الكاتب/ عبد الله بن بيه
في غمرة هذا الحديث والجدل حول العقلانية والعقل، بين طالب لها، ومحذر منها، وناقد لافتقادها لدى المسلمين، كما رشح من خطاب البابا الأخير، يحسن أن نتأمل في العقل ومكانته ومعناه وحدوده.
العقل عند الغربيين Raison من الكلمة اللاتينية Ratio في تعريف مبسط هو: ملكة خاصة بالإنسان من خلالها يمكن أن يفكر.
وهو أداة رقابة الخاطر وصيرورة حركة الفكر إلى القرار والحركة والباعث على الحركة والفعل. وهو أيضًا مجموعة المبادئ وطرق التفكير التي تتيح صواب الحكم على الأشياء والآراء.
إنه من الكلمات غير المحددة المعنى كالحق والخير والشر وليس كالسواد والتمر والبر.
أما العقلانية التي يفسرها الغربيون: بأن الأشياء أصلها ترجع إلى أسباب معقولة. ويختلفون بعد ذلك بين قائل باستقلال العقل عن التجربة سواء كانت مطلقة كما ذهب إليه ديكارت وهو في هذا أفلاطوني.
وقد خاض المسلمون قبل الغربيين في هذا الخلاف منذ القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي دون أن يضعوا حدً فاصلاً بين العقل والعقلانية فقال الشافعي إنه: قوة تمييز بين الأشياء وأضدادها.
وكان منهم من قال: إن العقل غريزة تلزم العلوم البديهية، وقال الآمدي: إنه العلوم الضرورية التي لا خلو لنفس الإنسان منها بعد كمال الآلة وعدم أضدادها. وهذا ما رأيناه عند ديكارت.
وقد جمع بعض العلماء بين ذلك باعترافهم بوجود ضربين مما يشار إليه بالعقل: عقل غريزي وتجريبي بغض النظر عن الحقيقة والمجاز فالعقل يزيد بالتجارب وينقص.
هل للعقل حدود ؟
بعض الفلاسفة الغربيين يرون أنه لا حدود للعقل وتنازل البعض وقال: لا حدود للعقل إلا تلك الحدود التي يضعها العقل. ورأى بعضهم أن المتخيل يمثل حدود العقل.
لكن بعضهم اعترف بأن العقل الإنساني محدود بنهاياته واضطراره بمحيطه الجسدي المادي والاجتماعي الذي يفرض عليه اضطرارات تشير إلى محدوديته.
لعل ذلك ما يعنيه الفيلسوف المغربي المعاصر طه عبد الرحمن عندما يحذر من العقل بواسطة العقل من أجل العقل. وبالنسبة لنا معشر المسلمين ومن يؤمن برسالة سماوية فإن العقل له سقف حيث تكون دائرة الوحي، وهو فضاء ميتافيزيقي فوق سقفه.
ومع ذلك فإن العقل يتعامل مع هذه الدائرة في نطاق الاستحالة العقلية والجواز والوجوب العقليين. وهذا النطاق عندنا معشر المسلمين يجب فيه عدم التعارض فما أحاله العقل لا يجيزه الوحي وما يوجبه العقل يوجبه الوحي.
والجائز وهو حيز الإمكان قد يقرره الوحي وقد ينفيه حيث يكون الحكم في هذه المنطقة للوحي دون اعتراض من العقل الذي يتدخل في منطقة الاستحالة والوجوب ويسلم للوحي في حيز الإمكان.
هذا في ما يتعلق بمجال العقائد حيث يعتبر العقل دليلاً منتجًً منشئ، أما في مجال التشريع فينبغي أن نفرق بين فضائيين: فضاء المعاملات الذي يرجع إلى مصالح البشر حيث يسير العقل إلى جانب الوحي في تكامل وانسجام اختلف العلماء في وصفه فرأى البعض أن الشرع إذا ثبت؛ يقدم على المصلحة التي يقتضيها العقل ورأى البعض الآخر أن الشرع قد فوض للعقل في اعتبار المصالح أساسا للتشريع مع اتفاق الطرفين على أن العقل يظل دليلاً مستكشفا لا غنى عنه.
أما الفضاء الثاني وهو فضاء العبادات التعبدية التي ترتكز أساسا على الوحي فلا سلطان للعقل عليها. ومع ذلك فإنها كما يقول الفهري معقولة في الجملة وإن لم يعقل في التفاصيل كالصلاة ونحوها.
الإسلام ومكانة العقل
لقد نجح المسلمون إلى حد كبير في وقت من الأوقات في إيجاد تساكن وتعايش بين العقل والفلسفة والدين والحياة الروحية.
وبعيدا عن هذا الجدل الفلسفي الذي قد لا يأتي بنتائج أو قد يتكلم به من يخالفه تطبيقا وسلوكا، فما هو موقف الإسلام من العقل؟
لقد كانت مسألة العقل من أهم القضايا الفلسفية التي شغلت المسلمين منذ القرن الثاني الهجري إلى الثامن الميلادي، واشترك في الجدل حولها الفلاسفة والمتكلمون والأطباء والفقهاء، كما يقول الزركشي، ويمكن أن نضيف اللغويين المهتمين بالاشتقاق اللغوي وبالمعاني والمترادفات. وكل نظر إليه من زاوية الاستعمال الذي يخدم فيه.
وقد اختلفت الفرق في تعريفه إلى ألف قول كما يقول بعضهم. يمجد الإسلام العقل مرتبطً بالفضيلة والأخلاق ويعطيه أكثر من اسم كلها تشير إلى حقيقته الراشدة وعلاقته بالحكمة.
فهو العقل والحجر والنُّهي واللب وسمي عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن ارتكاب القبائح والرذائل؛ أي يمنعه من ذلك. وكذا سمي حجرا أيضًا لأنه يحجر صاحبه أي يمنعه من ارتكاب الرذائل. ويفسر العقل أيضًا بأنه نور روحاني به تدرك النفس الأمور أو العلوم الضرورية والنظرية. ويفسر العقل أيضًا بأنه القوة التي بها يكون التمييز بين الحسن والقبح.
الإسلام يجعل العقل مصدرا من مصادر المعرفة الأساسية. بل المصدر الأول المنتج في العقائد والإيمان وأحد المصادر الأربعة المؤسسة في التشريع الإسلامي، كما يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في مستصفاه.
والعقل أحد الضرورات الخمس التي يقوم لها التشريع الإسلامي، إلى جانب الدين والنفس والنسل والمال؛ هذه هي الكليات التي تحكم منظومة التشريع في الإسلام.
والعقل مناط التكليف والأمانة التي حملها الباري جل وعلا للإنسان بعد أن عجزت السموات والأرض والجبال عن حملها. ولهذا حرم الدين الإسلامي المسكرات وكل ما يؤدي إلى تغييب العقل.
ودعا القرآن إلى إعمال العقل والفكر. عندما دعا إلى التدبر والتفكر في آيات الكون وآيات الوحي، وهي دعوة إلى اكتناه أسرار الخلق وحِكَم الأمر “أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ“.
لافتا انتباه الإنسان إلى البرهان القائم في نفسه على نفسه من نفسه “وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون“، وفي الكون من حوله “وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا» «مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ“
وأمر بالتفكر في خلقه والتدبر في وحيه وأمره قال “أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ“،وقال تعالى: “وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ“، وقال سبحانه وتعالى”أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ“؛ فالأمر بالتفكر والتدبر قد ورد بصيغة الخبر والاستفهام ليكون أبلغ في التقرير وأدعى إلى التفكير.
وإنما كان التفكير والتدبر وسيلة لاستبيان حكمة الخلق والمصلحة التي تتضمنها أحكام الحق.
إن هذه المميزات لا توجد في أي دين بهذا الوضوح وهذا التماسك.
مقاصد الشريعة
وانطلاقً من هذا جاءت مقاصد الشريعة تمثل منظومة كاملة ترد الشريعة إلى أصول معقولة تصون مصالح الناس وتدرأ عنهم المفاسد، وذلك بعد أن استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غير الرازي. حسب عبارة الشاطبي.
وأما الاختلاف في التحسين والتقبيح العقليين والصلاح والأصلح بين الفرق الإسلامية، ما هو إلا دليل على مكانة العقل. وهو موضوع سنتحدث عنه لاحقاً.
وكثير من علماء اللاهوت الغربيين الذين اعتنقوا الإسلام كان ذلك بسبب العقلانية التي وجدوها في الإسلام وما وجدوه في ديانتهم من أمور لا تتماشى مع العقل.ثم إن الثورة الفرنسية 1793م عندما كانت تنظم طقوسًً لتمجيد العقل والقضاء على العقائد والممارسات الكنسية، إنما كانت تعبر عن ضيقها بعقائد وممارسات غير عقلانية طبقاً لما كان يراه فلاسفة التنوير.
المصدر: بتصرف من موقع http://www.binbayyah.net/
[ica_orginalurl]