إعداد: أ.د/ محمد زرمان
إن الصورة النمطية التي تحملها الذهنية الغربية عن النبي صلى الله عليه وسلم قد أورثت تبعات كثيرة، أهمها وأخطرها على الإطلاق أن شعوب أوروبا ابتداء بقادتها وساستها، مرورا بكهنتها ورجال الدين فيها، وانتهاء بمفكريها وإعلامييها حتى أبسط رجل فيها يصدرون جميعا في مواقفهم وردود أفعالهم تجاه العالم الإسلامي عن هذه الصورة النمطية، ويحتكمون إليها في بناء علاقاتهم معه، فهل يستطيع المسلمون من خلال تفاعلهم مع العالم الغربي في عصر العولمة أن يحرروا الذهنية الغربية من أثقال الفكر الكنسي القادم من العصور الوسطى، وأن يخترقوا هذه الصورة النمطية، ويبرهنوا على زيفها وبطلانها، ويقدموا البديل المشرق لها، حتى يتمكن الطرفان من بناء علاقات مبنية على الحقائق الموضوعة، والفكر النظيف المتحرر.
وعلى هذه الأسئلة وغيرها يجيب هذا البحث، حيث يهدف إلى تتبع التطور التاريخي لتشكيل صورة النبي صلى الله عليه وسلم، وتحديد طبيعة هذه الصورة، ثم بيان تجلياتها ومظاهرها المختلفة، ومحاولة البحث في العوامل الكامنة وراء تشكلها، ودراسة الآثار المترتبة عنها سواء على مستوى الفكر أو الممارسة، ثم يحاول الباحث في نهاية بحثه اقتراح رؤية تسهم في تحسين هذه الصورة الذهنية الغربية باستغلال ما أتاحته العولمة للبشر من رسائل متطورة من المعلومات والاتصالات.
وجاء هذا البحث في مقدمة، وخمسة نقاط رئيسة، ثم خاتمة جمع فيها الباحث نتائج بحثه.
أولا: التطور التاريخي لتشكيل صورة النبي صلى الله عليه وسلم في الفكر الأوروبي:
تحت هذا العنوان عرض الباحث لعملية التطور التاريخي لصورة النبي صلى الله عليه وسلم في الفكر الأوروبي، منذ بداية الدعوة الإسلامية وحتى اليوم، ومن أهم النقاط التي أشار إليها الباحث هنا أن يوحنا الدمشقي كان من أوائل الذين أسسوا للصورة المشوهة التي رسمتها أوروبا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بما بث في كتاباته من أوصاف وإيحاءات تصور الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه شخص مضلل مبتدع، استقى عقيدته من فرقة نصرانية ضالة ومنشقة، وصار قائدا لعصابة من المفسدين.
ومن هذا الأفَّاق وأمثاله استقت أوروبا الصورة المشوهة، حيث تولت الكنيسة ومن بعدها الكتاب والمفكرون، ثم الخيال الشعبي، وأخيرا المستشرقون، تولى الجميع إلصاق النقائص والمثالب بشخص النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: صورة النبي صلى الله عليه وسلم في الفكر الأوروبي، تجلياتها ومظاهرها:
بين الباحث أن الشكل الذي اتخذته صورة النبي صلى الله عليه وسلم في المخيلة الأوربية نابع في أصله من نظرة أوروبا إلى الإسلام، ذلك أن الأوروبيين منذ اللحظة الأولى التي تعرفوا فيها إلى هذا الدين أنكروا- جملة وتفصيلا- مصدره الإلهي، ونفوا نفيا قاطعا أن يكون هناك وحي نزل من السماء بعد المسيح عليه السلام.
لذلك كذبوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم واتهموه بالكذب، وقد مثل هذا المفهوم المحور الأساس الذي بنيت عليه جميع المفاهيم التي شكلت في مجملها صورة النبي صلى الله عليه وسلم في أوروبا، وقد عرض الباحث لهذه الصورة من خلال كتابات عدد من المفكرين الغربيين، ثم ختم حديثه بنقولات منصفة لبعض كتاب الغرب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: العوامل الكامنة وراء تشكيل صورة النبي صلى الله عليه وسلم في الفكر الأوروبي:
في هذه الجزئية عرض الباحث لأهم الأسباب التي دعت أوروبا إلى مناصبة النبي صلى الله عليه وسلم العداء، ويتلخص ذلك في الآتي:
1- خوف الكنيسة على سلطانها:
أثار ظهور الإسلام واكتساحه للعالم واقترابه من أوروبا الخوف عند الكنيسة، وزرع الرعب في أوساطها، واستنفر فيها عوامل الدفاع عن الذات ضد الخطر القادم من المجهول لتفادي المصير المشؤوم الذي لقيته الكنائس الشرقية التي طواها المد الإسلامي.
2- قدرة الإسلام على التمدد والانتشار:
كان لعاملي التوسع والتأقلم الذي امتاز بهما الإسلام كبير الأثر في الخوف من الإسلام، ومحاربته بكافة السبل، من تشويهه عند الآخرين إلى إعلان الحرب عليه وعلى نبييه.
3- الجهل المطبق للأوروبيين بحقيقة النبي عليه الصلاة والسلام:
ساهم جهل الشعوب الأوربية بحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم في تشكيل صورة مشوهة عن الإسلام ونبي الإسلام، فهذه الشعوب لم تتمكن على مر القرون من الاقتراب من الحقيقة الإسلامية، ولم تتح لها فرصة حقيقة لمعرفة نبي الإسلام في صورته الرائعة التي أذهلت العالم.
رابعا: آثار الصورة النمطية المشوهة، وانعكاساتها على مستوى الفكر والممارسة.
عرض الباحث لأثرين من الآثار الناتجة عن حالة الشحن الأوروبي ضد الإسلام ونبي الإسلام، وهما:
1- الحروب الصليبية:
بين الباحث أن الحروب الصليبية شكلت بحق التجسيد القوي والواقعي للكراهية البالغة التي أصبحت أوروبا تحملها للرسول صلى الله عليه وسلم ودينه.
2- الكتابات ووسائل الإعلام:
بين الكاتب أن تداعيات وآثار التشويه المتعمد لصورة النبي صلى الله عليه وسلم ودينه برزت بشكل قوي لدى النخبة الأوربية المثقفة التي لم تستطع -أو لم ترد- أن تتخلص من الموروث الثقيل الذي انتقل إليها عبر العصور من الكتاب والروائيين والشعراء.
خامسا: نحو إستراتيجية شاملة لتحسين صورة النبي:
ختم الباحث بحثه بحديثه عن جملة من الحلول والإجراءات المقترحة لتصحيح صورة النبي صلى الله عليه وسلم في الواقع الغربي، ويمكننا تلخيص ذلك في الآتي:
– الاستفادة القصوى من البث الفضائي المباشر بإطلاق قناة أو عدة قنوات فضائية تتبنى مشروع نصرة النبي صلى الله عليه وسلم.
– استغلال مجالات الاتصالات غير المحدودة الذي تتيحه لنا الشبكة العنكبوتية لإطلاق عشرات بل مئات المواقع بمختلف اللغات الأوربية.
– فتح فروع في مجال الدراسات العليا المتخصصة في الجامعات في مختلف بلدان العالم الإسلامي لدراسة الخلاف الحضاري الأوروبي الإسلامي بطريقة علمية أكاديمية.
– تعبئة الجاليات والمؤسسات الإسلامية في أوروبا لتقوم بواجبها لإنجاح مشروع نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
– إصدار المجلات المتخصصة في عرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
– إرسال الوفود (من العلماء والدعاة) إلى مختلف البلدان الأوربية للتعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الخاتمة: أشار الباحث في خاتمة بحثه إلى الآتي:
– أن الصورة النمطية التي نسجتها أوروبا عن الإسلام وعن الرسول صلى الله عليه وسلم -بعدما فاجأها المد الإسلامي في عقر دارها- قد غلب عليها الإجحاف، وطغت عليها السلبية المفرطة.
– أن المعضلة التي يعاني منها الفكر الأوروبي في تعامله مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل أقطار الأرض منشؤها ديني ثقافي.
– أن التمادي في الإساءة إلى الإسلام ونبيه سيأخذ أبعادا أخطر، وبخاصة في عصر السماوات المفتوحة، وفي خضم ثورة الاتصالات والمعلومات التي ما زالت تهز العالم في كل آن.
– أن المعركة مع المسيئين للنبي صلى الله عليه وسلم معركة ثقافية طويلة الأمد وتحد شاق، فليس من السهل أن يغير الإنسان عقليات شعوب درجت على جملة من الاعتقادات حتى أضحت من البديهيات.
ـــــــــــ
(*) من أبحاث المؤتمر الدولي “نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم”، المنعقد في الفترة 23-25 شوال 1431هـ، الموافق 2-4 أكتوبر 2010م، برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز-حفظه الله-، والذي نظمته الجمعية العلمية السعودية للسنة وعلومها (سنن).
[ica_orginalurl]