د.عبد المعطي الدالاتي
رُبَّ سارٍ والسُّحْبُ قد لَفَّتِ النّجم *** فحـار الســـارونَ عبر القفــارِ
سَــفَرَ الفجــرُ فاســتبانَ خُـــطاه *** فــرآها اهتـــدتْ بــلا إبصـارِ
“ليوبولد فايس” نمساوي يهودي الأصل، درس الفلسفة والفن في جامعة فيينا ثم اتجه للصحافة فبرع فيها، وغدا مراسلاً صحفياً في الشرق العربي والإسلامي، فأقام مدة في القدس.
ثم زار القاهرة فالتقى بالإمام مصطفى المراغي، فحاوره حول الأديان، فانتهى إلى الاعتقاد بأن “الروح والجسد في الإسلام هما بمنزلة وجهين توأمين للحياة الإنسانية التي أبدعها الله” ثم بدأ بتعلم اللغة العربية في أروقة الأزهر، وهو لم يزل بعدُ يهودياً.
قصتــه مع الإســلام
كان ليوبولد فايس رجل التساؤل والبحث عن الحقيقة، وكان يشعر بالأسى والدهشة لظاهرة الفجوة الكبيرة بين واقع المسلمين المتخلف وبين حقائق دينهم المشعّة، وفي يوم راح يحاور بعض المسلمين منافحاً عن الإسلام، ومحمّلاً المسلمين تبعة تخلفهم عن الشهود الحضاري، لأنهم تخلّفوا عن الإسلام ففاجأه أحد المسلمين الطيبين بهذا التعليق: “فأنت مسلم، ولكنك لا تدري !”.
فضحك فايس قائلاً: “لست مسلماً، ولكنني شاهدت في الإسلام من الجمال ما يجعلني أغضب عندما أرى أتباعه يضيّعونه”!!.
ولكن هذه الكلمة هزّت أعماقه، ووضعته أمام نفسه التي يهرب منها، وظلت تلاحقه من بعد حتى أثبت القدر صدق قائلها الطيب، حين نطق ( محمد أسد ) بالشهادتين(1).
هذه الحادثة تعلّمنا ألا نستهين بخيرية وبطاقات أي إنسان، فنحن لا ندري من هو الإنسان الذي سيخاطبنا القدر به؟!
ومن منا لم يُحدِث انعطافاً في حياته كلمةٌ أو موقفٌ أو لقاء؟!
من منا يستطيع أن يقاوم في نفسه شجاعة الأخذ من الكرماء؟!
لقد جاء إسلام محمد أسد رداً حاسماً على اليأس والضياع، وإعلاناً مقنعاً على قدرة الإسلام على استقطاب الحائرين الذين يبحثون عن الحقيقة …
يقول الدكتور عبد الوهاب عزام: “إنه استجابةُ نفس طيبة لمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، وإعجابُ قلب كبير بالفطرة السليمة، وإدراك عقل منير للحق والخير والجمال”(2).
قام محمد أسد بعد إسلامه بأداء فريضة الحج، كما شارك في الجهاد مع عمر المختار، ثم سافر إلى باكستان فالتقى شاعر الإسلام محمد إقبال، ثم عمل رئيساً لمعهد الدراسات الإسلامية في لاهور حيث قام بتأليف الكتب التي رفعته إلى مصاف ألمع المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث.
وأشهر ما كتب محمد أسد كتابه الفذ “الإسلام على مفترق الطرق”.
وله كتاب “الطريق إلى مكة”، كما قام بترجمة معاني القرآن الكريم وصحيح البخاري إلى اللغة الإنجليزية.
لقد كان محمد أسد طرازاً نادراً من الرحّالة في عالم الأرض، وفي عالم الفكر والروح…
يقول محمد أسد:
“جاءني الإسلام متسللاً كالنور إلى قلبي المظلم، ولكن ليبقى فيه إلى الأبد والذي جذبني إلى الإسلام هو ذلك البناء العظيم المتكامل المتناسق الذي لا يمكن وصفه، فالإسلام بناء تام الصنعة، وكل أجزائه قد صيغت ليُتمَّ بعضها بعضاً… ولا يزال الإسلام بالرغم من جميع العقبات التي خلّفها تأخر المسلمين أعظم قوة ناهضة بالهمم عرفها البشر، لذلك تجمّعت رغباتي حول مسألة بعثه من جديد”(3).
ويقول: “إن الإسلام يحمل الإنسان على توحيد جميع نواحي الحياة … إذ يهتم اهتماماً واحداً بالدنيا والآخرة، وبالنفس والجسد، وبالفرد والمجتمع، ويهدينا إلى أن نستفيد أحسن الاستفادة مما فينا من طاقات، إنه ليس سبيلاً من السبل، ولكنه السبيل الوحيد، وإن الرجل الذي جاء بهذه التعاليم ليس هادياً من الهداة ولكنه الهادي..
“إن الرجل الذي أُرسل رحمة للعالمين، إذا أبينا عليه هُداه ‘ فإن هذا لا يعني شيئاً أقل من أننا نأبى رحمة الله !”(4).
“الإسلام ليس فلسفة ولكنه منهاج حياة.. ومن بين سائر الأديان نرى الإسلام وحده، يعلن أن الكمال الفردي ممكن في الحياة الدنيا، ولا يؤجَّل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات الجسدية، ومن بين سائر الأديان نجد الإسلام وحده يتيح للإنسان أن يتمتع بحياته إلى أقصى حدٍ من غير أن يضيع اتجاهه الروحي دقيقة واحدة، فالإسلام لا يجعل احتقار الدنيا شرطاً للنجاة في الآخرة.. وفي الإسلام لا يحق لك فحسب، بل يجب عليك أيضاً أن تفيد من حياتك إلى أقصى حدود الإفادة.. إن من واجب المسلم أن يستخرج من نفسه أحسن ما فيها كيما يُشرّف هذه الحياة التي أنعم الله عليه بها، وكيما يساعد إخوانه من بني آدم في جهودهم الروحية والاجتماعية والمادية.
الإسلام يؤكد في إعلانه أن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال في حياته الدنيا، وذلك بأن يستفيد استفادة تامة من وجوه الإمكان الدنيوي في حياته هو”(5).
ويصف محمد أسد إفاضته مع الحجيج من عرفات فيقول: “ها نحن أولاء نمضي عجلين، مستسلمين لغبطة لا حد لها، والريح تعصف في أذني صيحة الفرح. لن تعود بعدُ غريباً، لن تعود … إخواني عن اليمين، وإخواني عن الشمال، ليس بينهم من أعرفه، وليس فيهم من غريب ! فنحن في التيار المُصطخِب جسد واحد، يسير إلى غاية واحدة، وفي قلوبنا جذوة من الإيمان الذي اتقد في قلوب أصحاب رسول الله … يعلم إخواني أنهم قصّروا، ولكنهم لا يزالون على العهد، سينجزون الوعد(6)“.
“لبيك اللهم لبيك” لم أعد أسمع شيئاً سوى صوت “لبيك” في عقلي، ودويّ الدم وهديره في أذني … وتقدمت أطوف، وأصبحت جزءاً من سيل دائري! لقد أصبحت جزءاً من حركة في مدار ! وتلاشت الدقائق.. وهدأ الزمن نفسه.. وكان هذا المكان محور العالم(7)“.
ويسلط محمد أسد الضوء على سبيل النجاة من واقعنا المتردي فيكتب: “ليس لنا للنجاة من عار هذا الانحطاط الذي نحن فيه سوى مخرج واحد؛ علينا أن نُشعر أنفسنا بهذا العار، بجعله نصب أعيننا ليل نهار ! وأن نَطعم مرارته …
ويجب علينا أن ننفض عن أنفسنا روح الاعتذار الذي هو اسم آخر للانهزام العقلي فينا، وبدلاً من أن نُخضع الإسلام باستخذاء للمقاييس العقلية الغربية، يجب أن ننظر إلى الإسلام على أنه المقياس الذي نحكم به على العالم..
أما الخطوة الثانية فهي أن نعمل بسنة نبينا على وعي وعزيمة…”(8).
وأخيراً يوصينا محمد أسد بهذه الوصية:”يجب على المسلم أن يعيش عالي الرأس، ويجب عليه أن يتحقّق أنه متميز، وأن يكون عظيم الفخر لأنه كذلك، وأن يعلن هذا التميز بشجاعة بدلاً من أن يعتذر عنه !”(9).
——————–
(1) (الإسلام على مفترق الطرق) محمد أسد ص(12)
(2) (مجلة العربي) العدد 497 – مقال د. علي القريشي.
(3) من مقدمة كتابه (الإسلام على مفترق الطرق).
(4) (الإسلام على مفترق الطرق) محمد أسد ص(102-103).
(5) نفسه ص(19-25).
(6) (الطريق إلى الإسلام) محمد أسد ص (7).
(7) نفسه ص (296-308).
(8) (الإسلام على مفترق الطرق) ص (108 – 109).
(9) نفسه ص (78)
——-
* المصدر: كتاب “ربحت محمدا ولم أخسر المسيح”.
[ica_orginalurl]