بالرغم من التحريف الممنهج الذي تعرض له الوحي السماوي فيما يسمى الآن بـ”الكتاب المقدس”، إلا أننا مازلنا نجد فيه بقايا من الحق الذي نزل من عند الله عز وجل. فليس معنى التحريف أن الكتاب كله من عند البشر، وإنما يعني التحريف أن بعضه من عند الله والبعض الآخر مما دسته يد التحريف.
ولقد طال التحريف الإشارات الواضحة إلى مكة المكرمة في الوحي السماوي كما طال قضايا عقدية أخرى أكثر أهمية وخطورة في الكتاب المقدس. ولا عجب، فإذا نسب إلى الله الاستراحة والندم تشبيها له بالبشر حتى تتسنى نسبة الولد إليه، ودُس وصف “الوحيد” ونسب إلى عيسى عليه السلام تمييزا له عن باقي أبناء الله في الكتاب المقدس حتى يستقيم اعتقاد ألوهيته، ونسب شرب الخمر والسكر والزنا إلى أنبياء الله ورسله توطئة للإيمان بالخلاص المزعوم الذي جاء به عيسى، وطمست أغلب البشارات بالنبي محمد وأُنكر ما تبقى منها وحمل على غير محمله، فليس من الغريب أن تطمس الإشارات الجلية إلى مكة المكرمة.
وعلى الرغم من كل هذا التحريف والتشويش والتعمية، إلا أنه مازالت في الكتاب المقدس إشارات إلى مكة المكرمة، منها ما هو مباشر ومنها ما هو غير مباشر. ومازالت هناك تساؤلات لا يستطيع المحرّفون الإجابة عليها بالرغم من طمسهم لمعظم الحقائق وعدم تركهم إلا للنزر اليسير مما نزل في كتب الله.
الإشارات المباشرة إلى مكة المكرمة
بكة
وردت الإشارة في الكتاب المقدس إلى “بكة” وهو اسم من أسماء مكة المكرمة الواردة في القرآن الكريم. ففي القرآن الكريم، يقول الله تعالى:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (آل عمران 96:3)
فكما استعمل القرآن الكريم “بكة” للإشارة إلى مكة المكرمة، استعمل الكتاب المقدس نفس الكلمة للإشارة إلى مكة المكرمة أيضا. وفيما يلي نص المزمور في العدد السادس من الإصحاح الرابع والثمانين كما ورد في معظم النسخ الإنجليزية من الكتاب المقدس لاسيما النسخة الدولية الجديدة:
As they pass through the Valley of Baka, they make it a place of springs; the autumn rains also cover it with pools. (Psalm 84:6)
وكما اعتدنا من محرّفي كلام الله، ترجمت كلمة “بكة” الصريحة ترجمة خاطئة متعمدة في النسخ العربية من الكتاب المقدس إلى “البكاء”. وفيما يلي الترجمة العربية للعدد السابق:
عَابِرِينَ فِي وَادِي الْبُكَاءِ، يُصَيِّرُونَهُ يَنْبُوعًا. أَيْضًا بِبَرَكَاتٍ يُغَطُّونَ مُورَةَ. (مزمور 6:84)
والسؤال الآن لمن له معرفة باللغة الإنجليزية: هل كلمة “بكاء” العربية هي الترجمة الصحيحة لكلمة “Baka” وهي اسم علم؟
إن الإصحاح الرابع والثمانين يخبرنا عن أماكن مقدسة فيها ديار للرب وهي أماكن تشتاق بل تتوق إليها النفوس وتهتف فيها القلوب بالإله الحي ويسبح الله فيها وبها واد اسمه “بكة” وهي أماكن جافة قربها خيام ينبع فيها ينبوع واليوم فيها خير من ألف يوم. ألا تتشابه هذه الأوصاف مع الأوصاف التالية الواردة في القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام:
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (إبراهيم 37:14)
ألا تتشابه هذه الأوصاف مع ما روي عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟ فعن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام” (رواه البخاري في صحيحه)
والحقيقة أن كل هذه الأوصاف تنطبق على مكة المكرمة. وإذا كان المراد بهذه الأماكن أماكن قرب صهيون، فأين هذه الأماكن القريبة من صهيون التي تشتاق النفوس وتتوق إليها وتهتف فيها القلوب بالإله الحي ويسبح الله فيها وبها واد اسمه “بكة” وهي أماكن جافة قربها خيام ينبع فيها ينبوع واليوم فيها خير من ألف يوم؟
فاران أو باران
كثيرا ما يشار إلى مكة المكرمة في الكتاب المقدس بكلمة “فاران”، وإننا لا نجزم بأن هذه الكلمة اسم لمكة المكرمة في الكتاب المقدس قطعا، وإنما تشير إليها نظرا للدلائل والقرائن الواردة في سياقها. ولا ندري هل “فاران” اسم قديم لمكة المكرمة أم أن يد التحريف طمست ذكر مكة المكرمة ودست بدلا عنها كلمة “فاران”.
ويخبرنا الكتاب المقدس أنه قد نبع بئر ماء في برية فاران شربت منه السيدة هاجر وسقت منه ولدها. ويتسق ذلك مع ما أوردناه سلفا من أنه ينبع ينبوع للعابرين في وادي “بكة”. إذا، وادي “بكة” ينبع به ينبوع وبرية “فاران” ينبع فيها ينبوع أيضا. فنحن نقرأ في الكتاب المقدس ما يلي:
فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَأَخَذَ خُبْزًا وَقِرْبَةَ مَاءٍ وَأَعْطَاهُمَا لِهَاجَرَ، وَاضِعًا إِيَّاهُمَا عَلَى كَتِفِهَا، وَالْوَلَدَ، وَصَرَفَهَا. فَمَضَتْ وَتَاهَتْ فِي بَرِّيَّةِ بِئْرِ سَبْعٍ. وَلَمَّا فَرَغَ الْمَاءُ مِنَ الْقِرْبَةِ طَرَحَتِ الْوَلَدَ تَحْتَ إِحْدَى الأَشْجَارِ، وَمَضَتْ وَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ بَعِيدًا نَحْوَ رَمْيَةِ قَوْسٍ، لأَنَّهَا قَالَتْ: «لاَ أَنْظُرُ مَوْتَ الْوَلَدِ». فَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ وَرَفَعَتْ صَوْتَهَا وَبَكَتْ. فَسَمِعَ اللهُ صَوْتَ الْغُلاَمِ، وَنَادَى مَلاَكُ اللهِ هَاجَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: «مَا لَكِ يَا هَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي، لأَنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ لِصَوْتِ الْغُلاَمِ حَيْثُ هُوَ. قُومِي احْمِلِي الْغُلاَمَ وَشُدِّي يَدَكِ بِهِ، لأَنِّي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً». وَفَتَحَ اللهُ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلأَتِ الْقِرْبَةَ مَاءً وَسَقَتِ الْغُلاَمَ. وَكَانَ اللهُ مَعَ الْغُلاَمِ فَكَبِرَ، وَسَكَنَ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَكَانَ يَنْمُو رَامِيَ قَوْسٍ. وَسَكَنَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ، وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. (تكوين 21 :14-21)
وفضلا عن ينبوع الماء، يخبرنا الكتاب المقدس أن سيدنا إسماعيل نشأ وسكن في برية “فاران” وأن الله تعهد بأن يجعل من نسله أمة عظيمة. والآن، لنا أن نسأل: إذا لم تكن “فاران” تشير إلى مكة المكرمة، فأين “فاران” المزعومة التي نبع بها بئر ماء وسكن فيها سيدنا إسماعيل وأنجب بها أمة عظيمة؟ فإذا كانت تقع في فلسطين أو في سيناء أو بينهما كما يدعي المسيحيون، فأين البئر وأين الأمة العظيمة هناك؟ أليس من المعقول أن يكون مكان بهذه الأهمية التاريخية مشهورا ومعروفا للجميع؟ والحقيقة أننا لا نعلم مكانا نبع به بئر لهاجر وابنها سيدنا إسماعيل وسكن به هذا النبي وأنجب فيه أمة عظيمة غير مكة المكرمة.
ومن العجيب أن الأعداد السابقة في الكتاب المقدس تتشابه تشابها كبيرا مع ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله فاتبعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا كداء نادته من ورائه يا إبراهيم إلى من تتركنا قال إلى الله قالت رضيت بالله قال فرجعت فجعلت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها حتى لما فني الماء قالت لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا قال فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت هل تحس أحدا فلم تحس أحدا فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة ففعلت ذلك أشواطا ثم قالت لو ذهبت فنظرت ما فعل تعني الصبي فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقرها نفسها فقالت لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت فلم تحس أحدا حتى أتمت سبعا ثم قالت لو ذهبت فنظرت ما فعل فإذا هي بصوت فقالت أغث إن كان عندك خير فإذا جبريل قال فقال بعقبه هكذا وغمز عقبه على الأرض قال فانبثق الماء فدهشت أم إسماعيل. فجعلت تحفز قال فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم لو تركته كان الماء ظاهرا قال فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها قال فمر ناس من جرهم ببطن الوادي فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذاك وقالوا ما يكون الطير إلا على ماء فبعثوا رسولهم فنظر فإذا هم بالماء فأتاهم فأخبرهم فأتوا إليها فقالوا يا أم إسماعيل أتأذنين لنا أن نكون معك أو نسكن معك فبلغ ابنها فنكح فيهم امرأة قال ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله إني مطلع تركتي قال فجاء فسلم فقال أين إسماعيل فقالت امرأته ذهب يصيد قال قولي له إذا جاء غير عتبة بابك فلما جاء أخبرته قال أنت ذاك فاذهبي إلى أهلك قال ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله إني مطلع تركتي قال فجاء فقال أين إسماعيل فقالت امرأته ذهب يصيد فقالت ألا تنزل فتطعم وتشرب فقال وما طعامكم وما شرابكم قالت طعامنا اللحم وشرابنا الماء قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم قال فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بركة بدعوة إبراهيم صلى الله عليهما وسلم قال ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله إني مطلع تركتي فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلا له فقال يا إسماعيل إن ربك أمرني أن أبني له بيتا قال أطع ربك قال إنه قد أمرني أن تعينني عليه قال إذن أفعل أو كما قال قال فقاما فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم قال حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (رواه البخاري في صحيحه)
جدير بالذكر أن الكتاب المقدس يخبرنا بأن الله تلألأ من جبل “فاران”، فنحن نقرأ:
وَهذِهِ هِيَ الْبَرَكَةُ الَّتِي بَارَكَ بِهَا مُوسَى، رَجُلُ اللهِ، بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَقَالَ: «جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ، وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ، وَتَلأْلأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ، وَأَتَى مِنْ رِبْوَاتِ الْقُدْسِ، وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ شَرِيعَةٍ لَهُمْ…” (تثنية 33 :1-2)
وإننا لا نجد تفسيرا لهذا التلألؤ في الكتاب المقدس، ولكننا نجده في القرآن الكريم. فنحن نقرأ:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الأعراف 157:7)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (المائدة 5 :15-16)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (الشورى 52:42)
الإشارات غير المباشرة إلى مكة المكرمة
أورشليم الجديدة
عندما سئل السيد المسيح عن القبلة التي ينبغي السجود إليها، فذكر أن القبلة ستكون في مكان آخر غير أورشليم. ففي العهد الجديد، نقرأ: قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ! آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ… (يوحنا 4 :19-21)
الطريق المقدسة
مرة أخرى، يحدثنا الكتاب المقدس عن انفجار ينبوع ماء في البرية وسكة وطريق يقال لها “الطريق المقدسة” لا يعبر فيها نجس ومن سلك فيها لا يضل. ففي الكتاب المقدس نقرأ:
“حِينَئِذٍ تَتَفَقَّعُ عُيُونُ الْعُمْيِ، وَآذَانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّحُ. حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الأَعْرَجُ كَالإِيَّلِ وَيَتَرَنَّمُ لِسَانُ الأَخْرَسِ، لأَنَّهُ قَدِ انْفَجَرَتْ فِي الْبَرِّيَّةِ مِيَاهٌ، وَأَنْهَارٌ فِي الْقَفْرِ. وَيَصِيرُ السَّرَابُ أَجَمًا، وَالْمَعْطَشَةُ يَنَابِيعَ مَاءٍ. فِي مَسْكِنِ الذِّئَابِ، فِي مَرْبِضِهَا دَارٌ لِلْقَصَبِ وَالْبَرْدِيِّ. وَتَكُونُ هُنَاكَ سِكَّةٌ وَطَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا: «الطَّرِيقُ الْمُقَدَّسَةُ». لاَ يَعْبُرُ فِيهَا نَجِسٌ، بَلْ هِيَ لَهُمْ. مَنْ سَلَكَ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى الْجُهَّالُ، لاَ يَضِلُّ. لاَ يَكُونُ هُنَاكَ أَسَدٌ. وَحْشٌ مُفْتَرِسٌ لاَ يَصْعَدُ إِلَيْهَا. لاَ يُوجَدُ هُنَاكَ. بَلْ يَسْلُكُ الْمَفْدِيُّونَ فِيهَا. وَمَفْدِيُّو الرَّبِّ يَرْجِعُونَ وَيَأْتُونَ إِلَى صِهْيَوْنَ بِتَرَنُّمٍ، وَفَرَحٌ أَبَدِيٌّ عَلَى رُؤُوسِهِمِ. ابْتِهَاجٌ وَفَرَحٌ يُدْرِكَانِهِمْ. وَيَهْرُبُ الْحُزْنُ وَالتَّنَهُّدُ”. (إشعياء 35 :5-10)
ديار قيدار
يأمر الكتاب المقدس بتسبيح الله وتمجيده والترنم له في ديار قيدار كناية عن التلبية والتكبير والتهليل في مكة المكرمة، وقيدار من ولد إسماعيل وهو أبو العرب، وكانت ذريته تسكن جزيرة العرب. فنحن نقرأ:
غَنُّوا لِلرَّبِّ أُغْنِيَةً جَدِيدَةً، تَسْبِيحَهُ مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ. أَيُّهَا الْمُنْحَدِرُونَ فِي الْبَحْرِ وَمِلْؤُهُ وَالْجَزَائِرُ وَسُكَّانُهَا، لِتَرْفَعِ الْبَرِّيَّةُ وَمُدُنُهَا صَوْتَهَا، الدِّيَارُ الَّتِي سَكَنَهَا قِيدَارُ. لِتَتَرَنَّمْ سُكَّانُ سَالِعَ. مِنْ رُؤُوسِ الْجِبَالِ لِيَهْتِفُوا. لِيُعْطُوا الرَّبَّ مَجْدًا وَيُخْبِرُوا بِتَسْبِيحِهِ فِي الْجَزَائِرِ. (إشعياء 42 :10-11)
وعلى الرغم من ادعاء أن الإصحاح الستين من سفر إشعياء يتحدث عن صهيون المزعومة، إلا أن الأوصاف الواردة فيه أكثر انطباقا على مكة المكرمة. فمكة المكرمة هي التي تسير الأمم في نورها والملوك في ضياء إشراقها ويجتمعون فيها ويجيئون إليها من بعيد مصداقا لقوله تعالى في القرآن الكريم:
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (الحج 22 :26-27)
وإن مكة المكرمة هي التي تتحول إليها ثروة البحر وغنى الأمم مصدقا لقوله تعالى:
أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (القصص 57:28)
وإن مكة المكرمة هي التي تغطيها كثرة الجِمال وتجتمع إليها غنم قيدار مصداقا لقوله تعالى:
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (الحج 36:22)
وإن مكة المكرمة هي التي تفتح أبوابها دائما، نهارا وليلا، لا تغلق، مصداقا لقوله تعالى:
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (البقرة 125:2)
وإن مكة هي التي لا يسمع ظلم في أرضها، مصداقا لقوله تعالى:
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (الحج 25:22)
الشفة النقية
يخبرنا الكتاب المقدس أن الله تعالى قد تعهد بتحويل الشعوب عن أورشليم إلى شفة نقية ليدعوا كلهم باسم الرب وليعبدوه بكتف واحدة. فنحن نقرأ: “لأَنِّي حِينَئِذٍ أُحَوِّلُ الشُّعُوبَ إِلَى شَفَةٍ نَقِيَّةٍ، لِيَدْعُوا كُلُّهُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ، لِيَعْبُدُوهُ بِكَتِفٍ وَاحِدَةٍ”. (صنفيا 9:3)
حجر الزاوية
يخبرنا العهد الجديد في الكتاب المقدس على لسان يسوع أن الحجر الذي رفضه البناؤون يصير رأس الزاوية وإليه ينزع ملكوت الله حيث يعطى لأمة تعمل ثماره. فنحن نقرأ: قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا! لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ…” (متى 21 :42-43)
كما نقرأ أيضا: “الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا، وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا”. (المزمور 118 :22-23)
ويحدثنا الكتاب المقدس عن حجر يسحق التماثيل ويصير جبلا كبيرا يملأ الأرض كلها. فنحن نقرأ: “كُنْتَ تَنْظُرُ إِلَى أَنْ قُطِعَ حَجَرٌ بِغَيْرِ يَدَيْنِ، فَضَرَبَ التِّمْثَالَ عَلَى قَدَمَيْهِ اللَّتَيْنِ مِنْ حَدِيدٍ وَخَزَفٍ فَسَحَقَهُمَا. فَانْسَحَقَ حِينَئِذٍ الْحَدِيدُ وَالْخَزَفُ وَالنُّحَاسُ وَالْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ مَعًا، وَصَارَتْ كَعُصَافَةِ الْبَيْدَرِ فِي الصَّيْفِ، فَحَمَلَتْهَا الرِّيحُ فَلَمْ يُوجَدْ لَهَا مَكَانٌ. أَمَّا الْحَجَرُ الَّذِي ضَرَبَ التِّمْثَالَ فَصَارَ جَبَلاً كَبِيرًا وَمَلأَ الأَرْضَ كُلَّهَا”. (دانيال 2 :34-35)
_________
المراجع:
- القرآن الكريم
- صحيح البخاري
- الكتاب المقدس
_________
اقرأ أيضا:
الحج بين رمزية العبادة والاستجابة للحنيفية الإبراهيمية
[ica_orginalurl]