لكل واحد من اسمه نصيب؛ فهي -بحق- عجيبة من عجائب زمانها في علم الحديث، وكانت ضوء الصباح الذي بدد ظلمات الجهل، وأنار الطريق لطلبة العلم على مدى عقود متعاقبة…
(مقتطف من المقال)
محمد فتحي النادي
هناك بعض الشخصيات التي تعتبر ذاكرة للأمة، وشاهدة على العصر الذي يعيشون فيه؛ وذلك لطول عمرهم، ولتعاقب الأحداث الجليلة عليهم، ولوعيهم الكامل لما يدور حولهم، ولتبوئهم المكانة العالية في مجتمعاتهم مما جعلهم مؤثرين فيمن حولهم، كل ذلك يجعل من دراستهم وتسليط الضوء عليهم أمرًا هامًّا؛ لأنهم يعتبرون تاريخًا يسعى على قدمين.
ومن تلك الشخصيات التي حفر اسمها على جدران التاريخ، ولمع نجمها في سماء زمانها المسندة/ ضوء الصباح.
الاسم والميلاد
هي الشيخة المعمرة المسندة عجيبة بنت الحافظ أبي بكر محمد بن أبي غالب بن أحمد بن مرزوق الباقداري البغدادي؛ وتدعى ضوء الصباح.. ولدت في صفر سنة أربع وخمسين وخمسمائة.
ولكل واحد من اسمه نصيب؛ فهي -بحق- عجيبة من عجائب زمانها في علم الحديث، وكانت ضوء الصباح الذي بدد ظلمات الجهل، وأنار الطريق لطلبة العلم على مدى عقود متعاقبة.
والشيخة عجيبة ربيبة بيت علم فأبوها هو (محمد بن أبي غالب بن أحمد بن مرزوق بن أحمد الباقداري البغدادي) الضرير المحدث، الحافظ أبو بكر.
ذكره ابن الدبيثي الحافظ، فقال: انتهى إليه معرفة رجال الحديث وحفظه، وعليه كان المعتمد فيه.
وقال أبو الفتوح نصر بن الحصري الحافظ: كان آخر من بقي من حفاظ الحديث الأئمة.
قال الدبيثي: سمعت غير واحد من شيوخنا يذكرون أبا بكر الباقداري، ويصفونه بالحفظ ومعرفة الرجال والمتون، مع كونه ضريرًا مقصورًا، إلا أنه كان حفظة، حسن الفهم.
النشأة
فهذا الرجل سقاها من نمير العلم شرابًا زلالاً، ولم يمل إلى الرأي الذي يعزل المرأة عن العلم بدعوى أنها لم تخلق إلا للغزل والنسج.
ولم يكن أبوها الحافظ أبو بكر يذهب للرأي الذي يقول: لا تخرج المرأة من بيت أبيها إلا إلى بيت زوجها، ثم إلى القبر. فهذا رأي مرفوض والأمثلة تؤكد أن هذا الرأي لم يكن سائدًا بين المسلمين.
وقد نشأت هذه الشيخة الجليلة في حاضرة العلم والعلماء في (بغداد) عاصمة الخلافة الإسلامية، تلك المدينة التي يفد إليها طلاب العلم من كل حدب وصوب، وكذلك الشيوخ الأجلاء والعلماء الأعلام.
ورغم أن الأمة الإسلامية كانت من الناحية السياسية ضعيفة حيث التشتت والتشرذم وتكالب الأمم عليها؛ فالفرنجة في قلب العالم الإسلامي في الشام، والتتار على البوابة الشرقية عند بلاد خوارزم (أفغانستان)، والتناحر والتشاجر السمة الغالبة بين ملوك وسلاطين المسلمين، إلا أن العلم كان ما يزال في عنفوانه؛ فبنظرة عجلى على الشيوخ والعلماء الذين عاصرتهم ضوء الصباح نجد منهم: ابن عساكر، وابن الجوزي، وابن الأثير، والفخر الرازي، والآمدي، وابن الصلاح، والعز بن عبد السلام… إلخ.
وكلهم ممن كانوا ولا يزالون نبراسًا في سماء العلم والعلماء.. وقد مات أبوها ولم تتجاوز الحادية والعشرين من عمرها.
وقد عاصرت أحداثًا جسامًا؛ فقد اكتحلت عينها بفرحة النصر الذي حققه الناصر صلاح الدين الأيوبي بفتحه بيت المقدس سنة 583ﻫ.
شيوخها
ذكر أهل التاريخ والتراجم أنها تتلمذت على نخبة من العلماء النجباء في عصرها؛ فقد سمعت من أبي الحسين بن يوسف، وعبد الله بن منصور الموصلي، وعبد الحق اليوسفي، وأجاز لها أبو عبد الله الرستمي، ومسعود الثقفي، وكانت خاتمة من روى عنهما، وأبو الخير الباغبان وابن عمه أبو رشيد، وهبة الله بن أحمد الشبلي البغدادي، ورجاء بن حامد المعداني.
نبوغ ضوء الصباح في العلم
لقد فاقت ضوء الصباح الرجال في طلب العلم، بل إن أخاها لم يكن مثلها في طلب العلم، قال الذهبي عن محمد أخيها: مات أبوه وهو صبي، فاشتغل بالمعيشة. وتوفي في الكهولة ولم يحتج إلى مسموعاته.
قال ابن النجار: ومن العجب أنه لم يروِ شيئًا البتة.. ولم تتلق العلم دون تمحيص ونقد؛ فقد ضعفت شيخها مسعود الثقفي.
وقد امتدحها الذهبي بنبوغها فقال: من أسند شيوخ بغداد. سمّعها واستجاز لها الكبار.
تفردها في الدنيا بالإجازة عن جماعة
وهذا مما شهد به العلماء الأجلاء، حيث كانت البوابة الوحيدة للرواية عن جماعة من العلماء، مما جعلها قبلة لطلبة العلم الذين يطلبون علم هؤلاء الجلة من المشايخ، قال الذهبي والصفدي: تفردت في الدنيا بالإجازة عن جماعة.
شهرتها
هناك من العلماء من حباه الله العلم، ولكنه لم ينل حظه من الشهرة، وهناك من رزقه الله العلم والشهرة، ومن هؤلاء عالمتنا؛ فقد شهد لها المؤرخون بذلك، ويأتي على رأس هؤلاء الذهبي فقال: شيخة مسندة مشهورة.
تلامذتها
لم تحتجب ضوء الصباح عن أحد من طلبة العلم قصد بابها، فبذلت الوقت والجهد لنشر العلم بتعليم الناس الخير، ومن أجل ذلك وفد إليها الطلاب من العراق والشام وغيرها، وهي بذلك تحسب أنها تقع تحت قول رسول الله -صلى الله عليه و آله وسلم- الذي أخرجه البخاري من طريق أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ صلى قَالَ: (مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ).
فهي قد حدَّث عنها المحب عبد الله وموسى بن أبي الفتح، وأحمد بن عبد الله بن عبد الهادي المقدسيون، والشيخ عبد الصمد المقرئ، ومحمد بن أبي بكر الجعفري، وعبد الرحيم بن الزجاج، ومحمد بن عبد المحسن الواعظ، وجماعة.
وقد أجازت -أيضًا- لمحمد الباجدي، وبنت الواسطي، وجماعة.
وتفردت عنها الشيخة زينب بنت الكمال بالإجازة؛ فروت عنها الكثير في سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، بل وفي سنة سبع وثلاثين، وفي سنة تسع وثلاثين.
الدين والصلاح
قد يؤتى أناس العلم ويحرمون العمل به؛ فالعمل ثمرة العلم، وقد يمتن الله -تبارك وتعالى- على بعض عباده فيجمعون بين الحسنيين: العلم والعمل، وكانت عالمتنا من هذا الصنف قال الذهبي: وكانت امرأة صالحة.
آثارها
روي عنها أحاديث شتى وكثير من تصانيف البغوي وغيره.
ومن مسموعها: الثاني من حديث أبي أحمد حسينك من يحيى بن ثابت البقال، و (مختلف الحديث) للشافعي من عبد الحق اليوسفي، و(تاريخ البخاري الكبير) من عبد الحق –أيضًا.. وخرجوا لها (مشيخة) في عشرة أجزاء.
وفاتها
انطفأت تلك الشعلة بقدر الله -تبارك وتعالى- في صفر سنة سبع وأربعين وستمائة، وقد تحملت ثلاثًا وتسعين سنة.
ولو طال بها المقام بضع سنين لرأت ما يشيب من هوله الولدان؛ حيث سقطت حاضرة الخلافة بحصونها ومكتباتها، وذُبِّح الجميع، ولم ينج إلا من كتب له النجاة، وذلك عندما هجم المغول على بغداد وأسقطوها سنة 656ﻫ.. فلله الأمر من قبل ومن بعد.
_______________________________
المصدر: بتصرف عن https://islamonline.net/25083
[ica_orginalurl]