تمثل قضية التجسد الإلهي واحدة من أهم نقاط الخلاف العقدي في القرآن الكريم والكتاب المقدس بين المسلمين والمسيحيين. فلا يؤمن المسلمون بهذه القضية، بينما يؤمن المسيحيون بها بل ويتمسكون بها تمسكا شديدا كأحد أهم المعتقدات الدينية لديهم. لذا تعالوا نتعرف على أصل هذه العقيدة في الإسلام والمسيحية من واقع القرآن الكريم والكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد للوقوف على وجه الحقيقة في هذه العقيدة.
القرآن الكريم
لا يجوز التجسد على الله عز وجل، فلا يمكن أن يتجسد بجسد دنيوي، وإلا شابه مخلوقاته فيما لا يليق بألوهيته وربوبيته. فنحن نقرأ في القرآن الكريم:
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الشورى 11:42)
* وتجسده يقتضي تحيزه أي وجوده في حيز معين، وذلك مستحيل عليه تعالى. فهو تعالى محيط بكل شيء ولا يحيط به شيء. فعن ذلك نقرأ:
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (النساء 126:4)
وهو تعالى واسع يسع كل شيء ولا يسعه شيء، فلا يوصف بأنه في الشرق ولا الغرب، فهو موجود في كل مكان. فعن ذلك نقرأ:
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ. بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (البقرة 115:2-117)
* وتجسده تعالى يقتضي إمكانية رؤيته، ولكن الله تعالى لا يمكن أن يراه مخلوقاته في الدنيا على حقيقته الإلهية لأنهم لا يستطيعون إدراك ذاته الإلهية بحواسهم الدنيوية أصلا.
ويمتلئ القرآن الكريم بآيات تؤكد استحالة رؤية الله عز وجل في الدنيا رؤية يدرك بها ذاته الإلهية. فعن ذلك نقرأ على سبيل المثال:
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الأنعام 103:6)
ولقد عاب الله في القرآن الكريم على الأمم السابقة مطالبتهم أنبياءهم برؤية الله. فعن بني إسرائيل نقرأ:
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (البقرة 55:2)
كما نقرأ أيضا:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (البقرة 210:2)
وعن بقية الأمم السابقة نقرأ:
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا. يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا. (الفرقان 21:25-22)
بل إن الأنبياء أنفسهم لم يتمكنوا من رؤية الله تعالى، فعن النبي موسى نقرأ:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (الأعراف 143:7)
وإن النبي محمد وإن كان ارتقى إلى سدرة المنتهى بالأفق الأعلى في رحلة الإسراء والمعراج، إلا أنه لم ير الله عز وجل رؤية يستطيع بها إدراك ذاته عز وجل. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم ولكن قد رأى جبريل في صورته وخلقه ساد ما بين الأفق” (رواه البخاري)
وعن مسروق قال قلت لعائشة رضي الله عنها يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه. فقالت: “لقد قف شعري مما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب ثم قرأت لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب…” (رواه البخاري)
فلم ير النبي محمد سوى نور غامر، فعن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: “نور أنى أراه” (رواه مسلم)
ولذلك، فلا يمكن النظر إلى الإله في الدينا وفقا للقرآن الكريم إلا إذا كان إلها باطلا مثل عجل بني إسرائيل. فعن ذلك نقرأ:
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (طه 97:20)
ويخبرنا القرآن الكريم أنه لا يمكن النظر إلى الله عز وجل إلا في الآخرة وبكيفية لا يعلمها أحد إلا الله. فعن ذلك نقرأ:
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (القيامة 20:75-23)
* وتجسده تعالى يقتضي إمكانية التكلم معه والتحدث إليه بدون حجاب، وذلك متعذر في الدنيا. فعن ذلك نقرأ في القرآن الكريم:
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (الشورى 51:42)
وعلى الرغم من أن القرآن الكريم يخبرنا أن الله كلم بعض أنبيائه ورسله في الدنيا، إلا أنه لم يكلمهم بدون حجاب.
ولذلك عاب الله تعالى على الأمم السابقة مطالبتهم أنبياءهم أن يتكلم الله إليهم. وعن ذلك نقرأ في القرآن الكريم:
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (البقرة 118:2)
أما في الآخرة، فيمكن أن يتكلم الله إلى خلقه ولكن بكيفية لا يعلمها أحد إلا هو والدليل على ذلك أن القرآن يخبرنا أن الله لن يكلم الكافرين في الآخرة، فمعنى ذلك أنه سيكلم المؤمنين. ففي القرآن الكريم نقرأ:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (البقرة 174:2)
* وتجسده تعالى يجيز عليه الإنجاب والولد، ولكن ذلك متعذر بنص القرآن الكريم لما فيه من المشابهة للحوادث، أي المخلوقات، التي لا تليق بذاته تعالى الإلهية. وعن ذلك نقرأ في القرآن الكريم:
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ. بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (البقرة 116:2-117)
وينفي القرآن الكريم الولد عن الله ويؤكد أن السيد المسيح عبد الله ورسوله، فنحن نقرأ:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا. لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (النساء 171:4-172)
_________
المراجع:
1- القرآن الكريم
2- صحيح البخاري
3- صحيح مسلم
_________
اقرأ أيضا:
هل التجسد جائز على الله؟ (2/2)
[opic_orginalurl]