د. هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
المنهج هو الطريق الواضح الظاهر[1]، والسلف في الفكر الإسلامي اسمٌ لكل من يتبع في الدين طريق الصحابة والتابعين وأعلام الإسلام[2]، وبذلك يختلف المراد اللغوي للسلف وهو الدلالة على من تقدمنا زمناً[3] عن المراد الفكري بأمرين:
الأول: أن الزمن المقصود منه هو العصور الأولى للإسلام، وهم القرون الثلاثة الأولى الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيريَّة، عن عمران بن حصين – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم – قال عمران: فلا أدري، أذكر بعد قرنه قرنين، أو ثلاثة – ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)[4].
والثاني: أن الوصف الزمني وحده لا يكفي ما لم تنضم إليه موافقة الكتاب والسُّنَّة نَصَّاً وروحاً، فمن خالفهما ليس من السلف وإن عاش بين التابعين.
وللسلف منهج في الاعتقاد والعمل والدعوة والاستدلال، وذلك أن منهج السلف هو الإسلام المصفَّى، وهو صراط الله المستقيم الذي أُمرنا باتباعه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
وهو الإسلام الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون زيادات أو غبش حسبما تلقاه منه أصحابه وعمل به تابعوهم[5].
ولذا؛ فلا غرابة أن يكون لهم منهج في الدعوة إلى الله؛ إذ للإسلام منهجه في ذلك، {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
وفي هذه الأوراق نظرات عامَّة في ملامح منهج السلف في الدعوة إلى الله أقدم قبلها مقدمات عامَّة، ثم أتبعها بالملامح أو المعالم الخاصة بالمنهج الدعوي.
أولاً: أهمية لزوم منهج السلف:
إن خيريَّة صدر الأمة المشهود لهم بذلك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وما ورد من نصوص كثيرة في مدح الصحابة والحث على الاقتداء بهم؛ (يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، وإلا لو كان خيراً من بعض الوجوه فلا يكونون خير القرون مطلقاً)[6]. وترجيح منهج غير منهجهم إبطال لهذه النصوص، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد أمته لأن يعملوا بما عليه صدر الأمة عند ورود النزاع وحصول الاختلاف، عن أبي واقد الليثي – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً: إنها ستكون فتن. قالوا: فكيف لنا يا رسول الله، أو كيف نصنع؟ قال: ترجعون إلى أمركم الأول[7].
وقال عليه الصلاة والسلام: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة)[8].
قال ابن تيمية – رحمه الله: (من المعلوم بالضرورة لمن تدبَّر الكتاب والسنة وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، أن خير هذه الأمة في الأعمال والأقوال والاعتقادات وغيرها من كل فضيلة؛ أن خيرها: القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة؛ من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل. هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم)[9].
ثانياً: ترابط منهج السلف:
منهج السلف الصالح منهج شمولي، فهو يشمل جوانبَ الاعتقاد والعبادة والسلوك والأخلاق، إذ هذا المنهج هو الإسلام المصفى، والإسلام رسالة حياة كما أوضح ذلك كتاب الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْـخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]. {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْـخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. فالقرآن الكريم يعرض رسالة الإسلام بجوانبها المتعددة في وحدة متكاملة تشمل عقائده وتشريعاته، فمنهج السلف رجوع لهذا التكامل الصافي، الشامل لكل جوانب الإسلام الذي لا يعتريه نقص.
قال ابن تيمية: (الشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات… وليس للإنسان أن يخرج عن الشريعة في شيء من أموره، بل كلما يصلح له فهو في الشرع، من أصوله وفروعه وأحواله وأعماله وسياسته ومعاملته وغير ذلك)[10].
فمنهج السلف مترابط؛ تترابط فيه مسائل الاعتقاد مع التشريع والدعوة والمعرفة وطرق التغيير، وتتداخل مع بعضها؛ لأن المنبع واحد والاستمداد واحد.
ولهذه المقدمة ارتباط بما يليها.
ثالثاً: مخالفة منهج السلف ليست على وزن واحد:
تقدم أن المنهج السلفي تكامل في مجالات عدة، كالاعتقاد والتشريع والمعرفة والسلوك والدعوة، وهو مترابط؛ إذ المنبع واحد، لكن مخالفة منهج السلف في مسائل الاعتقاد ليست كمخالفته في مسائل السلوك، كما أن مخالفة أصول الاعتقاد ليست كمخالفة فروعه.
قال ابن تيمية: (الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام: على درجات، منهم من يكون قد خالف السُّنَّة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة، ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه، فيكون محموداً فيما رده من الباطل وما قاله من الحق، لكن يكون قد جاوز العدل في رده، بحيث جحد بعض الحق، وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها، ورد باطلاً بباطل أخف منه)[11].
وقال أيضاً: (لا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة)[12].
معالم منهج السلف في الدعوة إلى الله
1- أول الواجبات الدعوة إلى تصحيح الاعتقاد، وأهم ذلك توحيد العبادة لله، فهو أساس الدين وجميع الأحكام ترجع إليه، ولا يصح ولا يقبل عملٌ صالح إلا بتحقيق التوحيد الواجب، ولذا كان أول دعوة كل رسول أرسله الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً لليمن داعياً أَمَرَه بالبِدَاءة بالدعوة إلى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله[13].
قال ابن حجر: (بدأ بالشهادتين لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شيء إلا بهما، فمن كان غير موحِّد فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين… ويبدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب..)[14].
وتصحيح الاعتقاد والعناية به هو أهم مَعْلم من معالم السلف الصالح في الدعوة إلى الله، وذلك أنه أهم مسائل الدين وأولاها بالبيان، وعلى ذلك جرت سنة الرسل وأعلام الأمَّة.
وبعد مسائل الاعتقاد تأتي بقية مسائل الدين فتبيَّن للناس بياناً يقطع العذر من جهات وضوحها وبيانها كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، ومن جهة زوال الشبهة عنها.
2- لزوم الكتاب والسنة على ما فهمه سلف الأمة:
فالمعول عليه عند الداعي إلى الله هو ما دل عليه هذان الأصلان العظيمان، فلا يعارَضَان باجتهاد أو مصلحة، إذ كل ما خالف الكتاب والسنة فاسد الاعتبار، مطرّح عند التحقيق، فيقدم الداعي للأمة الإسلام مصفى من كل شائبة، فقد علق به ما ليس منه، وواجب الداعية إلى الله إرجاع الناس إلى صفاء الكتاب والسنة وتنقية عقائدهم وتعاملاتهم وسلوكياتهم من كل ما شابها ولوثها من الدخيل.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب قال: (أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)[15].
وبهذا يُعرف أن من أهم ما يعده الداعية إلى الله في نفسه تسلُّحه بالعلم الشرعي الذي يتبيَّن به الحق، ويُعرف به الصواب، قال ابن تيمية: (والله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر به، والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته، فمن لم يعلمه لا يمكنه النهي عنه)[16].
ومن لزوم الكتاب والسنة أن يكون الداعي مخلصاً لله في دعوته مريداً بها وجهه.
3- الأدلة الشرعية ليس منها قول الواحد من السلف:
إن منهج السلف متابعة الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، والأدلة الشرعية التابعة لهذا من الإجماع والقياس ليس منها قول الواحد من السلف، فالواحد يصيب ويخطئ، إذ لا عصمة له، أما إجماع السلف فهو معصوم، أما الواحد من السلف فقوله محتملٌ للصواب والخطأ.
قال ابن تيمية: (أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبره، وطاعته في كل ما أمره، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة)[17].
وقال أيضاً: (فمن اتبع السابقين الأولين كان منهم، وهم خير الناس بعد الأنبياء، فإن أمة محمد خير أمَّة أخرجت للناس، وأولئك خير أمة محمد.. ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيراً وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله.. وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوماً، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقوالهم)[18].
فلا يصح لأحد أن يبدِّع أحداً أو يخطئه بناء على مخالفته قول أحد علماء السلف حتى يثبت أنه إجماع السلف، أو أن هذا القول دل عليه الكتاب والسنة؛ فإن من أقوال سلف الأمة وأئمتها ما خالف الثابت في الكتاب والسنة، وهم في ذلك معذورون[19]، إذ لا يسلم من الخطأ أو الغفلة بشر.
ويرتبط بهذا الضابطِ الضابطُ الرابع.
4- عدم التعصب لمسائل الاجتهاد:
فمسائل الدين منها القطعية الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه لا إشكال بأنه لا يجوز القول بخلافها؛ ومنها ما تُوصِّل إليه بالنظر والاجتهاد، فهذه الواجب فيها على العالِم أن يقول بما أداه نظره إليه بحسب اجتهاده، ولذا فإن الواحد من علماء السلف قد يخالف الصواب، وهو معذور، بل مأجور؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطـأ فله أجر واحد)[20].
والواجب على العامي (غير المجتهد) أن يسأل أهل العلم عما لا يعرفه ويتابعه ما لم يغلب على ظنه خطؤه، إذ تقليد أهل العلم ليس مقصداً في ذاته، بل هو طريق لمعرفة العلم لمن لم يتمكن من النظر بنفسه، واعتبار أقوال أهل العلم بمنزلة أعلى من ذلك إعراضٌ عما أمر الله به من تحكيم للشرع، يقول الشاطبي: (إن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً؛ ضلال.. فحكم الشارع إذا وقع وظهر فلا خيرة للرجال ولا اعتبار بهم… والصحابة لم يأخذوا أقوال الرجال في طريق الحق إلا من حيث كونهم وسائل للتوصّل إلى شرع الله، لا من حيث هم أصحاب رتب كذا أو كذا)[21].
وهذا الأمر مع ظهوره نظرياً إلا أن الواقع أن من الناس من يتمسك بمنهج السلف في عدم التعصب لآراء الفقهاء، فتجده يخالف الإمام مالكاً أو الشافعي باعتبار نظره في الدليل، ثم لا يخالف العلامة الألباني – رحم الله الجميع – مع أن الباب واحد، فكل مسألة اجتهادية فإن واجب المجتهد النظر والاستدلال.
وكثير من مسائل الدعوة إلى الله اجتهادية – كونها ليست مقاصد بذاتها – كهجر بعض المخالفين أو طريقة الرد عليهم… ونحو ذلك، ولذا فلا مجال للتعصب لرأي فيها.
قال الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله: (ليس لوسائل الدعوة حد شرعي، فكل ما أدى إلى المقصود فهو مقصود، ما لم يكن منهياً عنه بعينه، فإن كان منهياً عنه بعينه فلا نقربه… فالوسائل غير المقاصد، وليس من اللازم أن ينص الشرع على وسيلة بعينها، لأن الوسائل لا حصر لها ولا حد لها، فكل ما كان وسيلة لخير فهو خير)[22].
إلا أن واقع كثير من الدعاة مؤسف، فترى الفُرقة والتنابذ بناء على اختلافهم في مسألة اجتهادية مما لا يوجد له مبرر شرعي، بل هو خلاف ما أراده الله تعالى لهذه الأمة من الاجتماع، وخلاف طريقة سلف الأمة في التعامل مع المسائل الاجتهادية (فقد كانوا إذا تنازعوا في أمر اتبعوا أمر الله تعالى: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. وربما اختلف قولهم في المسائل العلمية والعملية ومع ذلك تبقى بينهم الألفة وأخوَّة الدين، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبقَ بين المسلمين أخوَّة)[23].
وهذا التعصب لرأي عالم في مسألة اجتهادية ولو كان هذا العالم من أئمة السلف؛ مخالف لمنهج السلف، إذ منهج السلف أو الولاء والبراء هو للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
قال ابن تيمية: (تعليق الأمور من المحبة والبغض، والموالاة والمعاداة، والرضا والغضب، والنصرة والخذلان.. بالانتساب إلى إمام معين أو شيخ أو متكلم أو فعل أو شعار.. كل ذلك من أمور الجاهلية المفرِّقة بين الأمة، وأهلها خارجون عن السنة والجماعة، داخلون في البدع والفرقة…)[24].
5- التكامل:
تقدم أن منهج السلف مترابط يدخل في كل مناحي الحياة، لأن الإسلام كذلك؛ فالله تعالى (أنزل الشريعة على رسوله فيها تبيان كل شيء يحتاج إليها الخلق في تكاليفهم التي أُمروا بها، وتعبداتهم التي طوقها في أعناقهم، ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كمل الدين بشهادة الله تعالى بذلك، حيث قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا}) [المائدة: 3].
(… والعالم الرباني لا يصدّه التبحّر في الاستبصار بطرف عن التبحّر في الاستبصار بالطرف الآخر.. وبذلك يسمى: الرباني والحكيم والراسخ في العلم، والعالم والفقيه والعاقل)[25].
وتكامل منهج السلف يظهر في شموله العقيدة والعمل والسلوك كما تقدم، كما يتجلّى أيضاً في أنّه لا يغفل عن الجماعة حين تربيته للفرد ولا عن الفرد حين دعوته للجماعة، ويتجلى أيضاً في أنها لا تعتني بالجوانب النظرية على حساب الواقع العملي والذي به تفقد أثرها الاجتماعي، ويظهر أيضاً أنها تعتني بالموافق تربيةً وتعليماً وبالمخالف بياناً وجدالاً وكشفاً، ويظهر كذلك في عدم تخليها عن أي معركة تعرض لها، فلا تترك مواجهة فتن العصر ومشاكله المتجددة ولا تغفل عن شيء منها.
(فكما أن الإنسان لا يكون إنساناً حتى يستنطق، فلا ينطق باليد وحدها، ولا بالرجل وحدها، ولا بالرأس وحده، ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمي بها إنساناً، كذلك الشريعة..)[26].
وهذا كله يدلنا على أنه لا مانع من تعدد توجهات من ينتمي لمنهج السلف؛ بحيث يكمل كل عمل الآخر، ويقوم بدور يعتقد قدرته عليه، قال ابن تيمية: (كل شخص إنما يُستحب له من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى ما يقدر عليه ويفعله وينتفع به، والأفضل له من الأعمال ما كان أنفع له، وهذا يتنوّع تنوّعاً عظيماً، فأكثر الخلق يكون المستحب لهم ما ليس هو الأفضل مطلقاً، إذا أكثرهم لا يقدرون على الأفضل ولا يصبرون عليه إذا قدروا عليه، وقد لا ينتفعون به، بل قد يتضررون إذا طلبوه)[27]. ثم استشهد بالحديث القدسي (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك). وقد كتب العُمَري الزاهد للإمام مالك – رحمهما الله تعالى – يحثّه على الانفراد عن الناس والتفرغ للتعبد، فكتب له الإمام مالك: (إن الله – عز وجل – كما قسم الأرزاق: قسم الأعمال، فربَّ رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم.. ونشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير)[28].
6- لا مانع من تعدد الطرق ضمن منهج السلف، ما دام كل طريق قد دل عليه دليل صحيح ولم يعارِض أصلاً من أصول الشرع، وهو مقيد بما تقدم عن التعصب المذموم.
وهذا فرع عن جواز الاجتهاد وعدم حتميّة الصواب في رأي من الآراء الاجتهادية، إذ الحق ليس حكراً على أحد، أو جماعة.
قال الشاطبي: (إن الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار، ومجالاً للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيّات عريقة في إمكان الاختلاف، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف)[29].
لكن من المؤسف أن نجد من يجعل للجزئيات والفروع الاجتهادية مكانة الكليات القطعية فيتجاوز هذا الأصل ويجعل الفروع سبباً للخصومة والبغضاء.. والله المستعان.
الهوامش:
[1] لسان العرب لابن منظور (6/4554) (نهج).
[2] كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (1/748)؛ وانظر: المنهج السلفي، د. مفرح القوسي ص 36.
[3] لسان العرب (3/2068) (سلف).
[4] صحيح البخاري (3650).
[5] انظر مثلاً: لوامع الأنوار البهيَّة للسفاريني (1/20)؛ الاعتصام للشاطبي (1/104)؛ مدارج السالكين لابن القيم (1/13)؛ مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/194).
[6] تضمين من: إعلام الموقعين لابن القيم (4/136).
[7] معجم الطبراني الكبير (3/249)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/303): فيه عبد الله بن صالح وثق وفيه ضعف، وبقيَّة رجاله رجال الصحيح. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 3165.
[8] مسند أحمد (4/126)؛ سنن أبي داود (4/200)؛ سنن الترمذي (5/44)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 2735.
[9] مجموع الفتاوى (4/158).
[10] مجموع الفتاوى (19/308 – 309).
[11] مجموع الفتاوى (3/348).
[12] مجموع الفتاوى (20/166).
[13] صحيح البخاري (1458)؛ صحيح مسلم (29).
[14] فتح الباري (3/357).
[15] صحيح مسلم (867).
[16] التفسير الكبير (5/304).
[17] مجموع الفتاوى (3/346).
[18] مجموع الفتاوى (13/23).
[19] مجموع الفتاوى (3/349).
[20] صحيح البخاري (7352)؛ صحيح مسلم (12/13) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
[21] الاعتصام ص 514.
[22] لقاء الباب المفتوح (15/49).
[23] تضمين من مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/170).
[24] مجموع الفتاوى (3/342).
[25] تضمين من الاعتصام للشاطبي ص 478، والمقطع الثاني من الموافقات له أيضاً (4/168).
[26] الموافقات (1/17).
[27] مجموع الفتاوى (19/119).
[28] التمهيد لابن عبد البر (7/185).
[29] الاعتصام ص 393.
———–
** المصدر: نور الإسلام.
[ica_orginalurl]