مظاهر رحمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حفلت بها سيرته وحياته، وامتلأت بها سنته، فرحم الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمرأة والضعيف، واليتيم والفقير، والعمال و الخدم وجاء بشريعة كلها خير وعدل ورحمة للعباد، قال تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ” (الأنبياء:107) ..
مواطن الرحمة النبوية في معاملة الخدم
ومن مواطن ومظاهر الرحمة إحسان معاملة الخدم وإعطاؤهم حقوقهم، وكانت سيرته وسنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير شاهد على معاملتهم معاملة إنسانيَة كريمة، والشفقة عليهم، والبر بهم، وعدم تكليفهم ما لا يطيقون من الأعمال، والتواضع معهم، بل جعلهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إخوانا لمن يعملون عندهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (..إخوانكم خَوَلُكم(خدمكم) جعلهم الله تحت أيديكم..)(البخاري) .
وحقوق الخدم والعمال في سنة وهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرة، منها:
المسارعة في إعطائهم أجرهم:
ألزم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صاحب العمل أن يُوَفِّيَ العامل والخادم أجره المكافئ لجُهده، دون ظلم أو تأخير.. فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) (ابن ماجه).
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره) (البخاري).
الحذر من إيذائهم:
حذر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من إهانتهم أو ضربهم، أو الدعاء عليهم، فعن أبى مسعود الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ قال: (كنت أضرب غلاما لي، فسمعت مِنْ خلفي صوتا: اعلم أبا مسعود، لله أقدر عليك منك عليه.. فالتفتُ فإذا هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: يا رسول الله هو حر لوجه الله، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أما لو لم تفعل للفحتك النار ـأو لمستك النارـ ) (مسلم).
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (لا تَدْعُوا على أنفسكم، ولا تَدْعُوا على أولادكم، ولا تَدْعُوا على خَدَمكم، ولا تَدْعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعة يُسْألُ فيها عطاء فيستجيب لكم) (أبو داود).
الشفقة بهم:
من حقوق الخدم والعمال في سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عدم تكليفهم ما لا يطيقون من العمل، والشفقة بهم، بل والإنفاق والتصدق عليهم، ومساعدتهم فيما يكلفون من أعمال..
عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (..إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) (البخاري).
وعن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: (أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصدقة، فقال رجل: عندي دينار؟ قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي آخر؟، قال: أنفقه على زوجتك، قال: عندي آخر؟ ، قال: أنفقه على خادمك، قال: إن عندي آخر، قال أنت أبصر..) (ابن حبان).
وقد رغب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التواضع معهم، فقد روى البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي في شعب الإيمان، عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما استكبر من أكل معه خادمه..) ..
العفو:
مع ما قد يحصل من الخدم من بعض المخالفات والأمور التي يستحق بعضهم أن يعاقب عليها، كان شأنه وهديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ العفو والتجاوز.. فعن العباس بن جليد الحجري قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: (جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال يا رسول الله : كم نعفو عن الخادم؟، فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة) (أبو داود).
ومعلوم أن حياة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت تطبيقاً لأقواله، ومن ثم فإن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها- تصف حاله مع خادمه فتقول: (ما ضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيئا قَطْ بيده، ولا امرأة، ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله..) (مسلم).
وشهادة الخادم عن سيده صادقة ودقيقة، وخاصة من رجل كأنس ـ رضي الله عنه ـ ، الذي خدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ونقل عنه آلاف الأحاديث، وكان معه كظله، فما رأى منه إلا حسن المعاملة والحلم والرفق..
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: (كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أحسن الناس خُلُقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفى نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله – صلى الله عليه وسلم -.. قال: فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك، فقال : يا أنيس اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله ..) (أبو داود).
وعن ثابت عن أنس قال: (خدمتُ النبي – صلى الله عليه وسلم – عشر سنين بالمدينة وأنا غلام، ليس كل أمري كما يشتهى صاحبي أن أكون عليه، ما قال لي فيها أف قط ، وما قال لي لم فعلتَ هذا، أو ألَّا فعلت هذا) (أبو داود)..
وقد امتد اهتمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالخدم لتشمل غير المؤمنين به، كما فعل مع الغلام اليهودي الذي كان يعمل عنده خادماً.
عن زيد عن ثابت عن أنس: قال: (كان غلام يهودي يخدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمرض، فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار) (البخاري) ..
لقد أصَّل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للعمال و الخدم من الحقوق، وشرع لهم من الآداب ما يتناسب مع إنسانيتهم والرحمة بهم، في زمنٍ لم يكن يعرف غير الظلم والقهر، ولا شك أنه كلما سعى المخدوم في تحقيقها نال مراده من العامل أو الخادم على أكمل وجه، فراحة الخادم والمخدوم ـ بل والبشرية جمعاء ـ في اتباع أوامر وهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
المصدر: بتصرف يسير عن موقع مقالات إسلام ويب
[ica_orginalurl]