جعفر شيخ إدريس
من أين أتى الكون؟.. هذا سؤال طبيعي عن كل شيء له بداية وإن كانت تلك البداية في الزمان، لكن هذا السؤال يصير أكثر إلحاحًا إذا كانت تلك البداية بداية مطلقة للمادة وما يصحبها من زمان ومكان. فما رد الفيزيائي الحديث على هذا السؤال المُلِحّ؟ لقد قرأنا من قبل قول الله –تعالى-:”أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ.أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ” (الطور:36،35).
والمؤمنون بوجود الخالق الحق نوعان: نوع يعترف به ربًا خالقاً مدبراً لكل شيء، لكنه لا يفي بموجبات الربوبية؛ فلا يعبد الله تعالى، ولا يعترف بنبي ولا شرع إلهي، فيكون تصرفه كتصرف الذي لا يؤمن بالخالق تعالى.
ونوع يؤمن بالخالق الحق ربًا واحداً، ويرى أن إقراره هذا يوجب عليه أن يؤمن به إلهاً واحداً لا معبود بحق سواه؛ فيعبده غير مشرك به، ويؤمن برسله وكتبه، ويطيع أمره، ويرجو ثوابه ويخشى عقابه.
لكن العرب الذين أرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم في جملتهم من النوع الأول، فهذه الآيات موجهة إليهم وإلى أمثالهم. وهذه الآيات –إذا لم تقرأ في سياقها- قد يظن أنها لا تخاطب إلا قومًا منكرين لوجود الخالق سبحانه. نعم، إن في الآيات لردًا على المنكرين لوجود الخالق، لكنه رد موجَّه –أيضاً- إلى قوم يدَّعون الإيمان به. فكأن الآيات تقول لأمثال هؤلاء: إن مسلككم في استكباركم عن عبادة الله، أو في الشرك به؛ هو مسلك من يعتقد من الناس أنه لا خالق له، فلا يلزمه أن يعبده، أو مسلك من يعتقد أنه هو الذي خلق نفسه، فهو الذي يملك أمر نفسه ويتصرف فيها كما شاء، أو مسلك من يعتقد أنه هو الذي خلق هذا الكون، فهو مستغن عن الخضوع في أمره لأحد سوى نفسه. فإذا كنتم لا تقولون بشيء من هذا، بل تعتقدون –كما تزعمون- أن لكم رباً واحداً هو الذي خلقكم وخلق هذا الكون حولكم؛ فآمنوا برسوله الذي أرسله إليكم، واعبدوه ولا تشركوا به، ولهذا قال ابن كثير عن هذه الآيات: ((هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية)).
وقعُ الخطاب القرآني
لقد كان لهذا الخطاب القرآني وقع مؤثر جداً على بعض من استمع إليه من أولئك العرب، روى البخاري في صحيحه عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه –رضى الله عنه- قال: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية:”أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ.أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ”(الطور:36،35] كاد قلبي أن يطير)).
قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: (كان جبير قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسرى، وكان إذ ذاك مشركاً، فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك).
فالبراهين القرآنية على وجود الخالق لا تقف عند حد الدلالة على وجوده، كما هو الحال في سائر البراهين الفلسفية والكلامية، بل تتضمن –كما ذكرنا من قبل- الدلالة على استحقاقه وحده للعبادة؛ لأنه لا فائدة في إقرار بوجود الخالق لا تتبعه عبادة والتزام بشرعه.
ولكن إذا كانت الآية الكريمة موجَّهة إلى ذلك النوع من المدَّعين للإيمان بوجود الخالق الذين لا يوفون بموجبات هذا الإيمان؛ فهي بالأحرى موجَّهة إلى من لا يؤمن به أصلاً. وقد كان في العرب بعض من هؤلاء، وإن كانوا قلة.
فالآيات القرآنية هذه تدلنا على أنه يلزم كلَّ منكر لوجود الخالقِ الحق، إما القول بأن الحوادث لا يحدثها شيء بل تأتي من العدم المحض، أو القول بأنها تخلق نفسها، أو القول بوجود خالق غير الله الخالق الحق.
وقد تتبعت أقوال الملحدين من فلاسفة وعلماء طبيعة وآخرين غيرهم، فما وجدتها تخرج عن هذه الدعاوى الثلاثة الباطلة. زعم بعضهم فيما مضى أن بعض الكون أزلي، وقال آخرون بل مادته هي الأزلية، فأعطوها صفة من صفات الخالق، وزعم بعضهم –بعد ثبوت حدوث الكون- أنه خلق من عدم، وزعم آخرون أنه خلق نفسه. وفيما يلي مناقشة لهذه الدعاوى التي ألبست ثوب العلم تارة، وثوب العقل أخرى، أو الثوبين معًا تارة ثالثة.
هل في الفيزياء ما يدل على أزلية الكون؟
نعني بالأزلي ما ليس لوجوده مبتدأ وليس له –بالتالي- منتهى. فإذا صح أن شيئًا ما أزلي، فلا يمكن أن يكون مخلوقاً؛ لأن المخلوق يتقدمه خالقه، فهو بالضرورة حادث، أي إن لوجوده مبتدأ, فهل هذا الكون بكواكبه ونجومه ومجراته، وبما في الكواكب وما بينها من أشياء كلها كانت منذ الأزل كما هي عليه اليوم لم تتغير ولم تتبدل؟ هذه دعوى لا يقول بها عاقل وهو يشاهد ما يحدث في الكون في كل لحظة من حوادث وما يطرأ على موجوداته من تغير. فماذا يعني الذين يقولون بأزلية الكون أو المادة إذن.
التصورات القديمة:
إذا تَطَوُّر أو بالأحرى تَقَهْقُر فكرة أزلية المادة لهي من أطرف ما يقرأ الإنسان في دحض الادعاء بأن العلم التجريبي يسند قضية الإلحاد؛ إذ الواقع عكس ذلك تمامًا.
فتَطَوُّر هذا العلم يُؤازِر قضية الإيمان ويُضعِف بل يُقوِّض أهم الأسس التي يقوم عليها الإلحاد، وهو الزعم بأن المادة أزلية لا بداية لها، أبدية لا فناء لها.
لقد ظل الماديون طوال القرون في أمر مختلف بالنسبة لأزلية المادة، ظنوها بادئ الأمر هذه النجوم والكواكب الضخمة التي يشاهدونها، والتي يُخيَّل لمخلوق ضعيف معدود الأيام كالإنسان أنها أزلية، لأنها فيما يظن بقيت على حالها التي عرفها آباؤه وأجداده وكل البشر قبله؛ فما المانع إذا من أن تكون قد كانت على هذه الحال منذ الأزل؟ وما المانع من أن تظل هكذا إلى الأبد؟ وإذا كانت أزلية فإنها لا تحتاج إلى خالق، وهذا ما عناه الفلاسفة الذين قالوا بقِدَم هذه الأجرام السماوية. وإذا كان هؤلاء قد قالوا بأزليتها، فإن آخرين ومنهم البابليون الذين جادلهم سيدنا إبراهيم –عليه السلام- قد قالوا بألوهيتها وعبدوها.
وقد كان المفكرون المتدينون فيما مضى يجهدون أنفسهم في استخراج الأدلة العقلية على بطلان هذه الفكرة، من ذلك قول الغزالي في تهافت الفلاسفة: ((ما تمسك به (جالينوس) إذ قال لو كانت الشمس مثلاً تقبل الانعدام لظهر فيها ذبول في مدة مديدة والأرصاد الدالة على مقدارها منذ آلاف السنين لا تدل على هذا المقدار، فلمَّا لم تذبل في هذه الآماد الطويلة دلَّ على أنها لا تفسد)).
الاعتراض عليه من وجوه:
الأول: أن شكل هذا الدليل أن يقال: إن كانت الشمس تفسد فلا بد أن يلحقها ذبول، لكن التالي محال –وهذا قياس يسمى عندهم الشرطي المتصل- وهذه النتيجة غير لازمة؛ لأن المقدمة غير صحيحة. ولا نسلم له أنه لا يفسد الشيء إلا بالذبول؛ فالذبول هو أحد وجوه الفساد ولا يبعد أن يفسد الشيء بغتة وهو على حال كماله.
الثاني: أنه لو سلم له هذا، وأنه لا فساد إلا بالذبول؛ فمن أين عرف أنه لا يعتريها الذبول؟ أما التفاته إلى الأرصاد فمحال، لأنها لا تعرف مقاديرها إلا بالتقريب، والشمس التي يقال إنها كالأرض مائة وسبعين مرة أو ما يقرب منه لو نقص منها مقدار جبال مثلاً، لكان لا يتبين للحس، فلعلها في الذبول وإلى الآن قد نقصت مقدار جبال فأكثر، والحس لا يقدر على أن يدرك ذلك لأن تقديره في علم (المناظر) لا يعرف إلا بالتقريب.
وهذا كما أن الياقوت والذهب مركَّبان من العناصر عندهم وهي قابلة للفساد، ثم لو وضعت ياقوتة مائة سنة؛ لم يكن نقصانها محسوساً. فلعل نسبة ما ينقص من الشمس في مدة تاريخ الأرصاد كنسبة ما ينقص من الياقوتة في مائة سنة، وذلك لا يظهر للحس؛ فدل أن دليله في غاية الفساد).
وهذا الذي ذكره الغزالي بذكائه المتوقد احتمالاً قد أثبته العلم الآن يقينًا، فمن المسلَّم به الآن أن الإشعاع الصادر عن الشمس ينقص من كتلتها، وإن كان القدر الذي يُنقصه من ضئيلاً جداً بالنسبة لحجمها.
((تحويل 1% من كتلة الشمس من الهيدروجين إلى الهيليوم يمدُّها بطاقة تكفي لإبقائها مضيئة لمدة 1,000,000,000 عام)).
((إن كمية الطاقة التي ترسلها الشمس هي من العِظَم بحيث أن كتلة الشمس تتناقص بمعدل 4,3 بليون كيلو جرام في كل ثانية! ولكن هذا قدر ضئيل جدًا من كتلة الشمس بحيث أن التغيير هذا لا يكاد يلاحظ.. فالعلماء يعتقدون أن عمر شمسنا 4,5 بليون سنة، وأنها ستستمر في نشاطها هذا إلى4,5 بليون سنة أخرى)).
وإذا كانت كل هذه الأجرام الكبيرة من شمس وأرض وسائر النجوم والكواكب ليست أزلية بل إن لها تاريخًا –ولها بالضرورة نهاية؛ فما هو الأزلي إذن؟
أهي العناصر التي تتكون منها هذه الأجسام من ذهب وحديد وهيدروجين وهيليوم… إلخ؟ ربما كان هذا هو المظنون بادئ الأمر، ولفظة عنصر تشير إلى هذا المعنى. ولكن العلم في تطوره اكتشف أن هذه العناصر هي بدورها مركبة من ذرات.
فهل الأزلي هو هذه الذرات؟
القول بأن كل ما في الكون من أشياء مكون من ذرات قول قديم يعتقد أن أول من قال به الفيلسوف اليوناني (ديقريطس)، وقد تبنت هذا القول بعض الفرق الإسلامية، وكانوا يسمُّون الذرَّة بـ(الجزء الذي لا يتجزأ)، وهو الاسم المطابق للكلمة اليونانية. لكنهم كانوا يعتقدون أن الله –تعالى- هو الذي خلق الذرات ثم خلق منها الكون: لذلك كانوا يقولون أن الخلق جمع وتفريق، أي أن الله –تعالى- إذا أراد أن يحدث شيئًا جديدًا فإنما يكونه من تلك الذرات التي خلقها أولاً.
ولا تنافي بين نظرية الإسلاميين هذه وبين وجود الخالق كما ترى؛ لأنهم لم يكونوا يقولون إن الذرات أزلية، بل يعتقدون أنها مخلوقة.
_________________________
المصدر: كتاب “الفيزياء ووجود الخالق” للكاتب
[ica_orginalurl]