هذا في الحقيقة هو الاختلاس الثاني الذي يقوم به من يتنكرون لوجود الخالق، إذ إنَّ ثقتَهم بعقولهم لا يُمكن أن تكون ذاتَ معنىً إلا إذا أثبتنا وجود الله سبحانه وتعالى، ونحن هنا لا نعتقد بالله فقط لأننا في حاجة إلى وجوده لتصح كل معارفنا، بل لأن الوجود نفسَه يقتضي وجود الله، ولا يُمكن أن يتحقق إلا إن كان هنالك خالق موجود…
(مقتطف من المقال)
يونس نظيف
كان الوجود الإنساني على مر العصور، وما يزال، متمَحوِراً بشكل أساسي حول مجموعة من الموضوعات التي ظلت تُشكل جوهره، إذ تعلق العقل الإنساني بالبحث عن الوجود ومعناه، بالأخلاق وقيمتها والمعرفة البشرية وما يتعلق بها.
وفي رحلته هذه ظل معتقدا بأن الوجود الإلهي وجود يُشكل كل أساسات هذه الموضوعات – بشكل عام، حتى القرن 18م الذي عرفت خلاله الفلسفة الغربية استعداءً شديداً للوجود الإلهي والدين عامةً، ومع الثورة العِلمية التي عُرِفت في ذلك العصر، فقد بدأ الإنسان الغربي تحويلَ ولائه من الدين إلى العلم، كأساس يكفيه للإحاطة بكل شيء، أو على الأقل بكل ما تصلح معرفته، نافياً بذلك أي تدخل للإله في قضاياه، سواء الوجودية أو الأخلاقية، وهو ما نعيش آثاره في زمننا هذا، وإن اختلفت بعض الأسس الحالية عما سبق.
إلا أنَّ فكرةَ إقصاءِ الإله في كل شيء والاكتفاء بالفلسفة المادية ما تزال كما هي، الشيء الذي يجعل من غير مؤمِني هذا العصر مجردَ مختلِسين من الله لا أقل ولا أكثر، فكما يقول الفيلسوف المغربي د. طه عبدالرحمن: إنَّ المُحدَثين، وهم يَفصِلون بين العالَمَين، ناسين العالَمَ الغيبي، لم ينسوا كمالاتِه، فاندفعوا في نقلها إلى العالَم المرئي، اقتباسا أو اختلاسا، ولعل القارئ هنا يتساءل عن معنى ذلك؟
سلسلة إنكارات.. تبدأ بإنكار الوجود الإلهي
باختصار، كما قال المهندس عبد الله العجيري مرةً، الإلحاد سلسلة من الإنكارات تبدأ بمجرد إقصاء فكرة الإله، فإن أنكَر الإنسان الإله فقد أنْكَر معه كل شيء كان يعتقد معناه في هذه الحياة، ابتداءً من معنى الحياة نفسها، وجود الخير والشر والأخلاق، وهذا الأمر في الحقيقة جَليّ، فإنَّ الأخلاق لا تكتسب أيَّ قيمة موضوعية في غياب الإله، وكل ما نستطيع التأسيس له هو أخلاق نسبية أو نفعية لا يُمكنها أن تخدم أبداً مصلحة الإنسان كافة، بل كيف يستقيم أن نؤسس منظومة أخلاقية إذا كان مفهومُ الخير والشر مفهوما خالياً من أيّ معنى، فحكمنا الأخلاقي على فعلٍ ما بأنه سيء، كأفعال هتلر، لا معنى له إلا إن اعتبرنا أنَّ القتل “شرّ”، وهو ما لا نستطيع أن نفعله إن نحن أقصينا الإله، وبالفعل هذا ما يشير إليه أحد فرسان الإلحاد الجديد في المشهد الغربي اليوم، ريتشارد دوكينز قائلا: (ما الذي يمنعنا من القول بأن هتلر لم يكن على خطأ؟ أقصد أنَّ السؤال صعب جداً).
وعموماً فإنَّك لن تجد لادينياً صادقاً مع نفسه إلا وأقرَّ بهذا، كما فعل من قبل الفيلسوف الملحد جون بول سارتر: (يجد الوجودي حرجاً شديداً في عدم وجود الله، لأنه بعدم وجوده تنعدم كلّ إمكانية للعثور على قيم في عالم واضح. لم يُكتب في أيّ مكان أنّ “الخير” موجود، ولا أنّ على المرء أن يكون صادقًا وألاّ يكذب. فلن يبقى هناك أي خير بدَهي لعدم وجود أي وعي مطلق لانهائي يعتقده. بما أننا على أرض منسبطة لا يوجد غيرنا. لقد كتب دوستويفسكي: إذا لم يكن الله موجوداً، فكل شيء مباح. فهذه هي نقطة البداية بالنسبة للوجودي. في الواقع، إذا لم يكن الله موجوداً سيكون كل شيء مباحاً، وبالتالي فإن الإنسان سيكون مُهمَلاً، لأنه لا يجد لا داخله ولا خارجه أي فرصة للتمسك بها) .
والإشكال هنا ليس في كيفية معرفة الأخلاق، بل في الأساس القيمي الذي تنبني عليه، وهو الأساس الذي يختلسه اللادينيون من الله وإلا فإن تخلقهم لا يتسق أساساً مع رؤيتهم الكونية للوجود. ثم إن الاختلاس لا ينتهي هنا، بل حتى بالنسبة للعقل البشري، فإنَّ ثِقتنا به وبقدراته لا تُستساغ إلا إن كان هنالك وجودٌ سامٍ مطلقٌ: ما نُسميه نحن بالله سبحانه وتعالى، وفي غيابه أو إقصائه فإننا حينئذٍ نفقد ثقتنا في العقل وإنتاجاته، وهذا بالفعل ما جعل مجموعة من الماديين يُصرحون بشيء من هذا، ابتداءً بمؤسس نظرية التطور، تشارلز داروين، الذي قال مرة: (لكن بعد ذلك، كثيراً ما ينتابني شكّ رهيب ما إن كانت قناعات عقل الإنسان، الذي تطور هو الآخر من عقول حيوانات دنيا، تتمتع بأي قيمة أو جديرة بالثقة على الإطلاق؟ هل يستطيع أي أحد أن يثق في قناعات عقل قرد، إن كانت هنالك أي قناعات فيه؟).
وهذا في الحقيقة من الإلزامات التي تفرضها المادية على أنصارها، فالعقل –على الأقل في ظل الداروينية– لم يتطور ليبحث عن الحقيقة أو ليفهم الكون، بل فقط ليساعد الإنسان على التكيف والحفاظ على حياته، وهذا بالضبط ما ستجده في جلّ كتابات التطوريين، كالحائز على نوبل فرانسيس كريك وغيره. وقول داروين أعلاه في الحقيقة يُمثل صورة كونية تفرضها المادية حول العقل، فثقتنا في عقولنا لا معنى لها إن نحن أقصينا الإله، وتجدر بي الإشارة هنا إلى أنَّ هذه الفكرة هي مِحور فلسفة الفرنسي رينيه ديكارت، إذ: (من المعروف أنَّ ديكارت شَيَّد نظاماً فلسفياً متماسكاً، انطلق في بنائه “بترتيب ونظام” من الكوجيتو: أنا أشك، وأعرف أني أشك، وبالتالي فأنا أفكر، وإذن فأنا موجود. هذه الحقيقة بديهية، كما يقول ديكارت. والمشكلة هي كيف الخروج من الكوجيتو، من “أنا أفكر”؟ وجد ديكارت لنفسه مخرجاً، بفحص أفكاره، و”عثوره” فيها على فكرة كائن كامل، مطلق الكمال (الله).
بحثَ عن مصدر هذه الفكرة، فقال: إنها لا يمكن أن تكون نابعة مني أنا الكائن الناقص، إذ لا يعقل أن يكون الناقص مصدراً للكمال. فلابد أن يكون هذا الكائن الكامل هو الذي أودعها فيّ، ولابد أن يكون هو نفسه موجوداً، لأن كماله يقتضي وجوده، كما يقتضي أنَّه إله غير خداع. هذه هي الخطوة الأولى في عملية الخروج من الكوجيتو. أما الخطوة الثانية فهي كل ما يأتي: بما أنَّ هذا الكائن كامل لا يمكن أن يخدعني لأنَّه كامل، والكمال يتنافى مع الخداع، وبما أنَّ لديَّ ميلاً قويّاً إلى اعتبار هذا “العالم” الخارج عن نفسي موجوداً، فإني أُسلم بوجوده يقيناً. والله ضامن هذا اليقين.
وهذا في الحقيقة هو الاختلاس الثاني الذي يقوم به من يتنكرون لوجود الخالق، إذ إنَّ ثقتَهم بعقولهم لا يُمكن أن تكون ذاتَ معنىً إلا إذا أثبتنا وجود الله سبحانه وتعالى، ونحن هنا لا نعتقد بالله فقط لأننا في حاجة إلى وجوده لتصح كل معارفنا، بل لأن الوجود نفسَه يقتضي وجود الله، ولا يُمكن أن يتحقق إلا إن كان هنالك خالق موجود.
المصدر: بتصرف يسير عن موقع مركز يقين
[ica_orginalurl]