كعضو في الطبقة الأرستقراطية، كان اللورد هيدلي يخالط النبلاء وأعضاء العائلة المالكة في إنجلترا. ولم يكن يضيع فرصة لشرح الإسلام في تلك الدوائر، فقد تحدث عن حياة النبي الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، في إحدى المناسبات بعد العشاء، في حضرة العديد من الشخصيات المرموقة…
(مقتطف من المقال)
إعداد/ فريق التحرير
في مكان الصدارة بين معتنقي الإسلام في مقاطعة (ووكينغ) ببريطانيا يتربع اللورد هيدلي، البارون الخامس لهيدلي (1855-1935). وقد أعلن إسلامه على يد خواجة كمال الدين في عام 1913. في تلك الأيام، كان اعتناق الإسلام يعني مواجهة غضب واستياء من الأسرة والأصدقاء والمجتمع، وفي حالة أولئك الذين ينتمون إلى الطبقات العليا من المجتمع، مثل اللورد هيدلي، يعني أيضًا فقدان الاحترام والسمعة التي يتمتع بها الشخص. غير مبالٍ لأي خسارة دنيوية، أعلن اللورد هيدلي بجرأة وصراحة إسلامه وخدم قضية الإسلام حتى وفاته في عام 1935. فقد قام بجولة لزيارة الجاليات المسلمة في العديد من البلدان في صحبة أستاذه خواجة كمال الدين مسعود، مثل جنوب إفريقيا في عام 1926، والهند في عام 1927، وأدى شعائر الحج في عام 1923.
كيف كانت البداية؟
ولد هيدلي في لندن عام 1855م، وكان ينحدر من أسرة ملكية وهي سلالة ملوك شمال ويلز، ودرس الهندسة في جامعة كامبريدج البريطانية، وبعد أن أنهى دراسته أصبح أميراً في عام 1877م، وخدم في الجيش البريطاني وترقى إلى رتبة مقدم، وعلى الرغم مما عرف عنه من الجدية والصرامة، كونه مهندساً عسكرياً، كان يتمتع بذوق أدبي واسع، وهو ما أهله لشغل وظيفة رئيس تحرير جريدة (سولزبوري).
كانت الشكوك الكثيرة تراود هيدلي منذ باكورة شبابه حول ديانته، وعندما التحق بالجيش البريطاني أهدى إليه صديق له نسخة مترجمة لمعاني القرآن الكريم، فأحس بأنه وجد مبتغاه، ففكرة الألوهية، كما يصورها القرآن الكريم تتوافق مع فطرته السليمة، وبحكم سعة اطلاعه كان يدرك أن الحضارة الإسلامية هي التي أخرجت أوروبا من عصور الظلام ومهدت لها سبل الحضارة، فزاد ذلك من اقتناعه بالإسلام، ولكنه كتم إسلامه عشرين عاماً لأسباب عائلية.
وفي السادس عشر من نوفمبر عام 1913م أعلن هيدلي إسلامه على الملأ في حفل للجمعية الإسلامية في لندن، وسمى نفسه «رحمة الله فاروق»، واتهمه البعض بمحاولة تحقيق مكسب رخيص بزعامة المسلمين، مما دفعه للرد على منتقديه بمقالة عنوانها «لماذا أسلمت؟» .. قال فيها: نحن البريطانيين تعودنا أن نفخر بحبنا للإنصاف والعدل، ولكن أي ظلم أعظم من أن نحكم، كما يفعل أكثرنا بفساد الإسلام قبل أن نلم بشيء من عقائده، بل قبل أن نفهم معنى كلمة إسلام.
اعتناق الإسلام
ويتحدث هيدلي عن أسباب إسلامه فيقول: ربما يظن البعض أنني تأثرت بالمسلمين الذين عشت معهم، إلا أن ذلك ليس السبب الحقيقي لاعتناقي الإسلام، إذ إن إسلامي ليس إلا ثمرة تفكير وتأمل استمر سنوات عديدة، وقد آمنت بالإسلام بعد مناقشات فعلية مع المثقفين المسلمين في موضوع الدين، ولست بحاجة إلى القول بأنني سعيد غاية السعادة حين أجد أن جميع نظرياتي واستنتاجاتي تتفق تماماً مع ما جاء به الإسلام، ينص القرآن الكريم على أن الاتجاه إلى اعتناق دين جديد لا بد أن يكون نابعاً من الاختيار الحر والحكم الذاتي الطبيعي، لقول الله تعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ…” (البقرة:256)، وهذا ما أشار إليه السيد المسيح حين قال لأنصاره، كما ورد في إنجيل مرقص (ولكل إنسان الحق في عدم استقبالكم والامتناع عن سماعكم عندما ترحلون إلى هناك). والحق أن ما تتميز به العقيدة الإسلامية من إحسان وتسامح وسعة أفق، يجعلها أقرب إلى تعاليم عيسى من المعتقدات ضيقة الأفق التي تنادي بها الكنائس النصرانية المختلفة.
أسعد أيام حياتي…
ويقول هيدلي معبراً عن ساعة اعتناقه الإسلام: لا ريب أن أسعد أيام حياتي هو اليوم الذي جاهرت فيه على رؤوس الأشهاد بأنني اتخذت الإسلام ديناً .. فإذا كنت قد ولدت غير مسلم، فهذا لا يحتم عليّ أن أبقى كذلك طوال حياتي.
وتابع هيدلي قائلاً: فكرت وابتهلت أربعين عاماً لكي أصل إلى الحقيقة، ولا بد أن أعترف بأن زيارتي للشرق المسلم ملأتني احتراما للدين المحمدي السلس، الذي يجعل المرء يعبد الله طوال مدة الحياة لا في أيام الأحد فقط. وإني أشكر الله أن هداني للإسلام الذي أصبح حقيقة راسخة في فؤادي، وجعلني ألتقي بسعادة وطمأنينة لم ألتق بهما من قبل. لقد كنت في سرداب مظلم، ثم أخرجني الإسلام إلى فسيح من الأرض، تضيئه شمس النهار، فأخذت أستنشق هواء البحر النقي الخالص.
إن طهارة الإسلام وسهولته وبعده عن الأهواء والمذاهب الكهنوتية ووضوح حجته كانت كل هذه الأشياء أكبر ما أثر في نفسي. وقد رأيت في المسلمين من الاهتمام بدينهم والإخلاص ما لم أر مثله بين النصارى، فإن النصراني يحترم دينه عادة يوم الأحد حتى إذا ما مضى الأحد نسي دينه طول الأسبوع. وأما المسلم فبعكس ذلك، يحب دينه دائمًا، وسواءٌ عنده أكانَ اليوم يوم الجمعة أو غيره، ولا يفتر لحظة عن التفكر في كل عمل يكون فيه عبادة الله.
ويتحدث هيدلي عن شخصية محمد بن عبد الله باعتبارها المثل الأعلى، فيقول: إن للنبي العربي أخلاقا قوية متينة، وشخصية وزنت ومحصت واختبرت في كل خطوة من خطى حياتها، ولا نقص فيها على الإطلاق. وبما أننا في حاجة إلى نموذج كامل يفي باحتياجاتنا في الحياة، فشخصية محمد النبي المقدس تسد تلك الحاجة، فهي مرآة تعكس علينا التعقُّل الراقي، والسخاء والكرم والشجاعة.
إيقاظ العرب للإسلام
وبعد إشهار إسلامه أصدر هيدلي مجلة للدفاع عن الإسلام ورسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حملت اسم «Islamic Renew». كما أصدر عدة كتب في هذا المجال أبرزها كتاب «إيقاظ العرب للإسلام»، وكتاب «رجل غربي يصحو فيعتنق الإسلام». كما ترأس الجمعية الإسلامية البريطانية.
وتوفي هيدلي في الثانـي والعشـريـن من يونيو عـام 1935 م، وقبل رحيلـه كـان قـد حـج بيت الله الحرام، ومر في طريقه بالإسكندرية، فأقام له أهالي الإسكندرية حفلا كبيرا برعاية الأمير عمر طوسون، وبرئاسة الشيخ عبد الغني محمود شيخ علماء الإسكندرية آنذاك.
إسهامات اللورد هيدلي وعلاقته بالمسلمين
كتب هيدلي عدة كتيبات صغيرة عن الإسلام والعديد من المقالات في المجلة الإسلامية الشهرية، مجلة (ووكينغ ميشن). وكان يخطط لبناء المسجد الكبير في لندن، فقد تم الحصول على أرض في غرب كنسينغتون في لندن (بالقرب من مركز المعارض الشهير أولمبيا)، وفي يوليو 1937 تم وضع حجر الأساس.
و كعضو في الطبقة الأرستقراطية، كان اللورد هيدلي يخالط النبلاء وأعضاء العائلة المالكة في إنجلترا. ولم يكن يضيع فرصة لشرح الإسلام في تلك الدوائر، فقد تحدث عن حياة النبي الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، في إحدى المناسبات بعد العشاء، في حضرة العديد من الشخصيات المرموقة.
عندما قامت في مصر ثورة عام 1919م ضد الاحتلال الإنجليزي كان غضب المصريين عليهم قد بلغ ذروته وقد عبروا عن ذلك بطرق شتى بثت الرعب والهلع في قلوب المحتلين فكانوا لا يتنقلون في مصر إلا وسط حراسات مدججة بالسلاح خوفا على أنفسهم واعتبر المصريون من يصادقهم خائنا لوطنه وزلزلت الأرض تحت أقدامهم وتفاصيل ذلك معروفة في كتب التاريخ.
وفي هذا الوقت العاصف والجو المكفهر نزل بالإسكندرية ضيف كبير القدر عظيم الشأن هو اللورد الإنجليزي سيف الإسلام رحمة الله فاروق (اللورد هيدلي سابقا).. ومن العجيب أن يستقبله المصريون استقبالا حافلا كريما وكأنه لا ينتسب إلى دولة تحتل وطنهم، ولكن أخوة الإسلام ارتفعت بالجميع إلى مستوى في غاية السمو الإنساني والرقي الأخلاقي فقد أقام أهل الإسكندرية للضيف الكريم حفلين كبيرين رعاهما الأمير عمر طوسون كبير القوم في وقته، وقد احتشد الأمراء والوزراء والعلماء والأطباء والقضاة والأعيان والتجار وكثير من أبناء الإسكندرية، وقد ألقى الأمير عمر طوسون كلمة في افتتاح الحفل الأول جاء فيها: مرحبا مرحبا بكم أيها الضيوف الكرام، لقد خفت مصر لاستقبالكم، بل لقد تمنت كل مدينة أن يسعى إليكم أهلها لتقوم بما يجب لكم من الإجلال والإعظام والترحيب والإكرام يقول تبارك وتعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ…” (الحجرات:10) وهذا الإخاء هو الذي دفعنا إلى الاحتفاء بكم توكيدا لذلك الرباط المتين الذي يجمع قلوب المسلمين في أنحاء المعمورة.
___________________________________________
المصادر:
*النسخة الإلكترونية لجريدة الاتحاد الإماراتية
*النسخة الإلكترونية لجريدة أخبار الخليج
*جزء من أحد مقالات رشيد رضا في مجلة المنار
[opic_orginalurl]