لم تكن غادة من أصحاب المنجزات الضخمة، ولا كانت من صُويحبات الطموحات الأممية، لا تحكي أمها عن أي اهتمامٍ لها خارج المعتاد، لم تكن هناك صوراً معلقةً لمشاهير على جدران غرفتها، لم تذكر نشاطاً فعلته بالجامعة غير الدراسة.. كانت غادة امرأةً من فئام الناس! لا يستوقفك في سيرتها شيءٌ ذو بال!
د/ حسام الدين حامد
هل رأيت الأعينَ النجلاءَ يتخللها رهق، والجبهةَ الزهراءَ يذويها شحوب، ونضارةَ البشرةِ يطمسُها ذبول، والحياءَ الملثّمَ يكشفُه ألم، والغادةُ الحسناءُ تشكو من كَبَد، والنفسُ التواقةُ يقعد بها جسد؟!
كعادتها! ترنو «الذئبة الحمراء»[1] إلى القوارير، وكأنها تغار من رَبَّات الحسن، تترصد لهن لتصيبهن بضُرّ، حتى تهجمَ هجمةَ جبانٍ صادفه تمكين، فتُلْقِي بقتلاها عن شمالٍ ويمين!
أول ما رأيتُ (غادة) كانت في العناية المركزة، طريحةَ الفراش، تشكو إليّ حزنَ أمِّها، وتشكو أمِّها، وتشكو أمُّها حالَ ابنتها تألمت فخضعت لاستكشافٍ جراحي، لكنها لا تعلم لماذا يزداد الألم؟! أخبرها الجرّاح أنه وجد التهاباً حادّاً بالبنكرياس، ولا تفهم لم لا يُعالَج هذا الالتهاب بالجراحة؟ ترى الأنابيب الجراحية تخرج من بطن ابنتها، ولا تدري من أين تأتي بهذا السائل الذي لا يتوقف؟! تعرف أن ابنتها شُفيت من الذئبة الحمراء منذ ثلاث سنوات، فما معنى السؤال عن تاريخ ابنتي مع «الذئبة»؟! هل عادت «الذئبة» مرةً أخرى؟! هل هناك مشكلةٌ في الكُلَى.! هل.. هل.. هل ستعيش ابنتي؟!
معضلةٌ طبية!! التمسنا في حلّها آراء المختصين في أمراض الكلى والمناعة، فهي ألصقُ باختصاصِهم، وأقربُ إلى مَحِلِّ اهتمامِهم، وقد استرعت فضولَهم، فطلبوا من أحد أطباء القسم أن يعدّ تقريراً بالحالة، لكنّ «العنايةَ» عندنا أفضل، والإمكانياتِ أكثر، وردَّ الفعلِ أسرع… إذن فلتبق غادة تحت أعيننا، وليأتوا لمتابعتها معنا!!
«هل رأيتَ صورةَ فرحي»؟! يا الله!! أهذه منذ ستة أشهرٍ فقط؟! أرأيتَ قبلُ «موعظةً» من «صورة فرح»؟! أهكذا يكون ابن آدم حُسناً يتألق، ونشاطاً يتفلت، وأملاً يمتد، فإذا به وقد أخذه المرضُ رهينةً، فلم يذر منه إلا بقيةً من روحِ دعايةٍ وذرواً من أملٍ متردد؟! كثيراً ما كنت أدخل للمرور عليها؛ فتبادر بإخفاء الصورة ومداراة ابتسامة تداعب وجهها، أو تقطع حديثها مع الممرضات عن قصة زواجها، والصعوبات التي واجهتهم للحفاظ عليه!
هل سيفيد الكورتيزون؟! بالطبع! فالذئبة بالأساس مرضٌ مناعيٌ تهاجم فيه المناعة أنسجة الجسم، والكورتيزون يثبط المناعة، حتماً سيفيد!! لكن ماذا لو ضعفت المناعة فنشطت البكتريا.! لو أصابت العدوى هذا البنكرياس الملتهب ستتدهور الحالة؟! وما أدراك أن التهاب البنكرياس ليس بسبب الذئبة؟! ولم لا يكون التهاب البنكرياس هو الذي أضعف الجسم فنشطت الذئبة؟! ألا ترى أن درجة الألم لا تتناسب مع التهاب البنكرياس؟! وأنت لا تستند في تشخيص الذئبة إلى أكثر من التاريخ المرضي.. الاستكشاف.. الأميليز.. الدلالات..
«كيف الحال يا هبة؟!».. أحياناً أناديها بغيرِ اسمِها، خلطاً بينها وبين مريضةٍ أخرى، قتفابلني بعبوسٍ ولهجةٍ غاضبة.. «أنا اسمي غادة!».. تهتم بالأسماء هي! تسأل زميلي عن اسمه، «اسمي مينا!»، يكسو وجهها العجب، «لا!! لا يصح!! أنت اسمك محمد»!.. يُذكّرني منطقها بالطفولة! هذه الشفافية في رؤية الأشياء كما ينبغي لا كما تبدو، ومحاكمة الأمور إلى مُثُلٍ قائمةٍ لا تتأثر بالأعراف والأهواء!
غادة.. تتعافى
بدأنا الكورتيزون، ولله الفضل أن أبدت تحسناً، وله الحمد ظاهراً وباطناً، فالأنيميا تقل، وكرات الدم البيضاء تزداد، ودلالات نشاط الذئبة تقل، والحالة العامة أفضل، والإنزيمات التي نتابع بها التهاب البنكرياس في معدلها الطبيعي، ووظائف الكلى تتحسن.. الوضع في جملة أحسن!
«زوجي يدعوك – وزملاءك – للغداء معنا بعد شفائي»!.. لسابق علمي بأنهم من أعيان قريتهم، وأنها وأخواتها يُجدن الطبخ كما حدثتني، فقد اشترطت عليها أن يكون الغداء ذو طبيعةٍ خاصة، مشتملاً على عدة أصنافٍ مما يشتهر به ريف مصر، فوافقت وأمطرتني صنوفاً أخرى لم أشترطها وتنوي إعدادها، فزدتُ شرطاً ألا يزيد نصيب «مينا» عن قطعةٍ من الجبن الأبيض، فرفضت بضحكةٍ مرهقة!!
هذا هو اليوم الثاني من بدء الكورتيزون، الحالة العامة جيدة، والعلامات الحيوية مستقرة، والتحاليل عموماً مبشرة، تستشعر أمها هذا التحسن، وغادة نفسها تشم نسمات العافية، بدأنا نفكر في نقلها من العناية إلى القسم الداخلي، ليمكن دخول الزيارة لها بصورةٍ أكبر، ولتزيد حركتها.. ولتقل.. ثم.. ثم حدث ما كنا نخشاه!
تعدني ألا تطلب مني السماح بالزيارة، مقابل أن أرفعَ قناعَ الأكسجين قليلاً عن أنفها، مضطرّاً أوافق! ثم يأتي التليفون من بوابة المشفى إلى «العناية»، إنه زوجها يستأذن في الزيارة، تخاطبني عينها.. «لكنها لن تدومَ أكثر من دقيقة واحدة»!.. باسمةً توافق!! أغبط قدرتها على التمتع بهذه المعطيات الصغيرة، لتنعكس في وجهها صورةً تامةً من السعادة البالغة، كمن يطمئن لجواب أسئلةٍ وجوديةٍ كبرى من مقدماتٍ بسيطة! أغبط هذه الفطرة التي ما زالت حاضرةً تصد عوادي اليأس ورياح القلق!
لماذا.. لماذا تنتكس مرةً أخرى؟! هكذا لم يبق إلا استعمال الأجسام المضادة وريديّاً لعلاج الذئبة، دواءٌ أثبت فاعلية، لكن العلاج به يتكلف آلاف الجنيهات! يسألني زوجها الشاب، فأخبره بالدواء الفعّال باهظ الثمن، تُسكته الحيرة، أشاركه الفكرة.. «قابلني بعد قليل، فربما استطعنا جلبها على نفقة المستشفى»!.. لماذا؟!! لماذا تنتكس!؟ أين ذهب العلم!! آلآن يعلن العجز؟! لن يقابلني بعد قليل.. المرض يمتد سريعاً ليقضي على القلب والرئتين!! لا بد من التنفس الصناعي، فنسبة تشبع الدم بالأكسجين تتدهور!!
تتسارع الخطوات من حولها.. نقترب منها استعداداً لوضع أنبوب التنفس الصناعي.. تعلو وجهها نظرة فزع من هذا التكالب المفاجئ.. وما تلبث أن تطمئن.. تشير بيدها تتمهلنا في كلمة.. كلمة..
«أنا آسفة لكم كلكم»!
تختفي العَبْرة..
«لمَ الأسف؟! ستكونين بخير! قولي الحمد لله»!
«الحمد.. لله!! الحمد.. لله!!.. لا.. إله.. إلا.. الله»!
لم تكن غادة من أصحاب المنجزات الضخمة، ولا كانت من صُويحبات الطموحات الأممية، لا تحكي أمها عن أي اهتمامٍ لها خارج المعتاد، لم تكن هناك صوراً معلقةً لمشاهير على جدران غرفتها، لم تذكر نشاطاً فعلته بالجامعة غير الدراسة.. كانت غادة امرأةً من فئام[2] الناس! لا يستوقفك في سيرتها شيءٌ ذو بال! ولا يخطر ببالك يوماً أن يكون عندها ما تغبطها عليه وأنت الرجل العظيم! فضلاً عن أن تتخذها قدوةً وتضرب بها الأمثال! لكنّك – لو رأيتها – لسألتها عن سرّ هذا الرضا وراحة الضمير!؟ ولنذرتَ من عمرك ما يكفي لتحقيق أسباب الوصول لهذا الموت الجميل؟!
هل السر في الطمأنينة المتدفقة من الأمومة الجيّاشة وهذا البرّ الشديد؟! هل السر في الإخلاص السيّال من قلب رفيق الدرب!؟ لعله في تلك السعادة المنبعثة من ذكرى الزواج؟! أم تراه في الانسياق وراء تلك الفطرة الأصلية دون التفات للوساوس والآراء؟! أو يكون في الأمل.. في الصبر.. في الامتنان.. في الرضا بتصريف أقدار الخلائق!! سأظل – وافياً بالنذر – أسعى لتحصيل تلك الأسباب، مشفقاً على كآبة قلب من يُنكر هذه الأسرار!!
الهوامش:
[1]– الذئبة الحمراء الجهازية: Systemic lupus erythematosus
مرضٌ مناعيٌّ ذاتيٌّ يهاجم فيه الجهاز المناعي أنسجةً وخلايا بالجسم محدثاً بها التهاباتٍ وتلف، وأغلب الإصابة به تكون في الفتيات والشابات.
[2] – من عوام الناس
______________________________
المصدر: بتصرف يسير عن كتاب الإلحاد.. وثوقية التوهم وخواء العدم، مركز تفكر للبحوث والدراسات، ط1، 2015.
[ica_orginalurl]