إن الله سبحانه وتعالى قد امتدح الخاشعين في مواضع كثيرة من كتابه فقال: “قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ.” (سورة المؤمنون- الآيات 1: 2) وقال: “وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ.” (سورة البقرة-الآية 45).
وقال: “خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.” (سورة آل عمران- الآية 199).
وقال: “وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ.” (سورة الأنبياء- الآية 90).
وقال: “وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا.” (سورة الإسراء- الآية 109).
وامتدح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الخشوع وبين فضل البكاء من خشية الله فقال: “لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم.” (رواه الترمذي).
وقال: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله … وذكر منهم: ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه” (رواه البخاري ومسلم). وعن عبد الله بن الشخير (رضي الله عنه) قال: “أتيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء” (رواه أبو داوود).
وغيرها من الأحاديث كثير. وأصل الخشوع كما قال ابن رجب: “لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء لأنها تابعة له” (ابن رجب- الخشوع في الصلاة).
والخشوع: خمود نيران الشهوة، وسكون دخان الصدور، وإشراق نور التعظيم في القلب، واستحضار عظمة الله وهيبته وجلاله.
قال الجنيد: الخشوع تذلُّل القلوب لعلام الغيوب.
والقلب أمير البدن، فإذا خشعَ القلب، خشع السمع والبصر والوجه وسائر الأعضاء وما ينشأ عنها، حتى الكلام.
الخشوع يقظة دائمة لخلَجَات القلب وخفقاته ولفتاته حتى لا يتبلد، وحذَرٌ من هواجسه ووساوسه، واحتياط من سهواته وغفلاته ودفعاته، خشية أن يزيغ وتعتريه القسوة.
والخشوعُ عِلمٌ نافع يباشر القلب، فيوجب له السكينة والخشية، والإخبات والتواضعَ والانكسارَ لله، وكل أولئك رشْحٌ من فيْض الخشوع. (الخشوع وأثره في بناء الأمة، لسليم بن عيد الهلالة- دار ابن الجوزي. والخشوع في الصلاة، لابن رجب الحنبلي).
والخشوع أولُ علم يُرفع من بين هذه الأمة:
عن شداد بن أوس (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: “(إن أول ما يرفع من الناس: الخشوع.” (رواه البخاري).
وعن أبي الدرداء (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “أول شيءٍ يُرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعًا.” (رواه الطبراني وصححه الألباني).
وقال حذيفة (رضي الله عنه): “أول ما تفقدون من دينكم: الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم: الصلاة”.
ومتى تكلف الإنسان تعاطي الخشوع في جوارحه وأطرافه، مع فراغ قلبه من الخشوع وخلوه منه – كان ذلك خشوع نفاق، وهو الذي كان السلف يستعيذون منه.
قال حذيفة (رضي الله عنه): “إياكم وخشوع النفاق، فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع”.
ورأى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) رجلا طأطأ رقبته في الصلاة، فقال: “يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب”.
ورأت عائشة رضي الله عنها شبابا يمشون ويتماوتون في مشيتهم، فقالت لأصحابها: “من هؤلاء؟ فقالوا: نساك، فقالت: كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، وكان هو الناسك حقًا”.
وقال الفضيل بن عياض: “كان يكره أن يري الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه.” (مدارج السالكين 1/517 -521).
والخشوع يحصل بمعرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته. فإذا أدرك العبد عظمة الله وكبريائه وقوته واستقرت هذه المعرفة في قلبه فإنّ ذلك يظهر عليه في سلوكه وأقواله.
ولما كان العبد يتقلب في ملك الله ويرى آياته لا تنقطع.
أصابه التبلد والفتور فاحتاج من يوقظه كل حين، والصلاة خير موقظ فهي توقظه خمس مرات في اليوم والليلة.
والقلوب تتفاوت في الخشوع بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، وبحسب تفاوت مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع؛ فمِنْ خاشع لقوة مطالعته لقرب الله من عبده، واطلاعه على سرِّه وضميره، المقتضي للاستحياء من الله تعالى ومراقبته في الحركات والسكنات. ومن خاشع لمطالعته لكماله وجماله، المقتضي للاستغراق في محبته، والشوق إلى لقائه ورؤيته. ومن خاشع لمطالعة شدة بطشه وانتقامه وعقابه، المقتضي للخوف منه.
وهو سبحانه جابر المنكسرة قلوبهم من أجله، وهو سبحانه وتعالى يتقرب ممن يناجيه في الصلاة ويعفر وجهه في التراب بالسجود، كما يتقرَّب من عباده الداعين له، السائلين له، المستغفرين من ذنوبهم بالأسحار، ويجيب دعاءهم، ويعطيهم سؤالهم، ولا جبرَ لانكسار العبد أعظم من القرب والإجابة. (الخشوع في الصلاة ص 13، 14).
والخشوع يتأتى للقلب غالبًا إذا بذل العبد أسبابه، كما أنَّ القلب يقسو ويغفل إذا ترك أسباب الخشوع.
ومن أقوى أسباب الخشوع الوقوف بين يدي رب العباد، ولكن ليس كل وقوف يزيد في الخشوع، إنما الوقوف الذي يزيد في الخشوع ما وافق ما عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه. وأن يعلم العبد أنه ليس له من صلاته إلا ما عقل منها ففي المسند مرفوعا: “إنَّ الرجل لينصرفُ وما كُتب لهُ عُشرُ صلاته، تُسعُها، ثمْنها، سبعُها، سدسُها، خمسُها، ربعُها، ثلثُها، نصفُها” (أخرجه أبو داوود والنسائي).
_______________________________
المصدر: كتاب كيف تخشعين في الصلاة لرقية بنت محمد المحارب.
[ica_orginalurl]