور في موقع إسلام أونلاين محدث الأحد 24 ديسمبر 2006.
(9) أثر القرآن في الأمن النفسي، بتصرف قليل من مقال منشور للباحثة في العلوم الإسلامية الأستاذة ناهد عبدالعال الخراشي.
(10) الصلاة وأثرها على النفس والوجدان) د. إبراهيم بن حمد النقيثان مقال منشور يوم 8/10/1427هـ.
(11) العلاج النفسي الذاتي بالقرآن) د. رامز طه مقال منشور بموقعه (أساليب العلاج النفسي الحديثة وتطبيقاتها).
________________________________
المصدر: موقع الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة
[ica_orginalurl]