الآن وبعد أن فتح الله بصيرتي وهداني إلى الحق، سأحاول نقل تجربتي التي مررت بها في رحلة البحث عن الحق، رحلة عذاب مريرة مع الحيرة و الشك لدرجة أصبحت عندي كل الأمور غير قابلة للتصديق.
كنت شغوفة جداً بالمطالعة والقراءة، وكان للدروس والكتب الإسلامية دور كبير في تعلم مبادئ الإسلام الحميدة.. فكان افتخاري واعتزازي بانتمائي لهذا الدين يزداد يوماً بعد يوم.
هل هناك إله؟
إلى أن جاءت دروس الفلسفة.. وعند دراسة النظريات الفلسفية الوجودية الملحدة.. بدأت الشكوك والظنون تحيطني، فالفلسفة تثير الأسئلة أكثر مما تقدم الأجوبة، ولأني لم أجد رداً قويّاً على تفنيد هذه النظريات.. أصبحت عاجزة عن إدراك الحقيقة، وأنه من الممكن أن ينشأ هذا الكون من نفسه وضمن المصادفات العشوائية؟ ثم كيف لي إدراك أمر غير حسي؟!!!
واتضح لي فيما بعد استحالة النشوء الذاتي للكون، وأن لكل فعل فاعلاً وهذا الكون البديع المنظم إنما يدل على حكمة بالغة وتدبير عظيم.. وأنه بالإمكان وجود شيء أقوى من وجودنا لكننا لا نراه، والفكر البشري محدود بالحواس، والحواس محدودة بالواقع، فكيف له أن يدرك اللامحدود، إذاً معرفة الله لا تكون إلا من معرفة آثاره فقط، أما معرفة ذاته فمستحيلة.
وكما يقول الشيخ الشعراوي: الروح التي هي موجودة في أجسادنا غيب عنك.. فأنت لا تعرف ما هي؟ ولا أين هي؟ ولا كيفية سريانها في الجسم.. لكنك تستطيع أن تستدل على وجودها بآثارها..
فهل إذا كان وجود الروح في جسدك يؤكد لك أنها موجودة وهذا من خلال الحركة والحياة التي تعطيها في الجسد، ألا يدل هذا الكون كله بما فيها من إعجاز على وجود الله يقيناً؟!.. ألا تنظر إلى جسدك والروح فيه ثم تنظر إلى الكون لتستخدم نفس القانون.. أم أنك في جسدك لا تستطيع أن تجادل وفي الكون بعظمته تجادل؟!
هل خلقنا الله وتركنا هملاً؟
كثيراً ما كنت أسأل نفسي كيف خلق الله الكون والإنسان بهذه الدقة والإبداع ثم يتركنا بلا توجيه ولا تشريع يُصلحنا؟ وهل خلقنا عبثاً لا قيمة لوجودنا؟! و كنت أجيب بالنفي بل كنت أرى أن الإسلام أفضل تشريع صالح للإنسانية.. كما كنت لا أستبعد فكرة وجود حياة أخرى بعد الموت، وإلا أصبحت حياتنا لا معنى لها ويصبح قبولنا للفضائل والقيم عبثيّاً!!!
ومع ذلك لم يكن هذا دليلاً كافياً بالنسبة لي حينها..
هل محمد عليه الصلاة والسلام نبيٌّ مرسل؟
أثناء بحثي في دلائل النبوة دخلت عدة مواقع إلحادية و لادينية محاوِلةً التحقق من شبهاتهم المطروحة وتفنيدها، ظناً مني أن حواراتهم مبنية على الموضوعية والعقلانية.. لكني وجدت أفكارهم مفلسة ومتناقضة تماماً مع المنطق..
وأحسست أنني ازددت حيرة وتشتتاً، فما أن أزيل شبهة حتى تظهر أخرى.. ينقضي عمري ولن تنتهي شبهاتهم.. أما الضغينة والكراهية التي تكنها صدورهم للإسلام فتجعلك تجزم أن هذه المواقع كلها تعمل لمصالح أخرى.
قررت الرجوع للكتب الإسلامية لعلني أتمكن من خلالها من التعرف على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، لكن تلك الشبهات المترسبة في ذهني شوشت تفكيري فلم أتمكن من الفصل بين الحق والباطل وبين الحقيقة والوهم، وكان أفضل شيء لدحض هذه الشبهات أن يكون بالرد عليها بطريقة إجمالية دون الخوض في تفاصيل كل شبهة لأنها لا تنتهي..
لفتة مهمة فتحت أمامي الطريق
مع تراكم الأدلة الظنية في ذهني بدأت أشك في طريقة تفكيري وتحليلي للأمور، وبتوفيق من الله تنبهت إلى أمر مهم كنت قد غفلت عنه، وهو أنه يجب على من أراد تقصي حقائق الأمور أن يكون مزوداً بأدوات كالمصباح الذي ينير له طريقه، ولا تسمو النفس البشرية إلا بالقربات والطاعات والأذكار كالصيام والقيام والصدقة.. فهذا يشكل حصناً منيعاً لها، وبهذه الوسيلة تمكنت من إزالة الضبابية عن رؤيتي والغبش الذي تكوَّن عليها..
عرفت ربي من القرآن الكريم
معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته لا سبيل إليها إلا من خلال الإخبار، فكنت مثلاً كثيراً ما أتساءل عن عدالة الله وأحاول إثباتها بعقلي وأعجز، ولن أستطيع أن أثبت ذلك بعقلي إطلاقاً إلا أن يكون لدي علم كعلم الله تماماً..
فمن خلال كتاب الله فقط أفهم أن هذه الدنيا فصلٌ من قصة الحياة الكاملة له تتمة في الفصل الذي يليه (اليوم الآخر) ولن نفهم أحداث هذه الحياة إلا من خلال فهم فصول القصة بأكملها.
ومن خلال تلاوة كتاب الله نجد آيات تستثير فينا حب الله.. وآيات تستثير فينا المخافة من الله عز وجل.. وآيات تستثير فينا مشاعر تعظيم الله عز وجل.. إبداعه.. خلقه.. حكمته.. فهو ذكر يأخذنا إلى التنبه إلى صفات الله سبحانه وتعالى.
وفي الأخير..
- من خلال هذه التجربة التي مررت بها يمكنني أن أستنتج منها أن الفطرة السليمة دائماً تصل إلى حقائق الخير وتأبى الكفر والعصيان، أما إذا ملأها هوى أو زيغ فإنها ستنحرف وتُعمي البصيرة وتصُد عن الحق.
- وأن بلوغ اليقين لن يتحقق بشكل كامل إلا باستحضار مشاعر عبودية الله في القلب.
- ويحضرني هنا كلام رائع سمعته لعالم جليل يقول: (استقبال الحقائق واجتماعها وتخزينها في العقل.. هذا لا يكفي.. بل يجب أن تتفاعل مع الحقيقة التي عرفتها عاطفياً.. والتفاعل مع هذه الحقائق لا يتم في الغالب وسط ضجيج.. لا يتم من خلال مناقشات فكرية.. هذا التفاعل يتم في آية في كتاب الله تلوتها وعرفت معناها فتجد أنها قد هيمنت على كيانك كله خشية وتعظيماً ومهابة.. في ركعات في هدأة الليل.. في التفكر والتدبر في خلق الله..و..و..).
- وفي الأخير أقول إنه من كان صادقاً في طلب الحقيقة بالاتجاء الخالص لله وطلب العون منه سيصل حتماً إليها بإذن الله.
ونسأل الله الثبات على دين الحق وأن يرزقنا يقيناً لا يهتز وإيماناً لا يرتد وأن يرزقنا حسن الخاتمة ويجمعنا في الجنة مع الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم.
____________________________________________
المصدر: بتصرف كبير عن كتاب/ العائدون إلى الفطرة، مركز دلائل، الطبعة الأولى، 2016
[ica_orginalurl]