د. صبري الدمرداش
لا زالت الأمسية التي تجمع الأسرة المكونة من: الأب عالم الفلك، والأم معلمة الفيزياء في المرحلة الثانوية، وأولادهما.. أيمن الطالب بإحدى الكليات العملية (العلوم)، وإيمان الطالبة بإحدى الكليات النظرية (الآداب)، وشقيق الزوجة الذي يعمل أستاذاً للدعوة والعقيدة بإحدى كليات الشريعة، وطالب كلية العلوم زميل ابنها أيمن، ذلك الطالبٌ الذي يُوخزه الشك، ويستبد به القلق، وتعصف به هواجس التردد، إنه يشك في كل شيء، ولا يكاد يؤمن بشيء.
وهكذا كان “الحيران” هو الشخصية السادسة في تلك الأمسية الممتدة. وقد وضع الكاتب على لسان هذا الحيران جميع أسئلة المتشككين ليتصدى لها كل من العالم والفقيه بالتشريح والتفنيد ببصيرة المؤمنين وثبات الموقنين ورسوخ الواثقين. إنه يسأل: أين الله؟ ويعترض على وجود الروح كما ينكر الجنة والنار، ولا يعترف ببرزخٍ ولا بعثٍ ولا نشور، فقد صد عن كل ما هو غيب.
وبعد أن حدثنا العالم عن رؤية بعض علماء الطبيعيات للحق سبحانه وتعالى، تطرق الحديث لشرح العقيدة ورؤية الله في فكر المتفلسفين…
الفقيه: كان الله هو الشاغل الأول عند من آمنوا به وعند الذين أنكروه. وكان موضوع بحث الفلاسفة دائماً سواءٌ أرادوا الاستدلال على الإيمان أو على ضده، ولم يختلف حال الفيلسوف عن حال البدائي إلا في الوسائل.. كان الفيلسوف يتلمس الطريق بعقله والبدائي بوجدانه، ولكن الله كان مطلوب الاثنين على الدوام.
-
الله عند من آمنوا به
حيران: مثل مَن مِنَ الفلاسفة كان يؤمن بالله؟
الفقيه: كُثر:
-
إكزنوفنس:
أحد فلاسفة اليونان الأوائل، الذي سما على أهل عصره، فنبذ أساطيرهم القائلة بفكرة التجسد البشري للإله، وسخر من آلهتهم التي تأكل وتشرب وتلد وتموت. يقول: إن الناس هم الذين اخترعوا الآلهة وصوروها بمثل هيئاتهم. ولو كانت الثيران أو الأسود أو حتى الحمير تعرف الكلام وتعرف التصوير لرسم كل منهم الإله على شاكلته! كلا ثم كلا، فليس هناك سوى إلهٌ واحدٌ، هو أرفع الموجودات، وليس مركباً على هيئتنا، ولا يفكر مثل تفكيرنا، بل كله سمع وكله بصر وكله فكر.
وأما إدراك كنه هذا الإله الواحد المتفرد في كل صفاته فيراه إكزنوفنس مستحيلاً على عقولنا. ويقول في ذلك كلمته التي قفز بها في تاريخ الميتافيزيقيا ألفي سنة إلى الأمام: “ما من إنسان يعرف الله حق المعرفة، فهو نفسه لن يعرف أنه يقول الحق”
الجميع: أنعم به من كلام وأكرم بقائله من فيلسوفٍ مؤمنٍ مستنير.
-
بارمنيدس:
يرى هذا الفيلسوف أن الوجود هو أصل الأشياء، خلافاً لما كان يقوله سابقوه ومعاصروه من أن الماء (طاليس) والهواء (إنكسيمنس) والعدد (فيثاغورس) هو الأصل.
حيران: ما هو هذا (الوجود) الذي يعنيه بارمنيدس؟
الفقيه: إن بارمنيدس يصفه لنا بأنه وجودٌ (أزلي) لا يتغير ولا يفنى وليس له ماضٍ ولا مستقبل وإنما هو يستوعب الأزل والأبد. وهو لا يتحرك ولا يتجزأ لأن الحركة والتجزؤ من صور التحول، وهو كاملٌ وليس وراءه وجودٌ آخر.
الجميع: كأنه يتحدث عن الله عز وجل.
الفقيه: حديث من يدري.
-
مليسُّوس:
وهو تلميذ بارمنيدس. وقد زاد على رأي أستاذه أن هذا (الوجود) غير متناهٍ وأنه حياة عاقلة وحكيمة. يقول: كل حادثٍ لا بد له من بداية. وليس الوجود حادثاً لأنه لو كان كذلك لكان من اللاوجود. فالوجود إذن ليس له بداية، وما ليس له بداية ليس له نهاية. وبما أنه غير متناهٍ فهو لا يتحرَّك لأنه لا يوجد مكان بعده يتحرَّك إليه. وهو غير متغير؛ لأنه لو تغير لأصبح أكثر من واحد. فهو واحد أزلي أبدي حيٌ عاقلٌ لا يتغير.
الجميع: أنعم وأكرم بالتلميذ والأستاذ.
-
أناكساغورس:
الذي فند آراء ديموقريطس في الضرورة العمياء وسفَّهها.
حيران: وما هي هذه الضرورة؟
الفقيه: الضرورة العمياء عند ديموقريطس هي التي تدفع الذرات إلى الحركة والتلاقي والتشابك والتمازج ومن ثم تكوين هذا الكون بما فيه من جماد ونبات وحيوان وإنسان، وحتى الأرواح والآلهة فهي-عنده- مركبة من ذرات تسيرها تلك الضرورة العمياء!.
حيران: وماذا قال أناكساغورس؟
الفقيه: قال: من المستحيل على قوة عمياء أن تُبدع هذا النظام وهذا الجمال اللذان يتجليان في هذا الكون؛ لأن القوة العمياء لا تنتج سوى الفوضى. فالذي يحرك المادة إنما هو عقلٌ رشيدٌ بصيرٌ حكيم.
الجميع: إنه يتكلم كأعظم المؤمنين.
الفقيه: يعد أناكساغورس أول من فتح باب الفلسفة الروحية، وقال قولاً راجحاً، وهو ما جعل أرسطو يقول عنه: “إنه الوحيد الذي احتفظ برشده أمام هذيان أسلافه”.
-
أفلاطون:
وقد جاء بنظريته المعروفة بنظرية المُثُل.
حيران: وما هذه النظرية؟
الفقيه: يؤمن أفلاطون في نظريته بعقلٍ كلي أزلي أبدي هو عقل الله تستقر فيه الصور الأصلية لكل المخلوقات (المُثُل). وتقوم الملائكة –أنصاف الأرباب- بتخليق هذه الصور في الواقع وذلك بتلبيسها بقوالب مادية تحاكيها. ونظراً لنقص الملائكة تأتي تلك المخلوقات ناقصة كما نراها في عالمنا، ويتفضل الله بكرمه فيمنح هذه المخلوقات الناقصة زمناً تحياه. وهذا الزمن هو الآخر محاكاة للأبد الإلهي، محاكاة ناقصة تلائم المخلوقات الناقصة. ولكن عقل الإنسان عن طريق صلته بعقل الله خالقه يستطيع أن يكتشف الأصول الكاملة المجردة لتلك المخلوقات الفانية كما هي في عقل الله. ومن ثم بإمكانه معرفة المثال الكامل لكل شيء كما يجب أن يكون.
وبقدر الصلة بين الإنسان وربه يكون مصير الإنسان بعد الموت خلوداً في عالم المُثُل في سعادة أبدية مع العقل الكلي أو هبوطاً إلى الدرك الأسفل الذي يبعده عن عظمة ذلك العالم.
الجميع: محاولة مشكورة من أفلاطون.
-
أرسطو:
يؤمن أرسطو بإله أزلي أبدي كذلك، واحدٌ لا يقبل التعدد، جوهرٌ فردٌ لا يتجزَّأ ولا يتبعَّض كما لا ينحل ولا يتركب. وهذا الإله الواحد هو المحرِّك الأول للوجود فهو الذي دفعه إلى حركة الابتداء، ومن تلك اللحظة والوجود لا يعرف السكون.
والله عند أرسطو لا يفكر في الوجود الذي خلقه لأنه أتفه من أن يفكر فيه. ولا يفكر الله إلا في ذاته لأنها أكمل الموجودات. ولا يسعى الخالق إلى خلقه وإنما هم الذين يسعون إليه سعي المحتاج للمستغني. وكل حركة الوجود عبارة عن هذا السعي نحو الله، فهي حركة الناقص نحو الكامل. فلقد بثَّ الله في مخلوقاته ما جعلها في شوقٍ وتوقٍ إليه وحركة دائبة تجاهه.
الجميع: كلامٌ ينم عن فهمٍ كبيرٍ وإيمانٍ عميق.
-
الرَّازي:
الفقيه: كان الرازي من أصدق المؤمنين بالله.
حيران: كيف وقد قرأت أن الرَّازي والفارابي وابن سينا كانوا من ضعيفي الإيمان بالله؟!
الفقيه: معاذ الله، إنهم من أعظم المؤمنين بالله ومن أصدقهم برهاناً على وجوده. وكيف لا وهم كغيرهم من فلاسفة المسلمين، قد جمعوا إلى إيمان الوحي الصادق إيمان العقل السليم. ولكن هؤلاء أخذوا بترهات الأفلاطونية الحديثة وخيالاتها في مراتب الخلق ووسائطه، واختلط عليهم الأمر فحسبوها من كلام أرسطو وحال إجلالهم له دون تمحيصها. لذا كان على من يكتب عن هؤلاء أن يُمحص أقوالهم وأن يُميز فيها بين الحق والباطل، وهو ما لم يفعله من كتبوا عنهم إما عجزاً عن التمييز أو زهداً في نصرة الحق أو كيداً للإيمان.
حيران: وما دليلك على صدق إيمان الرازي؟
الفقيه: لو لم يكن لدينا دليل على صدق إيمان الرازي سوى قوله: “إن وجود العقل في بعض الكائنات الحية وقدرتها على إتقان الصنعة يدل على وجود خالقٍ أتقن كل شيءٍ خلقه” لكفانا.
-
الفارابي:
وضع الفارابي برهانه على وجود الله فقال: إن الموجودات على ضربين أحدهما (ممكن الوجود)، والثاني (واجب الوجود). وممكن الوجود إذا فرض أنه موجود، لم يلزم عنه محال، وليس بغني بوجوده عن علته. وإذا وجد صار واجب الوجود بغيره لا بذاته. أما (واجب الوجود) فمتى فرض أنه غير موجود لزم عنه محال، ولا علَّة لوجوده، ولا يجوز كون وجوده بغيره. والأشياء (الممكنة) لا يجوز أن تمر بلا نهاية في كونها علَّة ومعلولاً، بل لا بد من انتهائها إلى شيءٍ واجب، هو الموجود الأول السبب في وجود كل الأشياء، وهو الله تعالى.
الجميع: منطقٌ يدل على أعلى مراتب اليقين.
-
ابن سينا:
ولنستمع إلى ابن سينا في برهانه على وجود الله. يقول: إنه لا ينبغي أن نلتمس البرهان على إثبات وجود الله بشيءٍ من مخلوقاته. بل ينبغي أن نستنبط من (إمكان) ما هو موجود، و(ما يجوز) في العقل وجوده، موجوداً أولاً (واجب الوجود). وهذا العالم (ممكن) ومن ثم يحتاج إلى علّةٍ تخرجه للوجود لأن وجوده ليس من ذاته. وبهذا لا نحتاج للاستدلال عليه بشيءٍ من مخلوقاته، وإن كان ذلك دليلاً عليه، إلا أن الاستدلال الأول أوثق وأشرف.
-
ابن مسكويه:
يعترف ابن مسكويه بأن الكون مخلوق، وأن الله تعالى خلقه من العدم، حيث يقول: إن الصانع جل جلاله جليٌ غامضٌ. أما أنه جلي فمن قِبَلْ أنه الحق والحق نيِّر، وأما أنه غامض فلضعف عقولنا. وأن الله الأزلي الأبدي قد أبدع الأشياء كلها من لا شيء، إذ لا معنى للإبداع إن كان عن شيءٍ موجود.
-
الغزالي:
حيران: ألا ما أعظم شوقي إلى حديثك عن الغزالي.
الفقيه: وأنا كذلك.
حيران: وما وجه الشوق عندك؟
الفقيه: إن الغزالي في شبابه كان صورة عنك وعن أمثالك في شكه وحيرته ورغبته في معرفة الحق، فلعل قلبك يطمئن إذا عرفت أحواله ورأيت أن هذا الشك الذي أنت فيه قد يعتري أعظم العقول اتزاناً وأصدق القلوب إيماناً. وهذا وجه الشوق عندي، فما هو وجه الشوق عندك؟
حيران: إنني سمعت أن شهرة الغزالي طبقت الخافقين حتى لقبوه بحجة الإسلام، مع أن بعض علماء الدين كانت لا تعجبهم طريقته.
الفقيه: هؤلاء هم الذين يكرهون هذا التعمق الفلسفي في الاستدلال على وجود الله وفي البحث عن صفات كماله، فكيف إذا رأوا عالماً من علماء الدين يبلغ به الخوض في الفلسفة إلى أن يضع كتاباً في تبسيط آراء الفلاسفة وأدلتهم وشبهاتهم واستشكالاتهم كأنه واحدٌ منهم!
وقد وضع الغزالي فيما بعد كتابه الشهير “تهافت الفلاسفة” الذي تولى به إبطال كل ما يخالف العقل والدين من أقوال الفلاسفة الإلهيين المقرين بوجود الله القائلين بقدم العالم مع الله، لا سيما أرسطو والأفلاطونيين المحدثين.
حيران: وماذا كان قوله في ذلك؟
الفقيه: يقول الغزالي: إنكم تعترفون بوجود الله وتصفونه بكل صفات الكمال، ولكنكم قلتم بقدم العالم وأنه لم يزل موجوداً مع الله غير متأخرٍ عنه بالزمان، وأن تقدم الله على العالم هو كتقدم المقدمة على النتيجة، أي تقدمٌ بالذات والرتبة لا بالزمان، وأن صدور العالم عن الله كان صدوراً ضرورياً.
والذي دعاكم إلى مزاعمكم هذه أنكم قلتم: لا يمكن صدور حادث من قديم؛ لأن القديم إذا لم يصدر عنه ثم صدر فلا بد لهذا الصدور من مرجِّح، فمن هو مُحدث هذا المرجح ولِمَ لَمْ يحدث العالم قبل حدوثه؟
وبعد أن يُفصِّل الغزالي أقوال الفلاسفة ويورد حججهم لا يُنقص منها شيئاً، شأن القوي الواثق من قدرته على مقارعتها، يرد عليهم من نفس أقوالهم وأحكام المنطق التي وضعوها ومن اعترافهم بوجود الله وإقرارهم بصفات كماله، فيقول لهم ما خلاصته: لقد استبعدتم صدور حادثٍ من قديم، ولا بد لكم من الاعتراف به، فإن العالم (حوادث) ولها أسباب. فإن قلتم إن الحوادث استندت إلى حوادث أخرى إلى غير نهاية فهو محال، وليس ذلك معتقد عاقل. ولو كان ممكناً لاستغنيتم عن الاعتراف بالصانع وإثبات واجب الوجود. وإذا كانت (الحوادث) لها طرف ينتهي إلى تسلسلها ويكون ذلك الطرف هو القديم، فلا بد إذاً من تجويز حادثٍ من قديم.
أما قولكم بصدور العالم عن الله صدوراً ضرورياً، فإن صدور المعلول عن علته صدوراً (ضرورياً) لا يكون إلا إذا تكافأ المعلول مع العلة، وليس بين الله والعالم (المتغير) تكافؤ حتى يصدر عنه العالم صدوراً ضرورياً.
وأنتم تعترفون بوجود الله وتصفونه بكل صفات الكمال، ومن أول صفات الكمال القدرة والإرادة. والإرادة صفة من شأنها تمييز أحد الضدين عن الآخر، ولو أن هذا شأنها لاكتفينا بوصف الله بالقدرة. ولكن لما تساوت نسبة القدرة إلى الضدين، الإيجاد والعدم، كان لا بد من صفة تخصص الشيء عن ضده وهي إفراده. فأما وأنه قد ظهر أن الإرادة من جملة صفات الكمال المتوجِّبة لله عقلاً، وأن الخلق بعد العدم لا يكون بمجرد القدرة بل لا بد له من الإرادة التي تُفضِّل الإيجاد على العدم، فَلِمَ تُنكرون على من يقول إن العالم حدث (بإرادةٍ قديمة) اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه.
العالم: كلامٌ في محله، فالفلاسفة الإلهيون هم الذين قالوا إن العالم (متغير)، وهم الذين قالوا إن العالم (حوادث) لها أسبابٌ وعلل، وهم الذين قالوا باستحالة (التسلسل) إلى غير نهاية، وهم معترفون بوجود الله ومقرون بتوجب كل صفات الكمال له عقلاً ومن أبرزها الإرادة التي معناها أن يكون الله مريداً مختاراً يخلق أو لا يخلق، وإذا قضى بالخلق حدَّد له وقته.
الفقيه: “سُبْحانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” (مريم:35).
وللحديث المتواصل بقية…
___________________________
المصدر: بتصرف يسير عن كتاب: للكون إله، د. صبري الدمرداش، الكويت، مكتبة المنار، ط2، 2006، ص:621-628.
[ica_orginalurl]