د. أنوار أحمد خان البغدادي (عميد دار العلوم التعليمية للبنات، جمدا شاهي، بستي، الهند)
الهند بلد ديمقراطي يتنفس فيها كل دين من أديان العالم بحرية تامة يقل نظيرها في العالم، عاش وما زال يعيش أبناؤها بالسلم والأمن والأمان، متعاونين ومتساندين ومتحابين فيما بينهم على مدى قرون طويلة.
غيرَ أن هناك حركات وجماعات وأحزابا تسعى إلى تكدير الأجواء الصافية، وتحاول أن تضرب وجه التعايش السلمي بين أبناء الوطن؛ فقد تعرّض المسيحيون والفقراء (المنبوذون، كما يسمّيها الهندوس) للظلم والعدوان الصارخ من قبل هذه الجماعات المتطرفة مرارا، أما المسلمون فهم لقمة سائغة لهذه الجماعات التي بدأت تمارس أعمال شغب وفوضى كأنها متحررة من سلطة ومراقبة.
وممّا نأسف له أن هذه الجماعات ترعاها وتربِّيها الحكومة اليسارية الحالية حزب بهارتيا جاناتا التي لم تصل إلى مقاليد الحكم إلا على نعرات عنصرية همجية؛ فقد وصلت الحال في هذه الحكومة إلى أن المتطرّفين بدؤوا يظلمون أناسا مهنيين من الطبقة المنبوذة والمسلمين بسلخ جلود الحيوانات الميتة باسم لحوم البقر، كما حدث في منطقة “دادري” أن الهندوس المتطرفين قتلوا أخلاق أحمد بتهمة لحم البقر، وحدث في إحدى مناطق ولاية غوجرات أن المتطرفين ضربوا رجالا من الطبقة الفقيرة كانوا يسلخون الحيوانات الميتة؛ وهو ما أثار ضجة كبيرة في الأوساط الخاصة والعامّة.
ونتيجة لهذا الظلم والعدوان تحوّل ما يقارب ألفين من هذه الطبقة المنبوذة إلى البوذية في أكبر ثلاث مدن في ولاية غوجرات (أحمد آباد، وكلول، وسريندر نغر)، يوم الثلاثاء 11 أكتوبر 2016 كما كتب الصحافي برشانت ديال (من مدينة أحمد آباد) في تقرير، نشره موقع بي بي سي الإخباري؛ حيث صرّح أن البوذيين وإن كانوا يعلنون أنه لا علاقة لهذا التحول إلى قضية الضرب التي وقعت في منطقة أونا ولاية غوجرات؛ فإن الحقيقة هي أن القضية نفسها هي التي أثارتهم إلى التحول من الديانة الهندوسية إلى البوذية.
وقد أعرب المتحولون أنهم اختاروا المذهب البوذي؛ لأنهم كانوا يتضايقون من النظام الطبقي في الهندوسية، أما البوذية فالناس فيها سواء لا فرق بينهم، حسب تعبيرهم.
أسباب انحسار الدعوة في الهند
هنا ينشأ السؤال: أين الإسلام في هذه الأجواء المقهورة؟ لماذا لم يستطع أن يستفيد من هذه الظروف الظالمة، مع أن الحقيقة الثابتة أنّ الإسلام دين العدل والمساواة، وقد أثر في نفوس الهندوس بعدله على مدى التاريخ؟
ولذلك أسباب نجملها فيما يأتي:
أولا: الصورة المشوّهة للإسلام التي تقدّمها بعض الحركات الهدمية المتطرّفة والتكفيرية التي قامت بتقديم مشاهد بشعة من القتل والذبح والنهب والدمار حتى لم تسلم منها الأضرحة والمساجد، وأسكبت وسائل الإعلام المعادية للإسلام والمسلمين زيتا على تلك المشاهد، فانفجرت وغدت مشاهد مقززة للغاية تتنفر منها الطبائع السليمة، هذا مما أثّرت على الناس سلبيا فبدؤوا يبتعدون عن الإسلام والمسلمين، وتراجعت مهمة الدعوة بشكل ملحوظ.
ثانيا: انحسر دور التصوف في بعض المراسيم والخرافات، وبعُدَ عن الأخلاق الفاضلة، وأصبحت الزوايا الصوفية لا تعتني إلا بالذوات مما أضعف صلة الإنسان بالله، وأثرت الدنيا على الجهاز الدعوي الذي كان نشطا في السابق؛ فإنه لا يخفى على أحد أنّ الصوفية الكرام من أمثال الشيخ معين الدين الجشتي –رحمه الله – وغيرهم من أرباب منهج التصوف الأصيل النزيه، هم الذين قاموا بنشر الإسلام في هذه الديار التي كانت تترنح تحت وطأة الظلم الطبقي والعدوان الصارخ، فأخرجوها من متاهاته إلى صبح الأمن والإنصاف.
وقد استطاعوا ذلك لأنهم كانوا يملكون قلوبا صافية ورؤية إسلامية نزيهة قائمة على ما جاء في الكتاب والسنة من حبّ وإخلاص وكرم ومروءة، بعيدا من حب الدنيا؛ ولذا استقطبوا القلوب وجذبوا انتباه الناس بسلوكهم وأعمالهم، فأحبّوا الخلق والخلق أحبهم. والزوايا الصوفية المترامية في أبعاد الهند خير شاهد على ما نقول؛ فهي التي تكفلت بنشر أريج الإسلام.
ثالثا: تغيّرت آليات العصر بتغيّر الزمن، واستجدت الحياة، ولم تعد ضرورياتنا كالماضي، إلا أنّ الداعي لم يفهم ولم يستطع أن يميز البدعة الحسنة من السيئة، فساءت أحواله وفسد مآله.
هذه وغيرها من الأسباب التي أنهكت القوى الفاعلة للجهاز الدعوي وجعلتها تمر بأسوأ أحوالها.
واجبات دعوية
هنا يتحتم على الدعاة المخلصين ما يأتي:
أولا: تقديم الصورة النقية للإسلام الآمن بعيدا عن التطرف والمغالاة.
ثانيا: اختيار منهج التصوف الأصيل النزيه القائم على الكتاب والسنة.
ثالثا: التوفيق بين القديم الصالح والجديد النافع.
وأخيرا نقول إن ظروف الهند مهيأة مثل السابق؛ حيث إن عنصرية الطبقات مخيمة على الأذهان، والاضطهاد ما زال يرفع رأسه، والدنيا تنتظر الدعاة المتصوفين المتحابين.
فلننهض بالتصوف الإسلامي الأصيل النزيه القائم على الكتاب والسنة، الذي سوّى بين الناس، ولم يرفع جدار التمييز والعنصرية بينهم، ودعاهم إلى الخالق الواحد الرّحمن، وحذرهم من الإشراك والتشتيت والتمزق بالحكمة والموعظة الحسنة التي تأسر القلوب وتجذب الأفئدة؛ حيث إنه بشّرهم ولم ينفّرهم، وقرّبهم ولم يبعّدهم، وهذّبهم ولم يتركهم جهلة، وليّن عريكتهم ولم ينفث فيهم روح التطرف والمغالاة؛ بل أحبّ الخلق جميعا فأحبوه حبا جما، حتى بسط الأمن، وانتشر الإسلام في ظلال وارفة من الحب والإخلاص والإيمان.
—–
* المصدر: شبكة الضياء للمؤتمرات والبحوث.
[ica_orginalurl]