مختارية بوعلي
من المسلّمات التي لا خلاف فيها أنّ قصد الشّارع الحكيم من تشريع العبادات وإلزام المكلّف بأحكامها إنّما هو لتحقيق مقصد الخضوع له سبحانه، من حيث عبادته بما شرّع امتثالا والتّسليم بحكمه انقيادا، وتلكم هي تجلّيات معنى التعبّد {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون}[1]، غير أنّ القول بقصدية الخضوع والامتثال في العبادات أصالة لا ينفي تعليلها بالمصالح والحِكم والمقاصد الشرعية -تبعًا- التي تُرجى منها في العاجل والآجل، وفي هذا الصّدد يقول الإمام الشّاطبي “المقصد الشّرعي من وضع الشّريعة إخراج المكلّف عن داعية هواه، حتّى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا”[2].
فلنتأمّل كيف أنّ الشّارع سبحانه قصد بأحكامه إلى الخروج عن اتّباع الهوى والدّخول تحت التعبّد والامتثال وهو مقصد أصلي، كما قصد إلى تحقيق مصالح للعباد عائدة عليهم ومثبتة لحظوظهم تفضّلا منه عزّ وجلّ وتلك هي المقاصد التّبعية، سواء أكان ذلك في العبادات أو المعاملات، ففي الأولى مثلا تحقيق قصد رضى الخالق، والاطمئنان الروحي والنّفسي، ومثال الثانية قضاء الحاجات وتيسير التعاملات وتنظيم الحياة حال الانفراد والاجتماع.
ومن هذا المنطلق يتقرّر أنّ المقاصد الأصلية إذا روعيت في العبادات كانت أدعى للقبول والتّحقق بإخلاص العبودية والامتثال، على عكس ما إذا روعيت المقاصد التّبعية مجرّدة عن الأصلية، كون العبادات تُؤدّى لمجرّد الحاجة وداعية الهوى بصرف النّظر عن خطاب الشّارع وقصده.
وعليه يمكن القول أنّ الجمع في إناطة العبادات وأحكامها بين مقاصدها الأصلية والتّابعة، يعتبر من كمال الفقه وتمام النّظر، على وجه يجعلها أقرب إلى القبول والانقياد والإخلاص، وهذا ما سنحاول تسليط الضوء عليه في غضون هذه السّطور، حيث انتقينا عبادة صيام رمضان، تشّوفنا من خلالها بيان مقصودها أصالة وتبعا، ليسهل على المكلّف إتيانها، متعرّضا إلى النّفحات الربانيّة فلا تفوته هملا، مُعاهدا نفسه على ألّا يخرج منها عطلا، فيكون فيها كيّسا فطنا.
بيان مقاصد صيّام رمضان
لقد تواطأت على وجوب الصيام في رمضان آيات صريحة وأحاديث صحيحة، تحمل في طيّاتها مقاصد سامقة تردّدت بين الأصالة والتّبعية، سيقت إمّا تصريحا تارة أو تلميحا تارة أخرى، وبعد التتّبع والاستقراء يمكننا جعلها على نحوين: مقاصد أصلية ومقاصد تابعة.
فالمقاصد الأصلية تلك التي ليس فيها للمكلّف حظّ عاجل مقصود كالعبادات مثلا، ولذلك أُكّد القصد على إتيانها بالإيجاب والفرض، وعلى باعثها بالإخلاص لله تعالى “أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ“[3].
ثمّ إنّ روعي هذا الصنف من المقاصد في الأعمال والعبادات تكون به لا محالة مُتوَّجة بالقبول والصّحة. إذ نُقل عن الشّاطبي رحمه الله “أنّ المقاصد الأصلية إذا روعيت كانت أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة وأبعد عن مشاركة الحظوظ التي تغبر في وجه محض العبودية”[4].
أمّا المقاصد التّابعة فنعني بها تلك التي فيها للمكلّف حظّ راجع لاختياره وميل نفسه إليه، من استمتاع بالمباحات وسدّ للحاجات وغيرها من المصالح التي لا قيّام للمنظومة الإنسانية إلّا بها، وهي في الأصل مكمّلة للمقاصد الأصلية وتابعة لها، فلا يُتصوّر الانفكاك بينهما، فالنوع الأوّل (الأصلية) اقتضاه مقام العبودية والثاني (التابعة) اقتضاه مقام اللّطف بالعباد والإحسان إليهم.
أوّلا: المقاصد الأصلية من صيّام رمضان
- القصد إلى تحقيق مقام الامتثال وإخلاص العبودية:
يقول الشّارع الحكيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[5] ويقول سبحانه {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَليَصُمْه}[6].. في الآيات أوضح دلالة على وجوب الصيّام وفرضيته على المؤمنين، وورود الأمر التّكليفي الشرعي يستلزم البدار إلى الاستجابة والمسارعة إلى الطاعة سواء عُلم المقصد وعُرفت الحكمة والعلّة أم جُهلت، وهنا يتجلّى مقصد الامتثال وتحقيق مبدأ العبودية لله والانقياد لحكمه ولأوامره إتيانًا ولنواهيه اجتنابًا، لَيَبعثُ في نفس الصّائم الإقبال على ربّه مخلصا وخاضعا له، مُرتقيا في مسالك العبودية.
ثمّ إنّ لهذا المقصد وتحقّق مقامه أسرارا تُدرك ولا تُوصف من خشوع وتذلّل وطّاعة، ما لو أدركها العبد المؤمن في صومه وفي سائر التّكاليف الشرعية لبلغ من ذلك مبلغ المخلصين المقرّبين.
- القصد إلى تحقيق مقام التّقوى:
إنّا لنجد للنّفس جموحا ومنها إحجاما لا يكبحه إلّا تقوى الله سبحانه، وهو المقصد والمقام الذي سيق في معرض التّصريح من لدنه عزّ وجلّ {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[7]، فعبادة الصّيام كغيرها من الشعائر التي تقصد إلى تحقيق مسمّى التّقوى، وغرسه في نفس الصّائم من خلال استحضار رقابة الله تعالى حال السرّ والعلن واستشعار وجوده.
فيأتي شهر الصّيام ليميز النّفوس ويسبر أغوارها فيخرج بها عن مألوفاتها إلى مراد ربّها، ويرفعها عن سفاسف الأمور ليرتقي بها إلى أعلى درجات التّقوى، وفي هذا يقول ابن القيّم رحمه الله “وهو سرّ بين العبد وربّه”[8] يقصد مقام التّقوى.
ثانيا: المقاصد التّبعية من صيام رمضان
- إقامة قصد المكلّف الصّائم:
إنّ القصد إلى عبادة الصيّام والعزم على أدائها لا بدّ له من نيّة، ومنه جاء التكليف بتوجيه العبد نيّته إلى الإخلاص وقصد الله سبحانه دون ما سواه، كي تنبعث نفسه وتباشر الطّاعة صادقة مخلصة، وإذا كانت التّصرفات الاختيارية والعادات لابدّ في تحقّقها من قصد إليها، فإنّ العبادات وفي مقدّمتها الصّيام يعتبر القصد إلى فعلها أمرا ضروريا في النّفس، فالعبادة بلا روح لا يعتّد بها، والدّليل على ذلك عدم اعتبار الشارع لكثير من التّصرفات الواقعة من غير قصد كتلك الصادرة عن النّاسي والغافل والمُكره وغيرهم.
فإقامة قصد المكلّف الصّائم سرّ وروح لصومه، كإمساكه عن المفطرات مثلا متردّد بين غرضين، أحدهما إمساكه عنها عادة، وثانيهما إمساكه قُربَة لربّ العباد وامتثالا لأمره، فوجب عليه إقامة القصد ليصرفه عن أغراض العادات إلى الامتثال للمعبود. على اعتبار أنّ العبادات إجمالا من حيث هي أفعال صادرة من المكلّفين لا تُجزئ عنهم ما لم يؤدّوها بقصد نابع من ذوات أنفسهم.
- القصد إلى فعل الممكن المستطاع:
ونعني به القصد إلى تحصيل ما يستطاع من العبادات والقربات في الشهر الفضيل، إذ لا تكليف بما لا يُطاق، وإنّما فأتوا منه ما استطعتم ذكرا وعبادة وخشوعا وتلاوة للقرآن وقيام ليلٍ، وإنفاقا في سبيل الله وإعانة لمحتاج أو الفقير وتَوسِعة على محروم، وإحياء سنّة وتبليغ دعوة…وغيرها من الأعمال التي تُثقل الميزان وترضي الرّحمن.
- القصد إلى حفظ الدّين:
صوم رمضان ركن من أركان الدّين الإسلامي، وحفظ هذا الرّكن وإقامته هو تحقيق لمقصد حفظ الدّين، حيث يبقي المؤمن في رحاب ذكر الله وطاعته بعيدا عن معصيته وغضبه، وهذا ما يُكسبه اعتيادا على الانتظام وتقدير الأوقات عند الإمساك والفطر حرصا على صحّة صومه وقبوله.
ولعلّ أهمّ وسائل تحقيق هذا المقصد ما يلي:
– سدّ مداخل الشيطان وثغرات المعاصي.
– تلاوة القرآن حق تلاوته ومدارسته والوقوف على معانيه فهما وتدّبرا وإعمالا.
– الحرص على صوم الجوارح بكفُّ السّمع والبصر واللّسان واليد والرجل عن المنكرات والآثام.
– المسارعة في الخيرات وبذل القربات على الوجه المستطاع قصد إقامة هذا الرّكن وحفظ الدّين به.
– تجديد التّوبة من المعاصي والخطايا والإقبال على الله فرمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما.
إقامة قصد المكلّف الصّائم سرّ وروح لصومه، كإمساكه عن المفطرات مثلا متردّد بين غرضين، أحدهما إمساكه عنها عادة، وثانيهما إمساكه قُربَة لربّ العباد
- القصد إلى حفظ النّفس:
القصد إلى حفظ النّفس تتجاذبه ثلاث مقوّمات: البدن، الفكر والقلب، ولا يتحقّق مقصد حفظ النّفس إلّا بحفظ هاته المقوّمات حفظا تاما، وعبادة الصّوم أهمّ ما يحفظ هذا القصد من خلال:
أ- حفظ البدن: من حيث صحتّه وسلامته من الأمراض وحفظ جوارحه وأعضائه، وهذا ما يحقّقه الصوم، فمن الدّلائل “زكاة الجسد الصّوم”[9] ومن العوائد قول أشراف العرب “الحميّة دواء لكلّ داء” فإن كان صوم الحميّة دواء للجسم، فباعتباره شرعيا يكون أبلغ أثرا.
ب- حفظ القلب: حيث يسهم الصّوم في تربية القلب وتليينه وإكسابه رقّة وصفاء وتجنيبه القسوة، حتّى قيل شبع القلب يورّث قساوة، وبمفهوم مخالف الصوم يورّث القلب رقّة.
ج- حفظ الفكر: من حيث إشراقته وذكائه ونشاطه وقد أُثر قديما قولهم “البطنة تُذهب الفطنة” وخلاف ذلك الجوعة أو قلّة الأكل تجلب الفطنة، والصّوم أولى في حفظ القلب وجلب فطنته وإحياء ذكائه ويقظته[10].
- القصد إلى حفظ العقل: العقل نعمة ميّز الخالق بها بني البشر وجعله مناط تكليفهم، وشرّع ما يحفظ هذه النّعمة ودعا إلى حفظها، ويتحقّق القصد بالحفظ في الصّوم من جهتين:
أ – جانب الوجود: ويكون البدء بتعلّم أحكام الصّيام ومُدارستها، ثمّ بالإقبال على الطّاعة وتلاوة القرآن وفقه معانيه والحرص على ختمه، وبالتّفكر والتدبّر في آيات الله، والإقبال على أماكن العبادة التي تذّكر بالخالق.
ب – جانب العدم: بعده عن تعاطي المحرّمات والمسكرات كالمخدرات والخمر التي تورث الإسكار وذهاب العقل وإتلاف خلاياه، وأيضا هجر ما يشغل الصّائم عن ذكر ربّه كأماكن اللّهو والحانات وغيرها، وعدم التّعلق بالماديات ففيها مشغلة للعقل وملهاة له. والحرص على اجتناب البطنة المورثة للخمول وذهاب الفطنة والذّكاء والتفّكر.
- – القصد إلى حفظ النّسل والعرض:
أ – ويكون بحفظ الأسرة من خلال تعليم أفرادها تعاليم الصّيام وأحكامه، وتربية الأبناء على العبادة والصلاة وقيام اللّيل والإكثار من الذّكر وقراءة القرآن، والحرص على اغتنام الأوقات وعدم ضياعها، وصلة الأرحام، وغيرها من التصرّفات التي تؤدي لهذا القصد.
ب – كما يكون على مستوى الفرد بتقييد الشهوات والغرائز والابتعاد عن الزّنا والخنا والفواحش، فالصّائم ممسك عنها في الحلال فكيف بالحرام فهو من باب أولى “فعليه بالصّوم فإنّه له وِجاء”[11]
ج – كفّ اللّسان عن الكلام الفاحش والسبّ والشتم “فإن سابه فليقل إنّي امرؤ صائم”[12]، والإمساك عن هتك الأعراض وقذف المحصنات وإهانة ذوي المروءات فالصّوم جنّة.
- القصد إلى حفظ المال:
يتحقّق حفظ المال باستحضار نعمته وشكر المنعم عليها “لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَّنّكُم“[13] والإنفاق منها صدقات في سبيل الله على المحتاجين والمعوزين فما نقص مال من صدقة، وفيه يتربّى الصّائم على ترشيد نفقاته والإسراف باقتصاد فلا إسراف ولا تقتير. كما ارتبط الصيّام بصدقة الفطر “طُهرة للصّائم من اللّغو والرّفت”[14] كونها حصن للمال وبركة فيه.
وفي الختام فقد كانت هذه بعض من مقاصد الصّوم وإلّا فإنّ مقاصده وحكمه لا تعدّ ولا تُحصى، فهذا الشهر مدرسة ربّانية للتزكيّة والتربية والتّرقية، فاللّه نسأل أن يبلّغنا إيّاه ويكسبنا فيه قبوله ورضاه.
—–
- بتصرف من موقع “إسلام أون لاين”.
——–
[1] الذاريات 56.
[2] الموافقات في أصول الشريعة، تع عبد الله دراز، المكتبة التوفيقية، القاهرة، ط2، 2012م، ج2، ص390.
[3] الزمر 3.
[4] الموافقات في أصول الشريعة، الشّاطبي، ج2، ص41.
[5] البقرة 183.
[6] البقرة 185.
[7] البقرة 183.
[8] زاد المعاد، ابن قيّم الجوزية، مؤسسة الرّسالة، بيروت، ط27، 1994م، ج2، ص27.
[9] أخرجه ابن ماجه، باب في الصوم زكاة الجسد، 1/531.
[10] أثر الصّوم في حفظ النّفس، محمّد الروكي، مجلّة دعوة الحقّ، العدد 340 فبراير 1999م.
[11] أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة، 1/456.
[12] أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب هل يقول إنّي صائم إذا شُتم، 3/26.
[13] إبراهيم 7.
[14] أخرجه ابن ماجه، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر، 1/585.
[opic_orginalurl]