تعتبر الهجرة النبوية من مكة الى المدينة قبل 1433 عاما وتحديدا في يوم السادس والعشرين من شهر صفر الموافق التاسع من شهر سبتمبر عام 622 ميلادية، هي الحدث الأهم والأبرز في تاريخ الدولة الاسلامية، هذا التاريخ الذي يذخر بالعديد من الأحداث العظيمة ذات الأثر الكبير في حياة الأمة، إلا أن حدث الهجرة يأتي في مقدمة هذه الأحداث تأثيرا لاعتبارات كثيرة أهمها، أنه الأسبق في الحدوث الزمني، والأهم من ذلك أنه كان إشارة البدء لبناء الدولة الاسلامية بكل مقوماتها، وبداية الانطلاق لقوة جديدة أصبحت بعد أعوام قليلة صاحبة الريادة والقيادة بعد أن تغلبت على دولتي الفرس والروم، لأنها جاءت لتحكم بإرادة الله تعالى، وعلى أسس الحق والعدل والمساواة، ومحاربة أفكار الجاهلية والعصبية، والتمييز بين البشر.
عبد الله متولي
لقد كانت الهجرة نقطة الانطلاق والتأسيس للدولة الإسلامية، وهي عملية الانتقال من مرحلة الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، وترك عبادة الأوثان وتطهير النفوس من أدران الشرك، إلى مرحلة بناء وتأسيس الدولة والأمة الإسلامية، وإرساء قواعدها لتتمكن من الانطلاق إلى العالم أجمع لنشر الدعوة الإسلامية.
لم تكن الهجرة إلى المدينة مجرد الفرار بدين الله تعالى من ظلم قريش وقسوتها في معاملة المسلمين -كما يفهم بعض قصيري النظر- إنما كانت الاتجاه بالدين إلى بيئة صالحة لأن ينمو فيها وتكون قاعدة انطلاق لمشاعل النور والهدي إلى بقية أصقاع الأرض.
ويعد حادث الهجرة فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية، ولقد كان لهذا الحادث آثار جليلة على المسلمين، ليس فقط في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن آثاره الخيرة قد امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومصر، كما أن آثاره شملت الإنسانية أيضاً، لأن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس الحق والعدل والحرية والمساواة هي حضارة إنسانية، قدمت، ومازالت تقدم للبشرية أسمى القواعد الروحية والتشريعية الشاملة، التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، والتي تصلح لتنظيم حياة الإنسان كإنسان بغض النظر عن مكانه أو زمانه أو معتقداته.
فسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تحد آثارها بحدود الزمان والمكان، وخاصة أنها سيرة القدوة الحسنة والقيادة الراشدة قيادة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وما نتج عن هذه الهجرة من أحكام ليست منسوخة ولكنها تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان ما دام حال المسلمين مشابهاً للحال التي كانت عليها حالهم أيام الهجرة إلى يثرب.
لماذا يهاجر المسلم؟
قد يهاجر المسلم فراراً بدينه وعقيدته، حتى لا يرده الحكام الكافرون إلى الكفر، كما فعل بعض مسلمي الجمهوريات الإسلامية حينما هاجروا من بلادهم فراراً من الشيوعية الملحدة. يقول تعالى: “يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ” (العنكبوت:56)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً منها وجبت له الجنة وكان رفيقاً لأبيه إبراهيم).
وقد يهاجر المسلم فراراً من ظلم اجتماعي أو اقتصادي لحق به وخشي إن لم يهاجر أن يمتد ذلك الظلم إلى دينه، يقول تعالى: “وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ” (النحل:41) وقال تعالى: “وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا” (النساء:100).
والمسلم مكلف بأن يهجر كل ما حرم الله، وأن يهاجر إلى ما أحل الله، لأن هذا هو الهدف من استخلافه في الأرض لقوله تعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات:56)، وهل العبادة إلا طاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر؟ ولهذا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الهجرة على مصراعيه أمام كل راغب فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه). (رواه البخاري) وفي رواية (ابن حبان): (المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
لقد كان هدف المصطفى صلى الله عليه وسلم من هجرته إلى المدينة إيجاد موطئ قدم للدعوة لكي تنعم بالأمن والاستقرار حتى تستطيع أن تبني نفسها من الداخل وتنطلق لتحقيق أهدافها في الخارج، ولقد كان هذا الهدف أملاً يراود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مرة لأصحابه: (رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب ظني إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب).
كما كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهجرة تكثير الأنصار وإيجاد رأي عام مؤيد للدعوة، لأن وجود ذلك يوفر عليها الكثير من الجهود ويذلل في طريقها الكثير من الصعاب، والمجال الخصب الذي تتحقق فيه الأهداف، والمنطلق الذي تنطلق من الطاقات، ولهذا حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث (مصعب بن عمير) إلى المدينة ليعلم الأنصار الإسلام وينشر دعوة الله فيها. ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجود رأي عام مؤيد للدعوة في المدينة حثّ أصحابه على الهجرة إليها وقال لهم: (هاجروا إلى يثرب فقد جعل الله لكم فيها إخواناً وداراً تأمنون بها).
كما كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهجرة استكمال الهيكل التنظيمي للدعوة، فقد كان وضعاً موقتا أن يكون الرسول القائد في مكة، والأنصار والمهاجرون في المدينة، ولهذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون بين ظهراني أتباعه، لأن الجماعة من دون قائد كالجسد بلا رأس، ولأن تحقيق أهداف الإسلام الكبرى لا يتم إلا بوجود جماعة مؤمنة منظمة، تغذي السير إلى أهدافها بخطى وئيدة.
فما أحوج المسلمين اليوم إلى هجرة إلى الله ورسوله: هجرة إلى الله بالتمسك بحبله المتين وتحكيم شرعه القويم، وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، باتباع سنته، والاقتداء بسيرته، فإن فعلوا ذلك فقد بدأوا السير في الطريق الصحيح، وبدأوا يأخذون بأسباب النصر، وما النصر إلا من عند الله.
دروس وعبر من الهجرة النبوية
– درس في الهجرة:
لقد أذن الله تعالى لنبيه وأصحابه بالهجرة لما ضاقت عليهم الأرض، ومنعتهم قريش من إقامة دين الله.
إن الهجرة بالمعنى الشرعي ليست مجرد الانتقال من بلد إلى آخر فحسب، بل هي هجرة عامة عن كل ما نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، حتى يكون الدين كله لله.
هجرة من الذنوب والسيئات.. هجرة من الشهوات والشبهات.. هجرة من مجالس المنكرات.. هجرة من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.
– الصبر واليقين طريق النصر والتمكين:
فبعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء قضاها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة يهيئ الله تعالى لهم طيبة الطيبة، ويقذف الإيمان في قلوب الأنصار، ليبدأ مسلسل النصر والتمكين لأهل الصبر واليقين
– درس في التوكل على الله والاعتصام بحبل الله:
لقد كانت رحلة الهجرة مغامرة محفوفة بالمخاطر التي تطير لها الرؤوس.
فالسيوف تحاصره عليه الصلاة والسلام في بيته وليس بينه وبينها إلا الباب. والمطاردون يقفون أمامه على مدخل الغار.. وسراقة الفارس المدجج بالسلاح يدنو منه حتى يسمع قراءته…
والرسول صلى الله عليه وسلم في ظل هذه الظروف العصيبة متوكل على ربه واثق من نصره.. فمهما اشتدت الكروب يبقى المؤمن متوكلاً على ربه واثقاً بنصره لأوليائه.
– درس في المعجزات الإلهية:
هل رأيتم رجلاً أعزلاً محاصراً يخرج إلى المجرمين ويخترق صفوفهم فلا يرونه ويذر التراب على رؤوسهم ويمضي؟
هل رأيتم عنكبوتاً تنسج خيوطها على باب الغار في ساعات معدودة؟
هل رأيتم فريقاً من المجرمين يصعدون الجبل ويقفون على الباب فلا يطأطئ أحدهم رأسه لينظر في الغار؟ هل رأيتم فرس سراقة يمشي في أرض صلبة فتسيخ قدماه في الأرض وكأنما هو يسير في الطين… هل رأيتم شاة أم معبد الهزيلة يتفجر ضرعها باللبن؟
إن هذه المعجزات لهي من أعظم دلائل قدرة الله تعالى، وإذا أراد الله نصر المؤمنين خرق القوانين، وقلب الموازين “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ” (يس:82).
– درس في الحب:
وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
إن هذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته صلى الله عليه وسلم… إن هذا الحب هو الذي جعل أبا بكر يقاوم السم وهو يسري في جسده يوم أن لدغ في الغار لأن الحبيب ينام على رجله.
إن هذا الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله ليؤثر به الحبيب صلى الله عليه وسلم على أهله ونفسه.
إن هذا الحب هو الذي أخرج الأنصار من المدينة كل يوم في أيام حارة ينتظرون قدومه صلى الله عليه وسلم على أحر من الجمر. فأين هذا ممن يخالف أمر الحبيب صلى الله عليه وسلم ويهجر سنته ثم يزعم أنه يحبه!!!
– درس في التضحية والفداء:
لقد سطر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صفحات مشرقة من التضحية، والمغامرة بالأنفس والأموال لنصرة هذا الدين… لقد هاجروا لله ولم يتعللوا بالعيال ولا بقلة المال فلم يكن للدنيا بأسرها أدنى قيمة عندهم في مقابل أمر الله وأمر ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فيوم أن بات علي في فراشه صلى الله عليه وسلم وغطى رأسه كان يعلم أن سيوف الحاقدين تتبادر إلى ضرب صاحب الفراش، ويوم أن قام آل أبي بكر عبد الله وأسماء وعائشة ومولاه عامر بهذه الأدوار البطولية كانوا يعلمون أن مجرد اكتشافهم قد يودي بحياتهم.
هكذا كان شباب الصحابة فأين شبابنا؟
أين هذه الأنامل من أنامل أسماء وهي تشق نطاقها لتربط به سفرة النبي عليه الصلاة والسلام. ويوم القيامة ستشهد الأنامل على تضحية أسماء، وستشهد على الظالمين بما كانوا يعملون.
– درس في العبقرية والتخطيط واتخاذ الأسباب:
لقد كان صلى الله عليه وسلم متوكلاً على ربه واثقاً بنصره يعلم أن الله كافيه وحسبه، ومع هذا كله لم يكن صلى الله عليه وسلم بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها. بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان.
فالقائد: محمد، والمساعد: أبو بكر، والفدائي: علي، والتموين: أسماء، والاستخبارات: عبد الله، والتغطية وتعمية العدو: عامر، ودليل الرحلة: عبدالله بن أريقط، والمكان الموقت: غار ثور، وموعد الانطلاق: بعد ثلاثة أيام، وخط السير: الطريق الساحلي.
وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته صلى الله عليه وسلم، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وآخراً.
– درس في الإخلاص:
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه ليس أحدٌ أمنُّ عليَّ في نفسه وماله من أبي بكر «فقد كان أبو بكر» الذي يؤتي ماله يتزكى) ينفق أمواله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الدعوة إلى دين الله.
لكن السؤال هنا هو لماذا رفض صلى الله عليه وسلم أخذ الراحلة من أبي بكر إلا بالثمن؟
قال بعض العلماء: إن الهجرة عمل تعبدي فأراد عليه الصلاة والسلام أن يحقق الإخلاص بأن تكون نفقة هجرته خالصة من ماله دون غيره. وهذا معنى حسن، وهو درس في الإخلاص وتكميل أعمال القرب التي تفتقر إلى النفقة (كنفقة الحج، وزكاة الفطر، وغيرها من الأعمال) فإن الأولى أن تكون نفقتها من مال المسلم خاصة.
– درس في التأريخ الهجري:
التأريخ بالهجرة النبوية مظهر من مظاهر تميز الأمة المسلمة وعزتها. ويعود أصل هذا التأريخ إلى عهد عمر رضي الله عنه. فلما ألهم الله الفاروق الملهم أن يجعل للأمة تأريخاً يميزها عن الأمم الكافرة استشار الصحابة فيما يبدأ به التأريخ، أيأرّخون من مولده عليه الصلاة والسلام؟ أم مبعثه؟ أم هجرته؟ أم وفاته؟
وكانت الهجرة أنسب الخيارات. أما مولده وبعثته فمختلف فيهما، وأما وفاته فمدعاة للأسف والحزن عليه. فهدى الله تعالى الصحابة إلى اختيار الهجرة منطلقاً للتأريخ الإسلامي.
التخطيط العلمي للهجرة
– بدأ التخطيط العلمي للهجرة بعرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على الوافدين إلى مكة وعقد بيعة العقبة الأولى والثانية وبايعهم المصطفى صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والكسل والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا تأخذهم في الله لومة لائم، وأن ينصروه ويمنعوه إذا قدم إليهم بما يمنعون منه انفسهم وأزواجهم.
– أرسل المصطفى صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ليعلمهم وليمهد البيئة في المدينة المنورة لقدوم المصطفى صلى الله عليه وسلم والمهاجرين.
– ألمح المصطفى صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بالهجرة قائلا: (على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي) وهنا استعد أبو بكر للصحبة وحبس نفسه على الهجرة.
– أمر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة بأن يترك بيته هذه الليلة فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، وهذا قمة الأخذ بالأسباب الدنيوية.
– تجهيز البعيرين بعلفهما مدة كافية (أربعة أشهر) حتى يتحملا مشقة السفر ووعورة الطريق.
– اختيار الدليل الخبير بالطريق حتى ولو كان كافراً، المهم أن يكون عالماً بالطريق أمينا، في سلوكه وأخلاقه، وهذا ما أثبتته نتائج الأحداث، فقد سار بهم الدليل في طريق وعرة، بعيدة عن مدارك الكفار والمشركين، حيث استأجر المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الدبك، وهو من بني عبد بن عدي هادياً خريتا والخريت الماهر في الهداية فدفعا إليه راحلتيهما صبح ثلاث وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق الساحل كما ورد في البخاري.
– دبر المصطفى صلى الله عليه وسلم من يبيت في فراشه، فلم يترك الفراش خالياً، حتى لا تبعث مكة في طلب النبي صلى عليه وسلم فور اكتشاف خروجه، حتى إذا اكتشفوا ذلك يكون المصطفى صلى الله عليه وسلم قد دبر أمر نفسه، كما اختار المصطفى صلى الله عليه وسلم لذلك رجلا شجاعا شابا فتيا قويا مخلصا صادقا، هو الإمام علي رضي الله عنه، حتى لا يخاف من الأعداء ويأتي بحركة مغايرة للمطلوب، وهكذا ظهرت العلمية في أعلى صورها وأجل معانيها في التدابير السابقة واللاحقة بإذن الله.
– خرج المصطفى صلى الله عليه وسلم من بيته مقنعا في وقت الظهيرة حيث الحر والقيلولة، وهجوع الناس في ديارهم اتقاء الحر الهاجرة، ومن يعش في القرى والصحراء يعرف خلو الطرقات من المارة في هذا الوقت.
-وعندما وصل المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر قال له: (اخرج من عندك) خوفا من وجود من لا يؤتمن على السر من الخدم والزوار وغيرهم، فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله وقد أثبتت النتائج صدق تصور أبي بكر في أبنائه وحسن تربيتهم.
– تجهيز المأكل والمشرب والظهر واعداده للرحيل ومشاركة أولاد أبي بكر في الأمر ليستشعروا عظم العمل، ويعذروا والدهم لتركه إياهم.
– تجهيز الميزانية المالية المطلوبة للرحلة ومشاركة المصطفى صلى الله عليه وسلم في تكاليف الراحلة وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (بالثمن) عندما عرض أبو بكر عليه إحدى الراحلتين.
– تحديد مكان اللجوء السريع والاختفاء عن الأنظار فلجأ المصطفى صلى الله عليه وسلم غار ثور، وقد حدد المصطفى صلى الله عليه وسلم مدة ثلاثة أيام للاختباء فيه حتى يهدأ الطلب من مكة، وتكف عن الملاحقة لقناعتها انها عاجزة عن اللحاق به.
– الخروج من الباب الخلفي لبيت أبي بكر، فلم يخرج من الباب الرئيس للبيت إمعاناًَ في الأخذ بالأسباب.
– كتمان الخبر عن الجميع ما عدا آل أبي بكر وسيدنا علي والدليل وتوزيع المهام عليهم.
– تكليف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ومحل ثقته أن يتأتي بغنم أبي بكر ليلاً فيتزود الركب من حليبها ولحمها وتقوم بمحو آثار الأقدام من الطريق المأهول إلى الغار.
– تكليف عبد الله بن أبي بكر بمهمة الإعلام والتغطية الميدانية لكفار مكة، ونقل صورة ميدانية حقيقية لما يدور في مكة على أن يأتي كل يوم بحصاده الإخباري.
– عند الخروج من الغار اختار المصطفى صلى الله وسلم طريق الساحل، ولم يمض الركب في الطريق المعتاد وقد أثبتت النتائج حسن هذا التدبير.
– دخول «أبي بكر» أولا إلى الغار لتهيئته للقائد حتى لا يصاب بأذى، وهذا قمة العلمية وما يفعله الرؤساء حاليا لأن الحفاظ على القيادة يحفظ المسيرة. أما أبو بكر فهو فرد من المسلمين لا تموت الدعوة في مهدها بموته
– أرسل الله العنكبوت لتنسج خيطا ماديا إمعانا في الأخذ بالأسباب العلمية في التخفية، وتعليما للمسلمين في التمويه والأخذ بالأسباب المادية من نواميس الله في الخلق.
– تحييد أمر سراقة وتبشيره بأساور كسرى والتمكين مع اعطائه درسا ماديا في الإيمان عندما ساخت أقدام فرسه في الرمال فكان أول النهار طالبا لرسول الله والفدية وفي آخر النهار مدافعا ومخذلا عنه، وصارفاً للكفار ومثبطاً لهم عن الاستمرار في البحث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
– عندما وصل المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى خيمة أم معبد وبيت المرأة الأخرى طلب منهما شاة ليحلبها ويجلس على ضرعها، وهذا يؤكد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المتاحة من الكائنات الحية وتأكيد علمي عملي على أن الحياة لا تتولد إلا من الحياة.
– تجنب المصطفى صلى الله عليه وسلم مواطن العملاء فقصد بيتا متفردا عن الحي ولما أخبرته المرأة بمكان عظيم القوم وأشارت عليه أن يذهب إليه لم يفعل ذلك، وهذا موقف علمي عملي فإن زعماء قريش قد أرسلوا إلى زعماء القبائل وأغروهم بمكافأة مالية من الإبل إن هم أتوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بالحيطة والحذر ولم يذهب.
– لم يميز رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عن أبي بكر في اللباس والهيئة حتى أن أهل المدينة لم يفرقوا بينهما عندما وصلا إليها، وفي هذا زيادة في عدم جذب الأنظار للمصطفى صلى الله عليه وسلم في الطريق.
هذه كانت بعض التدابير العلمية في الهجرة النبوية تثبت أن ديننا دين العلمية الواقعية التجريبية.
وهذا درس خاص لشباب المسلمين يعلمهم الأخذ بالأسباب العلمية في حياتهم الدراسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وعدم التواكل على أسباب لم يبذلوا جهدا فيها، وإذا فعلنا ذلك أصبحنا قادة خلقية تطبيقةً عمليةً في هذه الحياة الدنيا كما كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم.
المصدر: النسخة الإلكترونية لجريدة الراي
[ica_orginalurl]