تنقلنا آيات عديدة عن الجبال من عالمي الشهادة والمعنى اللذين نحياهما إلى عالم الغيب الذي ننتظر فيه قيام الساعة…
أ.د. عمرو شريف
من الأمثال التي يستخدمها القرآن الكريم كثيراً “الجبال”. ومن البديهي أن يكون الاستخدام الأكثر شيوعاً مثل “الجبال” هو إظهار أن “رسوخ” هذه المخلوقات يتداعى ويتلاشى هيبة في مواجهة الأمور الجسام المتعلقة بالألوهية.
أمثلة الجبال في القرآن.. بين الرسوخ وتقديس الله عز وجل
“وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ” (الأعراف:143)
فالجبل على رسوخه لم يحتمل تجلي الله عز وجل له، فدُكّ دكاً. وقد صوَّر هذا الموقف من عالم الشهادة بشكل حسي مباشر جلال الله عز وجل (عالم المعنى وعالم الغيب)، فكان أن خرّ موسى صعقاً.
رسوخ الجبال وتوحيد الله عز وجل
“وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً. أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً. وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ” (مريم:89-92).
فالجبال على رسوخها كادت أن تخر هدّا أمام دعوى من يقول إن الله عز وجل قد اتخذ ولدا. إنه مثال من عالم الشهادة يهزنا وينقلنا إلى عالمي المعنى والغيب.
رسوخ الجبال و عظم الأمانة
“إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ” (الأحزاب:72).
فالجبال على رسوخها وشدة تحملها شاركت السماوات والأرض رفض حمل الأمانة، التي هي العقل وحرية الاختيار والتكليف.
إنه مثل يجسد عظم هذه الأمانة، التي وُصف الإنسان عندما قَبلَ حملها بأنه ظلوما لنفسه جاهل بمتطلبات حملها.
رسوخ الجبال والقرآن الكريم
“لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” (الحشر:21)
فالجبل على قساوة حجارته، يتصدع خشوعاً إذا أُنزل عليه القرآن، خشية لله وحذراً الا يؤدي حق الله عز وجل من تعظيم لما في القرآن الكريم من معانٍ. إنها صورة من عالم الشهادة تجسد لنا عالمي المعاني والغيب.
رسوخ الجبال ومكر الظالمين
“وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرهمْ وَعِنْد اللَّه مَكْرهمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال” (إبراهيم:46)
يمكر الذين ظلموا بأنفسهم مكراً شديداً، تزول له الجبال الراسخات فما أدراك بنفوس البشر وقلوبهم؟
جمال الجبال مع رسوخها باب لخشية الله عز وجل
“أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ” (فاطر:27-28).
إذا كان الله عز وجل قد نوَّع بالماء الواحد ثمار النباتات، ووضع سُنّة الاختلاف بين الناس والدواب والأنعام، فإنه جعل الجبال أنواعاً وألواناً كذلك. إن هذا التنوع في عالم الشهادة يجعل قلوب العلماء تمتلئ بخشيته.
إنه تجاوب، وأي تجاوب، بين عالم الشهادة وبين قلوب العلماء (عالمي المعنى والغيب).
إنه تجاوب ينقلهم من التنوع والكثرة في عالم الشهادة إلى جلال التوحيد الذي يغمر القلوب.
الرسوخ ظاهري، ودوام الحال من المحال
“وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ” (النمل:88).
إن تلك الجبال الراسخات والراسيات، التي يراها الإنسان أوتاداً لا تتزحزح، هي في الحقيقة غير مستقرة! تمر بسرعة حركة الأرض حول نفسها و حركتها حول الشمس وداخل المجرة ومع المجرة.
ويحملنا هذا المثل إلى عالم المعنى، فحركة الجبال الناعمة كحركة السحاب، مثلها تماماً انطواء حياتنا الدنيا الزائلة، حيث لا يشعر الكثيرون بانقضائها ويظنون أنهم راسخون مخلدون فيها.
تعطينا حقيقة الجبال الراسخة في عالم الشهادة الدرس في عالم المعنى بأن دوام الحال من المحال.
وأخيراً ، يتلاشى رسوخ الجبال الراسيات عند قيام الساعة
تنقلنا آيات عديدة عن الجبال من عالمي الشهادة والمعنى اللذين نحياهما إلى عالم الغيب الذي ننتظر فيه قيام الساعة، ولا شك أن استخدام “عدم استقرار الجبال وتلاشيها” كمثل لما سيقع يوم القيامة يشير إلى عِظَم أهوال ذلك اليوم.
“ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا. وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا” (الطور:10)
“إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً.وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً. فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً” (الواقعة:4-6)
“فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً.فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ” (الحاقة:13-15)
“يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا” (المزمل:14)
“وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ. وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ . لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ . لِيَوْمِ الْفَصْلِ” (المرسلات:10-13)
“يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ. وَ تَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ” ( القارعة:4-5)
يا إلهي، أكل هذا الثبات والرسوخ سوف يتلاشى؟ نعم .. ما أشده من هول.. سبحان ربي…
________________________________
المصدر: د. عمرو شريف، الوجود رسالة توحيد، القاهرة، نيوبوك للنشر والتوزيع، ط1، 2015
[ica_orginalurl]