إعداد فريق التحرير
البصر من أعظم المنافذ إلى القلب، يقول الإمام القرطبي رحمه الله: البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكلِّ ما يُخشى الفتنة من أجله، ونقصد بغض البصر أن يُغمض المسلم بصره عما حُرِّم عليه ولا ينظر إلا لما هو مباح له النظر إليه، وإن وقع نظر المسلم على مُحَّرمٍ من غير قصد فليصرف بصره سريعا ولا يتمادى في النظر.
(وغضُّ البصر عن محارم الله واجب على كل مسلم، ولا فرق في ذلك بين أن يكون النظر عبر التلفاز أو الإنترنت أو الصور المطبوعة أو النظر حقيقة إلى أعيان النساء أو الرجال حيث أمرنا الله بحفظ البصر عن الحرمات، أو حتى عمن يجوز النظر إليهم إذا كان النظر إليهم بشهوة، وذلك لخطورة إطلاق البصر إلى الحرام، وعظيم ضرره على القلب والبدن، وشدَّة فساده على نفس الإنسان، وربما تعدى ضرره إلى المنظور إليها.)
القرآن يأمر بغض البصر:
لما كان النظر من أهم المنافذ إلى القلب، ولما كان إطلاقه بغير قيد ولا ضابط قد يوقع الهوى في قلب صاحبه، ويجعله يقع في شَرَك الفواحش والفتن، فقد أمر الله بغض البصر حتى يأمن العبد عواقب السوء: “قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ” (النور:30).
ونلحظ هنا أن الله تعالى قد جعل الأمر بغض البصر مقدما على حفظ الفرج، لأن كل الحوادث مبدؤها من النظر كما قيل:
كل الحوادث مبدؤها مــن النظر *** ومعظم النار من مستصغـــر الشرر
كـم نظـرة فتكـت فـي قلــب صا *** حبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والعبــد مـا دام ذا عيـن يقلبهـا *** فـي أعين الغيد موقوف على الخطر
يســر مقلتــه مـا ضـر مهجتــه *** لا مـرحبــا بســرور عــاد بالضـرر
والنبي يأمرك بغض البصر
فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم).
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم غض البصر أحد حقوق الطريق حين قال لأصحابه رضي الله عنهم: (إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله مالنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدث فيها. فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر).
(وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم خطورة النظر كما جاء فيما رواه أحمد وابن حبان و أبويعلى بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العينان تزنيان، واللسان يزني، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، ويحقق ذلك الفرج أو يكذبه)؛ فالعين مرآة القلب، وما يقع فيها يتحول إلى القلب، فيفسده ويضره ويشغله عن الله، ويصده عن سبيله وطاعته.)
وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس رضي الله عنهما ينظر إلى امرأة جاءت تستفتيه فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها.
وقد علق ابن القيم رحمه الله على ذلك فقال: وهذا منع وإنكار بالفعل، فلو كان النظر جائزا لأقره عليه.
نظر الفجأة
قد يسير الإنسان في طريق أو يكون في مكان به آخرون فيقع بصره على ما حرم الله تعالى بغير قصد منه فهذا ما يسمى بنظر الفجأة، والواجب في هذه الحالة أن يصرف بصره، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
وهذا أنفع علاج وأسرعه أن يصرف العبد بصره ولا يستديم النظر فإن من استدام النظر أثم وتعدى، فإن رسول الله قال: (يا عليُّ لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة).
والنساء مأمورات بغض الأبصار
فإن الله عز وجل يقول: “وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ… ” (النور:31).
عناية السلف بغض البصر
ولقد عني السلف الصالح رضي الله عنهم بقضية غض البصر عناية عظيمة فوجدنا منهم مواقف ومواعظ في هذا الباب تنبئ عن علو همتهم في هذا، ومن ذلك قول أنس: إذا مرت بك امرأة فغَمِّض عينيك حتى تجاوزك.
وقال بعضهم: من حفظ بصره أورثه الله نورا في بصيرته.
وكان سفيان رحمه الله إذا خرج في يوم العيد قال: إن أول ما نبدأ به اليوم غض أبصارنا.
ولما قال رجل للحسن رحمه الله: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن قال: اصرف بصرك.
وقال ابن مسعود: الإثم حوَّاز القلوب (يحز في القلوب) وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع.
وكان الربيع بن خثيم يغض بصره فمر به نسوة فأطرق (أي أمال رأسه إلى صدره) فظن النسوة أنه أعمى وتعوذن بالله من العمى.
من فوائد غض البصر
ذكر الإمام ابن القيم عدة فوائد منها:
*تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظره دامت حسرته.
*أنه يورث القلب نورا وإشراقا يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه.
*أنه يورث صحة الفراسة، فإنها من النور وثمراته، قال شجاع الكرماني: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وأكل من الحلال- لم تخطئ فراسته.
*أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور القلب، فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات، ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه وأظلم.
*أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، قال بعض الشيوخ: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله.
*أنه يورث القلب سرورا وفرحة وانشراحا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر، فلذة العفة أعظم من لذة الذنب.
*أنه يسد عن العبد بابا من أبواب جهنم، فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفاحشة، فمتى غض بصره سلم من الوقوع في الفاحشة، ومتى أطلقه كان هلاكه أقرب.
*أنه يقوي العقل ويزيده ويثبته، فإن إطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه وعدم ملاحظته للعواقب كما قيل: وأعقل الناس من لم يرتكب سببا حتى يفكر ما تجني عواقبه.
*أن غض البصر يخلص القلب من ذكر الشهوة ورقدة الغفلة، فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار والآخرة.
وأما الأسباب التي تعين على غض البصر فكثيرة، منها:
* الاستعانة بالله تعالى ودعاؤه أن يعينك على نفسك وشهواتك، فالمُعان من أعانه الله تعالى.
*استشعار مراقبة الله علينا، وأنه مطلع على سرنا و علانيتنا وهو الذي أمرنا بغض البصر.
* الابتعاد عن رفقاء السوء الذين يدلُّون على الشر ويعينون عليه.
*ومما يعين على الصبر عن المعاصي ملاحظة حسن الجزاء، وذلك بتذكر ما ينعم الله تعالى به على المؤمن في الجنة من الحور العين، وأنه كلما ارتفعت درجته كلما زاد نعيمه.
*المحافظة على فعل الطاعات والإكثار من القربات، خاصة صلاة الجماعة، وقيام الليل ولو ركعتين، والاستغفار، والذكر، والصدقة ولو يسيرة، فإن فعل الطاعة ينهى عن الآثام والمعاصي؛ قال تعالى: “اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ” (العنكبوت:45).
*شغل النفس بالحق؛ فالنفس لا تمل السعي والحركة والطلب والعمل، فإن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وإن لم تحلِّق بها في معالي الأمور انحدرت بك إلى سفاسفها، ومن أجل ذلك كره سيدنا عمر رضي الله عنه الفراغ باعتباره نزلة إلى المذلة، وهاوية إلى الهوى فقال: (إني لأكره أن أرى أحدكم فارغًا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة).
*كثرة الصيام: ولقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة[1] فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطِع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
*مراقبة الله – عز وجل – والخوف منه؛ قال تعالى: “يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ” (غافر: 19).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيُريهم أنه يغضُّ بصره عنها، فإن رأى منهم غفلةً نظر إليها، فإن خاف أن يفطنوا إليه غضَّ بصره، وقد اطَّلع الله – عز وجل – من قلبه أنه نظر إليها.
*البعد عن المثيرات: ابتعد عن كل ما يُثير، ولا تعذب نفسك، فكل مكان أو شيء يُغري بعدم غض البصر والنظر إلى الحرام وجب الابتعاد عنه قدر الاستطاعة؛ مثل: البعد عن رفقاء السوء الذين يُزيِّنون المعصية، ومقاطعة ما يُغضب الله تعالى من مجون وخلاعة، سواء في الإنترنت أو التلفاز أو غيره من المجلات والصحف.
*ومن المعينات أيضًا باختصار: ممارسة الرياضة لتفريغ الطاقة، وقضاء الأوقات في النافع؛ مثل: حفظ القرآن، ومطالعة الكتب المفيدة، واصطحاب المصحف في المواصلات وأماكن الانتظار.
الهامش:
[1] – تكاليف الزواج
___________________________________
المصادر:
- موقع قصة الإسلام
- موقع الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات العربية
http://www.awqaf.gov.ae/Fatwa.aspx?SectionID=9&RefID=3496
- شبكة الألوكة
http://www.alukah.net/sharia/0/74851/
[opic_orginalurl]