د. علي عمر بادحدح
للإيمان إشراقاته وآثاره، وللعلم فاعليته ودوره، ويبقى للذكاء والفطنة أهميتها التي لا تنكر، وإيجابيهما التي لا تخفي، وتوفر الذهن الوقّاد والعقل السديد ميزة عظمى يتحلّى بها الداعية فلا سذاجة تضيع بها معاني الريادة، ولا طيش ولا خفة تطمس معالم الهيبة، بل عقل فطن يرجع إذا اختلفت الآراء، ويحلل ويدلل إذا فقد الإدراك وغاب التصور، ويتقن ترتيب الأولويات، واختيار الأوقات، وانتهاز الفرص والمناسبات، ويحسن التخلص من المشكلات، ويقوى على الرد على الشبهات، والتكيف مع الأزمات.
وهناك أصناف من المدعوين يحتاج الداعية معهم إلى إقامة الحجة العقلية لإثبات القضية ولعدم اكتفائهم بالأدلة الشرعية من هؤلاء:
1- الكافرون الذين لا يؤمنون بالكتاب والسنة.
2- المعتدُّون بعقولهم المقدمين لها على النص النقلي.
3- المخدوعون بالشبهات.
4- المعاندون الذين يتّبعون الباطل تبعاً لمصالحهم ويسعون إلى إضلال غيرهم.
5- الواقعون تحت تأثير الأوضاع والأعراف الخاطئة حتى ألفوها ورأوها صواباً.
وهناك أساليب كثيرة مستنبطة من الكتاب والسنة في إقامة الحجة العقلية واستخدام الأقيسة المنطقية واستحضار التفكر والتأمل.
وهذه جوانب من هذه الأساليب مع بعض الأمثلة عليها:
(أ)أسلوب المقارنة:
وذلك بعرض أمرين أحدهما هو الخير المطلوب الترغيب فيه، والآخر هو الشر المطلوب الترهيب منه، وذلك باستشارة العقل للتفكر في كلا الأمرين وعاقبتهما للوصول – بعد المقارنة – إلى تفضيل الخير واتباعه ومن أمثلة ذلك:
قال تعالى: {أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} الأنعام [122].
قال ابن كثير في تفسيره: ((هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً أي في الضلالة هالكاً حائراً، فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ووفقه لاتباع رسله ))تفسير ابن كثير (2/172).
وقال تعالى: {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين} التوبة [109].
وقال القرطبي: ((وهذه الآية ضرب مثل لهم، أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم أسس بنيانه على الشرك والنفاق، وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها، وفي هذه الآية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم فهو الذي يبقي ويسعد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه)) تفسير القرطبي (8/265).
ومن الأمثلة النبوية التي تبين خيرات الصلاح والصالحين مع مقارنتها بويلات المعصية والعاصين ما يأتي:
1- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)) أخرجه مسلم، في كتاب البر والصلة، باب: استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء (النووي)(6/ 178).
قال النووي: ((وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والعلم والأدب والنهي عن مجالسة أهل الشر والبدع ومن يغتاب الناس ويكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة)).
2- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة النافلة في بيته (النووي)(6/68).
ولا يخفى ما في المقارنة بين الحي والميت من إقرار العقل وترجيحه ورغبته لما فيه الحياة، وهو الذكر الذي به الحياة القلب.
(ب) أسلوب التقرير:
وهو أسلوب يؤول بالمرء بعد المحاكمة العقلية إلى الإقرار بالمطلوب الذي هو مضمون الدعوة:
من الأمثلة القرآنية على ذلك:
1- قال تعالى {أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون، أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون، أم لهم سلَّم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين، أم له البنات ولكم البنون، أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون، أم عندهم الغيب فهم يكتبون، أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون، أم لهم إله غير الله سبحان الله وتعالى عما يشركون} الطور[3543]. قال ابن كثير في تفسيره: ((هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} أي أوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي لا هذا ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم، وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً)) تفسير ابن كثير (4/244).
وهذه الآية في غاية القوة من حيث الحجة العقلية لأن ((وجودهم هكذا من غير شيء أمر ينكره منطلق الفطرة ابتداءً ولا يحتاج إلى جدل كثير أو قليل، أمّا أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم فأمر لم يدَّعوه، ولا يدَّعيه مخلوق، وإذا كان هذان الفرضان لا يقومان بحكم منطق الفطرة فإنه لا يبقى سوى الحقيقة التي يقولها القرآن وهي أنهم من خلق الله جميعاً )) في ظلال القرآن (6/3399)، والتعبير بالفطرة مقصوده الأمر المقرر بداهة في العقل.
وتأمل هذا الإلزام بالإقرار بربوبية الله وألوهيته فيما ذكره السعدي في تفسيره حيث قال: (( وهذا استدلال عليهم بأمر لا يمكنهم فيه إلا التسليم للحق أو الخروج عن موجب العقل والدين، وبيان ذلك أنهم منكرون لتوحيد الله مكذبون لرسوله ذلك مُستَلزم لإنكارهم أن الله خلقهم وقد تقرر في العقل مع الشرع أنّ ذلك لا يخلو من ثلاثة أمور: إما أنهم خُلقوا من غير شيء أي لا خالق خَلَقَهم، بل وجدوا من غير إيجاد ولا موجد وهذا عين المحال، أم هم الخالقون لأنفسهم هذا أيضاً محال، فإنه لا يتصور أن يوجد أحد نفسه، فإذا بطل هذان الأمران وبان استحالتهما تعين القسم الثالث، وهو أن الله هو الذي خلقهم، وإذا تعين ذلك، عُلمَ أن الله هو المعبود وحده الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له تعالى)) تفسير السعدي (7/195196).
2- قال تعالى {واتل عليهم نبأ إبراهيم، إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون، قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين، قال هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدولي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين} الشعراء [6981 ].
وهنا ستكون الإجابات بالنفي فعقولهم تمنعهم أن يقولوا إنّ أصنامهم تسمع دعاءهم أو تجيب رجاءهم، وهذا يؤدي إلى عدم جدوى هذه الأصنام وبالتالي الاستسلام العقلي بوجود وألوهية الخالق الذي جاء في هذه الآيات وصف أفعاله سبحانه وتعالى.
ومن الأمثلة الحديثية:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال مستنكراً ومسترشداً: يا رسول الله ولد غلامٌ أسود، فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال ما ألوانها؟ قال: حُمر، قال: هل فيها من أورق؟ أورق: أي: أسمر النهاية في غريب الحديث (5/175) قال: نعم، قال: فأنى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: فلعل ابنك هذا نزعة عرق.أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب إذا عرّض بنفي الولد (الفتح9/442).
فهذا الرجل جاء سائلاً مستفتياً عما وقع له من الريبة، فلما ضرب له المثل أذعن، وقال ابن العربي: ((فيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظر)) فتح الباري (9/444).
2- عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ((إن فتى من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتأذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أدنه، فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال أتحبه لابنتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم قال: أتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالتهم، قال فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء)) المسند (5/257).
فهذا الشاب قرَّره النبي صلى الله عليه وسلم في رفض هذا الفعل في صور شتى ثم توصل في آخر الأمر إلى رفض ونفي ما كان يطلب الإذن فيه من الزنا.
ومثل ذلك ما فعلته أم سليم زوجة أبي طلحة كما روى أنس بن مالك: ((اشتكى ابن لأبي طلحة، قال فمات وأبو طلحة خارج. فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً ونحّته في جانب البيت.فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح. وظنّ أبو طلحة أنها صادقة. قال: فبات. فلما أصبح اغتسل، فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات، فصلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان منهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما)) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة، (الفتح) (3/169).
(ج) أسلوب الإمرار والإبطال:
وهو أسلوب قوي في إفحام المعاندين أصحاب الغرور والصلف بإمرار أقوالهم وعدم الاعتراض على بعض حججهم الباطلة منعاً للجدل والنزاع خلوصاً إلى حجة قاطعة تدمغهم وتبطل بها حجتهم تلك فتبطل الأولى بالتبع.
ومن الأمثلة القرآنية:
1- قصة إبراهيم مع النمرود قال تعالى {ألم تر إلى الذين حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} البقرة [258 ].
نقل ابن كثير في تفسيره عن بعض السلف أن قول النمرود أنه يحي ويميت استَدل له بأن أتى برجلين استحقا القتل، فأمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر، ثم قال: ((والظاهر– والله أعلم – أنه ما أراد هذا لأنه ليس يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة، ويوهم أنه فاعل لذلك وأنه هو الذي يحي ويميت)) ثم قال: ((إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذراته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق فإن كنت إلهاً كما تدعي، فأت بها من المغرب، فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت: أي خرس فلا يتكلم وقامت عليه الحجة)) وبين أن المقام الأول كالمقدمة للمقام الثاني، وهذا الأسلوب يثبت بطلان ما ادعاه النمرود في ادعائه الأول. تفسير ابن كثير (1/313).
وقد أحسن صاحب الظلال في توضيح هذا الأسلوب حيث قال ((عرَّف إبراهيم ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد، ولا يمكن أن يزعمها أحد… و هذا الملك يسأله عمن يدين له الربوبية، ويراه مصدر الحكم والتشريع وغيره، قال {ربي الذي يحي ويميت} فهو من ثم الذي يحكم ويشرع))، ثم قال تعليقاً على قوله تعالى {أنا أحي وأميت}: لم يرد إبراهيم عليه السلام أن يسترسل معه في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة، حقيقة منح الحياة وسلبها، هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئاً، وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الحقيقة إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية، وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله {ربي الذي يحي ويميت} إلى طريقة التحدي، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويتعنت ويجادل في الله)) الظلال (1/298).
وعلق بمثل قوله السعدي في تفسير فقال: ((فلما رآه الخليل مموهاً تمويهاً ربما راج على الهمج والرعاع قال إبراهيم ملزماً بتصديق قوله: إن كان كما يزعم {فإن الله يأتي بالشمس..} الآية فأتى (أي إبراهيم) بهذا الذي لا يقبل الترويج والتزوير والتمويه)) تفسير السعدي (1/320).
2- قصة موسى عليه السلام مع فرعون، وهي نموذج مطول في هذا الأسلوب حيث أعرض موسى عن كل اعتراض وشبهة أوردها فرعون ومضى إلى إبطال دعوى الألوهية لفرعون من خلال إقامة الحجة العقلية الظاهرة على ربوبية وألوهية الله، وذلك في الآيات من سورة الشعراء، قال تعالى: {قال فرعون وما رب العالمين، قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين، قال لمن حوله ألا تستمعون، قال ربكم ورب آبائكم الأولين، قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون، قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} الشعراء [2329].
فهنا أعرض موسى عليه السلام عن تهكم فرعون ومضى إلى غايته مقيماً حجته مقرراً قضيته، ثم غض الطرف عن تهمة الجنون الباطلة ولم يستغرق جهده في إبطالها بل مضى في تقوية أدلته ونصرة قضيته، حتى أخذ فرعون وحوصر وفشلت حيلته، وانقطعت تهكماته واتهاماته، وأفحم بالحجج فلجأ إلى القوة وهي حيلة العاجز في ميدان المناظرة والاحتجاج، وهذا دليل على أنه هزم وهذا الأسلوب دليل على كمال عقل موسى عليه السلام وحسن تقريره.
ولا شك أن الداعية مطالب بتفهم هذه الأساليب والإفادة منها ليكتسب فطنة تساعده على تقرير المسائل وإقامة الحجة وسرعة البديهة.
وهذه أمثلة لأئمة ودعاة كانت لهم أقوال ومواقف تبين رجاحة عقولهم وقوة حجتهم.
المثال الأول:
يذكر عن أبي حنيفة أنه حاج قوماً من الملاحدة الدهريين فقال لهم: ما تقولون في رجل يقول لكم إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأثقال قد احتوشها في البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها ولا متعهد يدفعها، هل يجوز ذلك في العقل؟ قالوا: لا، هذه شيء لا يقبله العقل.
فقال أبو حنيفة: يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجري فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها، وسعة أطرافها وتباين أكنافها، من غير صانع وحافظ؟ فهبت القوم وأفحموا (أنظر درء تعارض العقل والنقل (3/127).
المثال الثاني:
طلب الحجاج الحسنَ البصري، فلما دخل عليه قال له الحسن: يا حجاج كم بينك وبين آدم من أب؟ قال: كثير، قال فأين هم؟ قال: ماتوا، فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن (البداية النهاية (9/135).
وهذا المثل على وجازته فيه استخدام العقل بالتفكير والتأمل والوصول إلى النتيجة التي فيها العظة والعبرة.
المثال الثالث:
سأل بعض النصارى القاضي أبا بكر الباقلاني بحضرة ملكهم فقال: ما فعلت زوجة نبيكم؟ وما كان من أمرها بما رميت من الإفك؟ فقال الباقلاني على البديهة: هما امرأتان ذكرتا بسوء، مريم و عائشة فبرأهما الله عز وجل وكانت عائشة ذات زوج ولم تأت بولد، وأتت مريم بولد ولم يكن لها زوج ! البداية والنهاية (9/135).
فكان هذا الجواب في غاية الروعة والإفحام، لأن ذلك الخبيث أراد التعريض والإحراج بقصة حادثة الإفك التي اتهمت فيها عائشة رضي الله عنها، فأجاب الباقلاني بأن هذه فرية برأها الله منها ولكنه قرن ذلك بذكر مريم، ليشير إلى أن براءة عائشة عقلاً أولى، لأنه لو تطرق إلى العقل احتمال الريبة فهو في حق مريم أعظم، فإن قبلتهم أيها النصارى براءتها فيلزمكم قبول براءة عائشة من باب الأولى.
المثال الرابع:
ما ذكره مفتي الديار السعودية سابقاً العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم في مجموع فتاواه (مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل شيخ (1/75) عن الشيخ عبد الرحمن البكري حيث قال ((كنت بجوار مسجد في الهند، وكان فيه مدرس إذا فرغ من تدريسه لعن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وإذا خرج من المسجد مرَّ بي، وقال: أنا أجيد العربية ولكن أحب أن أسمعها من أهلها، ويشرب عندي ماء بارداً، فأهمني ما يفعل في درسه قال: فاحتلت بأن دعوته، وأخذت ((كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد)) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونزعت غلافه ووضعته على رف في منزلي قبل مجيئه، فلما حضر قلت: أتأذن لي أن آتي ببطيخة. فذهبت فلما رجعت.. إذا هو يقرأ ويهز رأسه عجباً فقال: لمن هذا الكتاب؟ هذه التراجم شبه تراجم البخاري هذا والله نفس البخاري !! فقلت لا أدري ! ثم قلت: ألا نذهب لشيخ الغزوي لنسأله – وكان صاحب مكتبة – فدخلنا عليه فقلت للشيخ الغزوي كان عندي أوراق سألني الشيخ من هي له؟ فلم أعرف ! ففهم الغزوي المراد، فنادى من يأتي بكتاب (مجموعة التوحيد) فأتي بها فقابل بينهما فقال: هذا لمحمد بن عبد الوهاب، فقال العالم الهندي مغضباً وبصوت عال: الكافر ! فسكتنا وسكت قليلاً، ثم هدأ غضبه فاسترجع ثم قال: إن كان هذا الكتاب له فقد ظلمناه، ثم صار كل يوم يدعو له ويدعو معه تلاميذه)). فهذه فطنة داعية وذكاء عالم.
المصدر: كتاب مقومات الداعية الناجح للدكتور بادحدح.
[ica_orginalurl]