د. محمد أحمد عزب (خاص بمهارات الدعوة)
شمل الإسلام الأسرة برعايته وأحكامه التي تضمن لها الاستقرار والهناء، ولأن الأسرة هي لبنة المجتمع، والمجتمع هو محل الاستخلاف وعنصره، وعلى مجموعه تقوم شرائع متعددة للإسلام، التي لا يمكن أن تؤدى بغير مجتمع، فقد أولى الإسلام عنايته بلبناته الأولى، ومكوناته التي يتكون منها ويعود إليها.
إن أولى عناصر صلاح المجتمع وعنوان فضله هو المرأة الصالحة، التي اهتم الإسلام بصناعتها، وجعل من كثرة وجودها في المجتمع علامة على الاستقامة والصلاح داخل المجتمع؛ فبصلاحها ترضع الجسم والنفس أولى خطوات الصلاح.
اشتمل القرآن على نماذج فريدة للمرأة الصالحة، التي ترعى أمر الله بكل تجرد وخضوع؛ كمريم ابنة عمران، وأمها، ومن قبلهما أم موسى عليه السلام وأخته وزوجته، وآسية بنت مزاحم، ولئن اختلف أهل العلم في نبوة النساء وحصولها لهم، فيبقى أن منهن فاضلات كاملات بلغن المنتهى في الكمال البشري، وكانت بعض أسباب الكمال تعود إلى الصبر وحسن التبعل وبذل النفس في مرضاة الله تعالى والاعتبار بما عند الله وترك كل نفيس لأجله.
عظمة المرأة وكيف تتولد
تتولد عظمة المرأة وحسن تبعلها في المجتمعات أحيانا بالثقافة الغالبة التي ترثها الفتاة من أمها، وتارة بشيوع ثقافة التبعل وحسن المعاشرة، ويسهم العرف المستقيم في هذه الثقافة؛ فقد تنحرف المجتمعات عن الاستقامة في جانب العقيدة، وتظل ثقافات أخرى وأخلاق مرتبطة بقيم الوحي الذي ورثته من بقايا النبوة، ولقد برز هذا جليًا في أخلاق أهل مكة قبل الإسلام؛ فرغم عبادة الأوثان وانحرافهم الغالب، إلا أن بقايا رسالة الخليل ظل منها ما يتوارثه القرشيون، وهو ما يدرَك من الإشارة الضمنية في قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (التوبة: 19)؛ ففي الآية إشارة لما توارثه أهل مكة من رعاية الحجيج والقيام بشأن البيت، فضلا عما اشتهر عن الكثير منهم من الكرم والشجاعة والنجدة والمروءة، وكله من بقايا رسالة الخليل عليه السلام.
كان هذا ميراث المجتمع، أما حظ المرأة القرشية من هذا الإرث فكان في قمته، تروي كتب الصحاح أن النبي قال:(نِسَاءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ أَحْنَاهُ عَلَى طِفْلٍ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ)[1].
أم هانئ ومكارم نساء قريش
خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- أم هانئ بنت أبي طالب من عمه أبي طالب، وخطبها هبيرة بن عمرو المخزومي فزوجها أبو طالب هبيرة فعاتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أبو طالب: يا ابن أخي، إنا قد صاهرنا إليهم، والكريم يكافئ الكريم، ثم فرق الإسلام بين أم هانئ وهبيرة، فخطبها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كنت أحبك في الجاهلية فكيف في الإسلام؟ وإني امرأة مصيبة، فأكره أن يؤذوك [2].
لقد خاطرت أم هانئ بالاعتذار عن رفضها خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- لها، وآثرت أن تظل بلا زوج ترعى أولادها حتى يكبروا، فعذرها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم كان موقف أم هانئ رضي الله عنها سببًا في هذه المكرمة لنساء قريش قاطبة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: “نِسَاءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكبن الْإِبِلَ”، وبين السبب في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: “أَحْنَاهُ عَلَى طِفْلٍ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ“، قال ابن بطال: “أخبر عليه السلام بما استوجبن ذلك، وهو حنوهن على أولادهن، ومراعاتهن لأزواجهن، وحفظهن لأموالهم، وإنما ذلك لكرم نفوسهن، وقلة غائلتهن لمن عاشرهن، وطهارتهن من مكايدة الأزواج ومشاحنتهن”[3]، ونقل ابن بطال عن المهلب قوله: “في هذا تفضيل نساء قريش على نساء العرب، وذلك لمعنيين:
أحدهما: الحنو على الولد والتهمم بأمره، وحسن تربيته وإلطافه.
والثاني: الحفظ بذات يد الزوج وعونه على دهره. فى هاتين الخصلتين تفضل المرأة غيرها عند الله وعند رسوله، وكذلك يروى عن عمر أنه مدح المرأة التى تعين على الدهر ولا تعين الدهر عليك. وقال الحسن في تفسير هذا الحديث: الحانية التي لا تزوج ولها ولد)[4].
نساء الأنصار وتعظيم شعائر الله
وإذا كان هذا حظ نساء قريش، فإن هذا الفضل وصل لمسامع السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت معلقة على هذا: إن لنساء قريش لفضلًا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقًا بكتاب الله، ولا إيمانًا بالتنزيل؛ لقد أنزلت سورة النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النور: 31) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل[5] فاعتجزت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن يصلين وراء رسول الله-صلى الله عليه وسلم- الصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان[6].
بهذه المعاني لا يمكن للمراة أن تجد سبيلا للخيرية وقد وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- سبيل الخير؛ فالذين يبيتون الليل والنهار يأسون على حظ المرأة!! كأنها خلقت لمكاسب إن لم تدركها خسرت!!، وكأنها في صراع لا ينتهي مع الرجل، أو في معركة حامية الوطيس معه، تزاحمه في كل موقع، فإن لم تدرك ما أدركه عدّت نفسها مضطهدة مكلومة فاتها بعض حقها الواجب لها.
صورة المرأة الصالحة
إن صورة المرأة الصالحة التي تريد الله والدار الآخرة، تريد أن تبني أسرة صالحة، وتبقى محمدتها تتوارثها الأجيال، صورة المرأة القرشية الحانية على الولد، الحافظة لحق الزوج، كريمة النفس، خالية من مكايدة لا تجني منها إلا ضيق الصدر، ونكد العيش، وانهدام الأسرة، وصورة المرأة الأنصارية التي تسارع في أمر الله تعالى فلا ترى في أمر الله حين يبلغها إلا وجوب المسارعة فيه راغبة محبة، فلا تدركها فريضة تتطلب أمرًا إلهيًا إلا قائمة به غير متوقفة أو آنية.
إن استقامة البيوت في حياة الزوجين عماده حسن تبعل المرأة، وخيرية المرأة تدركها بحنوها على أولادها وحسن تبعلها، فحقيق بالمرأة أن تعي أنها ليست في صدام لا يجب أن تؤب منه إلا بحظوظ ومكاسب، وإلا عدّت نفسها في عداد الخاسرين.
فلتنتبه المرأة
إن إحدى مشكلات الأسر اليوم تحول المرأة بعد وضعها لطفلها من ذات زوج إلى ذات ولد، وتنسى في غمرة الأمومة حقوق الزوجية، فيحدث الجفاء بينها وبين من له عليها حق لازم فيتولد من تضييعها لذاك وإهمالها له ما يعرف في علم الاجتماع بـ”الخرس الزوجي”، فإذا ذهبتَ تتحدث عن المرأة الأم التي لا تهمل كونها المرأة الزوجة هاج وماج عليك الشاعرون بالمظلومية طول الوقت، ممن تسممت آذانهم بثقافة المحتل، فكأنك تطلب منها محالًا، أو تكليفًا بما لا يطاق، وكأن المرأة ليست إلا أمًا، وكأن رقبتها ليست مشغولة بغير حق الولد، وتظن أن رعايته على حساب أبيه وإهماله يصب في النهاية في رصيد أبيه، فجاء الحديث يمدح من كانت أمًا رؤوما وزوجا حنونًا، وعابدة سابقة في ميدان الطاعة؛ فهي المستحقِّة كل مكرمة.
[1] متفق عليه ، البخاري (3251) ومسلم (2527).
[2] سبل الهدى ، للصالحي ، تحقيق عادل عبد الموجود ، الكتب العلمية ، 1414هـ ، 1993م: (11/ 236)
[3] شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال (7/ 175)
[4] السابق: (7/ 544)
[5] مِرْطٌ مُرَحَّل: إِزارُ خز فيه علم. وقال الأَزهري: سمي مرحلا لما عليه من تصاوير رَحْل وما ضاهاه. لسان العرب(11/265) مادة (رحل)
[6] تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2575)، وانظر: فتح الباري – ابن حجر (8/ 490)
[ica_orginalurl]