خاص بموقع "المهتدون الجدد"
خلق الإنسان وقدر له رزقه وأجله وكل أمره، فقد قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، والقدر هو ما قدّره الله وقضاه من المقادير؛ أي الأشياء التي تكون؛ فلا يقع شيء في الكون إلا وقد علمه الله في علمه الأزلي، وقضى أن يكون. ومن هنا يأتي الحديث عن القضاء والقدر والعلاقة بينهما وبين الدعاء والعمل.
القضاء والقدر والعلاقة بينهما
ذهب بعض العلماء إلى أنَّ القضاء والقدر مترادفان في المعنى، حيث فسَّر علماء اللغة معنى القدر بالقضاء والعكس بالعكس، فقيل: القدر هو القضاء والحكم. وقد سُئل الشيخ ابن باز -رحمه الله- عن الفرق بين القضاء والقدر فأجاب: “القضاء والقدر، هو شيءٌ واحدٌ، الشيء الذي قضاه الله سابقًا، وقدَّرَهُ سابقًا، يُقالُ لهذا: القضاءُ، ويُقال له: القدرُ”.
ويرى علماء آخرون أن هناك فرقا بين القضاء والقدر، فالقضاء يسبق القدر من حيث الحدوث، ويفسرون هذا في أنَّ القضاء هو ما كتبه الله تعالى على الناس منذ الأزل، أمَّا القدر فهو التنفيذ العملي لما كَتب الله تعالى وموافقة ما أراد الله للناس جميعًا قبل بداية الخلق. وقد قال ابن حجر في كتابه فتح الباري: “قال العلماء: القضاء هو الحكم الكلِّي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله”، وقال أيضًا: “القضاء: الحكم بالكلِّيات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل”.
وقد أظهر الجرجاني الفرق بين القضاء والقدر بتعريفهما على النحو التالي: القدر هو خروج الممكنات من العدم إلى الوجود، واحدًا بعدَ واحدٍ، مطابقًا للقضاء، والقضاء هو ما جاء منذ الأزل والقدر هو الذي يحدث ولم يزل قيد الحدوث”.
ويرى بعض العلماء أيضًا أنَّ القدر يسبق القضاء، فالقدر هو ما حكم الله به منذ الأزل والقضاء هو التنفيذ العملي والخلق الفعلي، قال الأصفهاني: “والقضاء من الله تعالى أخص من القدر؛ لأنَّه الفصل بين التقدير، فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع”.
بين الدعاء والقدر
وبناء على ما سبق من تقدير الله تعالى للعبد كل أمره قبل خلقه قد يتبادر إلى أذهان بعض الناس تساؤل حول دور الدعاء، وقد يتطور الأمر إلى شبهة عقلية وهي: لماذا ندعو الله تعالى إذن ما دام كل شيء مقدرا؟
وردا على هذا الأمر نؤكد أن القدر الذي هو القضاء المبرم لا يغيره شيء، ولكن هناك ما يسمى بالقضاء المعلق الذي علق وقوعه على شيء معين؛ مثل زيادة الآجال بسبب صلة الأرحام، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه: “لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بخطيئة يعملها” وفي لفظ: “بالذنب يصيبه”.
ويأتي الرد على هذه الشبهة على لساب الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى، الذي نقله صاحب شرح سنن ابن ماجه في تعليقه على هذا الحديث حيث يقول: “قال الغزالي: فإن قيل: ما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟ فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فإن الدعاء سبب رد البلاء، ووجود الرحمة، كما أن البذر سبب لخروج النبات من الأرض، وكما أن الترس يدفع السهم، كذلك الدعاء يرد البلاء”.
وقد قال أيضا –صلى الله عليه وسلم-: “لا يغني حذر من قدر ولا يرد البلاء إلا الدعاء وإن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان إلى يوم القيامة”. وقد قال الله تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}.
إذن فالدعاء له تأثيره المباشر على القضاء المعلق؛ حيث قد يكون سببا في رده أو تغييره.
بين القدر والعمل
وهناك شبهة أخرى قد يلبسها الشيطان على بعض ذوي النفوس الضعيفة وهي: ما فائدة العمل ما دام كل شيء مقدرا؟
وهذه الشبهة قريبة من الشبهة السابقة الخاصة بالدعاء، وقد شاء الله عز وجل أن يكفينا عناء الرد عليها بكلام الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ حيث عرض لبعض الصحابة مثل هذه الشبهات، فجاءهم الرد ممن لا ينطق عن الهوى.
فقد روي أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فأخذ شيئًا فجعل ينكت به الأرض، فقال: “ما مِنكم من أحدٍ إلا وقد كُتِب مَقعَدُه من النار، ومقعده من الجنَّة”، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتَّكِل على كِتابنا، وندَعُ العمل؟ قال: “اعمَلوا؛ فكلٌّ ميسَّر لِما خُلق له، أمَّا مَن كان من أهل السعادة فيُيسَّر لعملِ أهل السعادة، وأما مَن كان من أهل الشقاء فيُيسَّر لعمل أهل الشقاوة”، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 5، 6].
وروى مسلمٌ عن جابر، قال: جاء سُراقة بن مالكِ بن جُعْشُمٍ قال: يا رسول الله، بيِّن لنا دينَنا كأنَّا خُلِقنا الآن، فيم العملُ اليوم؟ أفيما جفَّت به الأقلام، وجرَت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: “لا، بل فيما جفَّت به الأقلامُ وجرَت به المقادير”، قال: ففيم العمل؟ قال زهيرٌ: ثم تكلَّم أبو الزبير بشيء لم أفهمه، فسألتُ: ما قال؟ فقال: “اعمَلوا؛ فكلٌّ مُيسَّر”، وزاد ابن حبَّان في “صحيحه”: قال سُراقة: “فلا أكون أبدًا أشدَّ اجتهادًا في العمل منِّي الآن”.
إذن فالمسلم مطالب بالأخذ بالأسباب كاملة في حياته بالعمل والتوجه لله تعالى بالدعاء؛ حتى يحقق المهمة التي خلقه الله تعالى من أجلها وهي عمارة الأرض واستخلاف الله تعالى فيها وعبادته حق العبادة.
[opic_orginalurl]