خميس النقيب
جاء النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلةٍ من أشد مراحل الفساد في الأرض والإفسادِ في الحياة، كيف؟
حياة جزيرة العرب قبل مبعث النبي
عقائديًّا: كانت عبادة الأوثان من دون الله: “مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى” (الزمر:3)، وكان هناك أكثر من ثلاثمائة وستين صنمًا حول الكعبة.
نصبوا الأصنامَ حول البيتِ الحرام، وعاثوا في الأرض فسادًا، وفي أماكن أخرى كان هناك عُبَّاد النار، وعبَّاد الشجر والحجر، وعبَّاد الكواكب، وعبَّاد البقر.
اجتماعيًّا: كان الظُّلم للمرأة في كبرها، ووَأدها في صغرها؛ “وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ” (التكوير: 8،9).
وكان الإنسان يُباع ويشترى في سوق النخاسة والعبيد، فضلًا عن انتشار الزِّنا بأنواعه المختلفة!
اقتصاديًّا: شاع التعامُل بالرِّبا، واحتكار فِئة قليلة للمال، وحرمان باقي المجتمع، في طبقيَّةٍ بغيضة؛ ليسَتْ فقراء وأغنياء، بل سادة وعبيد!
سياسيًّا: احتكارٌ للسُّلطة بين بعض زعماء القبائل في عصبيَّة مقيتة، أفسدَت القِيَم والأخلاق، ولا يحكمها سوى الكِبر والصلف والغرور، وكان شعارهم:
ألَا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا
فنَجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينَا
ونشرب إن ورَدْنا الماءَ صفوًا
ويَشرب غيرُنا كدرًا وطِينَا
ولقد نتج عن هذه المنظومة المختلَّة أن دخلَت العربُ في حروب طاحِنة، استمرَّت سنوات طويلة لأَتفه الأسباب؛ مثل داحس والغبراء.
والواقع الخارجي للعرب كان واقعًا مهينًا؛ حيث القوى العظمى من بلاد فارس وبلاد الروم تستذلُّ القبائلَ العربيَّة قاطبة، وما أشبه الليلة بالبارحة!
خروج الأمل بمبعث النبي الخاتم..
بين هذا الحال المؤسِف والواقعِ المرير، يَخرج الأملُ متمثلًا في مولد خير البَريَّة صلوات ربي وسلامه عليه، الأمل في تَغيير هذا الواقع ورَفع المعاناة عن كاهِل البشريَّة، وظهور دعوة الإسلام تسعى في تَقديم الخير للنَّاس في كل نواحي الحياة؛ عقائديًّا واجتماعيًّا، وسياسيًّا وأخلاقيًّا…
بزغ فجرُ الأمل متمثلًا في مولد خَير البشر صلوات ربِّي وسلامه عليه، فكان ميلاده ميلاد أمَّةٍ، وبعثتُه بعثة رَحمة، ومَقدَمُه مقدم رسالة جاءت لتغيِّر مجرى التاريخ، بَيَّض وجهَ الأرض، وعطر نَسيم الكون، ونظم شؤونَ الحياة، غيَّر هذا الواقع السيِّئ، ورفعَ المعاناة عن كاهِل البشَر، وقضى على أبي جهل وظُلمِه، وأثمرَت دعوة الإسلام التي بعثَت الأملَ من جديد؛ (إنَّما بُعِثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاقِ)، فكانت حاجة العالَم إليه صلى الله عليه وسلم حاجة المريض إلى الشِّفاء، والعطشان إلى الماء، والعليلِ إلى الدواء، والنَّظر تتمنَّاه العين العمياء.
هذه الأحوال التي كانت تَعيشها البشريَّة قبل ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم تتشابَه إلى حدٍّ كبير مع الفَترة التي نعاني منها في واقِعنا المعاصر؛ حيث انتشار العُري والميوعة، والاحتكارِ والظُّلم، والكذب والنِّفاق، والخداعِ والخيانة، ومجابهة هذه الأمراض كلها تَبعث الأمل من جديدٍ، وها هي البُشريات نتنسَّم منها طلائع التغيير والإصلاح الذي نَنشده للأمَّتين: العربيَّة، والإسلامية.
نعم، قد تَشتدُّ الأمور سوءًا وتزداد ظُلمَة اللَّيل، لكن يَبقى الأمَل والثِّقة في الله عزَّ وجل ناصر المستضعفين، والمدافِعِ عن عباده الصَّالحين المصلحين، فالله تعالى يُخبرنا في القرآن الكريم بنَصره لعباده: “كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ” (المجادلة:21)، وقال: “إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ” (غافر:51).
وُلد الحبيب، فكان ميلادُه ثورةً على الظُّلم، وبعثُه نجدة للمظلومين، أُطفِئَت نارُ فارس، وزلزلَت عروشُ قيصر، وانهدمَت قصورُ الاستبداد، وسقطَت شرفات الظُّلم، بعد أن كان العالَم غابةً يأكل القويُّ فيها الضَّعيف، ويَلتهم الغنيُّ الفقيرَ.
لذلك يتوجَّب علينا بداية بِناء الروح؛ بالصَّلاة والقرآن، وبناء الثِّقة؛ بالصِّدق والإخلاص، وبناء الاقتصاد؛ بالعمل والأمَل، والقضاء على الفساد ودَحر المفسدين؛ حتى نصل إلى استقلال المجتمع؛ فلا يحتكر القوتَ محتكِرٌ، ولا يتحكَّم في أقوات الناس وأسعار السِّلَع أصحاب الأغراض، وأغنياء الحرب، ومنتهِزو الأزمات.
هذه روعةُ البِناء لدولة الإسلام الأولى بناءً متكاملًا؛ روحيًّا واجتماعيًّا، واقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، بعد مراحل كثيرة من التَّضحيات والمؤامرات، وبَذل الجهد في البناء، متسلِّحين في كلِّ ذلك بالإيمان والثِّقة والأمَل في نصر الله تعالى.
وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فسَادٌ واحتكار، وعُريٌ وخلاعة، وحروب تتمخَّض عن هَتك الأعراض وإزهاق الأرواح، ولن يتغيَّر هذا الحال إلَّا إذا غيَّرنا ما بأنفسنا، واتَّبعنا قرآنَ ربِّنا، وأخذنا بسنَّة نبيِّنا: “إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ” (الإسراء:9)، وعن مالك بن أنس قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (تركتُ فيكم أمرين، لن تَضلُّوا ما تمسَّكتم بهما: كتاب الله، وسنَّة رسوله)؛ رواه في الموطأ.
اللهمَّ اجمع الأمَّةَ على فِطرة الإسلام، وكلمةِ الإخلاص، ودين نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وملَّةِ أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين.
______________________________________
المصدر: بتصرف عن شبكة الألوكة الشرعية
[opic_orginalurl]