قيام الليل هو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين، وعمل الفائزين، ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم، ويتوجهون إلى خالقهم وبارئهم، فيشكون إليه أحوالهم، ويسألونه من فضله، فنفوسهم قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القربات، وترغب وتتضرع إلى عظيم العطايا والهبات…
(مقتطف من المقال)
إعداد/ فريق التحرير
فرضت الشريعة الإسلامية على المسلم خمس صلوات فقط في اليوم و الليلة.. غير أن هناك عدد آخر من الصلوات له أحكام خاصة أخرى سنتعرف عليها من خلال هذه السلسلة…
معنى قيام الليل
القيام في اصطلاح الفقهاء هو قضاء الليل ولو ساعة بالصّلاة أو غيرها، ولا يشترط أن يكون مستغرقاً لأكثر الليل. ويرى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّه يحصل بصلاة العشاء جماعةً والعزم على صلاة الصّبح جماعة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من صلّى العشاء في جماعة فكأنّما قام نصف اللّيل، ومن صلّى الصّبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله). وقيل: معنى القيام أن يكون مشتغلا معظم الليل بطاعة، وقيل: ساعة منه، يقرأ القرآن، أو يسمع الحديث، أو يُسبّح، أو يُصلّي على النّبي – عليه الصّلاة والسّلام-.
وقيام الليل هو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين، وعمل الفائزين، ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم، ويتوجهون إلى خالقهم وبارئهم، فيشكون إليه أحوالهم، ويسألونه من فضله، فنفوسهم قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القربات، وترغب وتتضرع إلى عظيم العطايا والهبات.
وقيام الليل له شأن عظيم في تثبيت الإيمان، والإعانة على جليل الأعمال، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمْ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا. نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا. إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا” (المزمل:1-6).
ومدح الله تعالى أهل الإيمان والتقوى بجميل الخصال وجليل الأعمال، ومن أخص ذلك قيام الليل.. قال تعالى: “إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (السجدة:15-17).
ووصفهم في موضع آخر بقوله: “وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامً…” إلى قوله تعالى: “… أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا. خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا” (الفرقان:64-75).
وفي ذلك من التنبيه على فضل قيام الليل، وكريم عائدته ما لا يخفى، وأنه من أسباب صرف عذاب جهنم، والفوز بالجنة، وما فيها من النعيم المقيم، وجوار الرب الكريم، جعلنا الله ممن فاز بذلك.
حكم قيام الليل وعدد ركعاته
قيام الليل نافلة مؤكدة ندب إليها القرآن ومدح أصحابها، وحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وأقلها ركعة الوتر على الصحيح من أقوال أهل العلم، لما ورد في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة) وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر حق، فمن شاء أوتر بسبع، ومن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أوتر بواحدة).
وأما أكثر ركعاتها: فالسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يزد على إحدى عشرة ركعة، كما في الصحيح عن عائشة، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعد الوتر ركعتين، فالأولى المحافظة على هذا العدد، فمن أراد الزيادة فلا بأس، ويدل على ذلك دليلان:
الأول: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى) ولم يحصرها بعدد.
الثاني: عمل الصحابة، فقد صلى الصحابة عشرين ركعة خلف أبي بن كعب في خلافة عمر رضي الله عنهم جميعاً، روي ذلك في الموطأ وغيره.
وقت قيام الليل
أما عن أفضل الأوقات لصلاة الليل فهو الثلث الأخير من الليل ليوافق النزول الإلهي، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟) رواه البخاري ومسلم.
ذلك هو أفضل الأوقات لمن علم من نفسه أنه سيقوم من آخر الليل، وأما من خاف أن لا يستيقظ فالأفضل أن يصلي ويوتر قبل أن ينام، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الترمذي وغيرها.
فضل قيام الليل
*القيامُ ينهى صاحبَه عن الذُّنوب والمعاصي وفعل المنكرات، ودليلُ ذلك قوله تعالى: “إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ” (العنكبوت: 45).
والصلاةُ مطلقًا تنهى عن الفحشاء؛ ولكنَّ قيامَ اللَّيْل له ميزة في نهي صاحبه؛ لأنَّه حين يقومُ يناجي ربَّه تُعرضُ له أعمالُه فيخاف أن لا يقبل منه بسببها فيترك ما يعملُ من المعاصي .
* أنَّه يطرد الداءَ من الجسد، وأولُ داء يطرده داءُ العجز والكسل؛ قال صلى الله عليه وسلم : (عليكم بقيام الليل؛ فإنَّه دأبُ الصالحين قبلكم؛ فإنَّ قيامَ الليل قُرْبَةٌ إلى الله -عز وجل- وتكفيرٌ للذُّنوب ومَطْرَدَةٌ للدَّاء عن الجسد ومنهاة عن الإثم) (أخرجه التِّرمذيُّ والبيهقيُّ، وقال العراقيُّ: إسنادُه حسنٌ، وحسَّنه الألبانيُّ).
*في قيام اللَّيل يَحْصُلُ العبدُ على كلِّ خير لدنياه؛ فإنَّ في الليل ساعةً لا يوافقها عبدٌ يسأل الله تعالى خيرًا من أمر دنياه وآخرته إلَّا أعطاه إيَّاه؛ فعن جابر – رضي الله عنه – أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ من اللَّيل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرًا إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة) (أخرجه مسلم)، فلو سألتَ الله في ساعة الاستجابة التوفيقَ في أمورك كلِّها، وقمت بين يدي ربِّك قبل أن تُقْدم على عملك سائلاً إيَّاه أن لا يضيع تعبك، وأن يوفِّقَك لما يرضيك، لما ندمتَ أبدًا؛ حينئذ تطمئنُّ إلى أنَّ مالكَ الدُّنيا المعطي الباسط وليُّك وكافيك وحسبُك؛ فكيف تحزنُ أو كيف تقلق وإيَّاه دعوتَ وعليه توكلتَ؟! فهو مُجري السَّحاب ومذلِّل الصِّعاب ومدبِّر الكون ومقسِّم الأرزاق.
* قيامُ الليل يورثُ صاحبه لذَّةً في القلب، وقد حكى ذلك كثيرٌ من السَّلَف: قال ابنُ المنكدر: ما بقي من لذَّات الدُّنيا إلا ثلاثٌ: قيامُ الليل، ولقاءُ الإخوان، والصلاةُ في جماعة، وقال أبو سليمان – رحمه اللهُ: أهلُ الدُّنيا في ليلهم ألذُّ من أهل اللَّهو في لهوهم، ولولا الليلُ ما أحببتُ البقاءَ في الدُّنيا.
وقال آخرُ: لو يعلمُ الملوكُ ما نحن فيه من النَّعيم لجالدونا عليه بالسيوف، وقال آخر: إن لي وردًا بالليل لو تركته لخارت قواي، قال الفضيل بن عياض: إذا غربت الشمسُ فرحتُ بالظلام لخلوتي بربي، وإذا طلعت حزنتُ لدخول الناس علي.
* صاحب قيام الليل يصبح طيبَ النفس نشيطًا يُعان على عمله سائر يومه؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (يعقد الشيطانُ على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلَّى انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيبَ النَّفْس، وإلَّا أصبح خبيثَ النفس كسلان) (متفق عليه).
* صلاحُ الأبناء من نتائج قيام الآباء في الليالي الباردة، فإذا قام العبدُ يصلي يسأل الله أن يصلح له في ذريته ويحفظهم حتى بعد مماته؛ قال تعالى: “وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا” (الكهف:82).
نعم.. رحمهما اللهُ برحمة أبيهما الذي كان يسألُ اللهَ لهما طوالَ حياته الحفظَ والصلاحَ.
*أصحابُ القيام والتَّهَجُّد على الرّغم من أنَّهم أقلُّ نومًا من غيرهم، إلا أنَّهم يكتسبون نورًا في وجوههم سائر يومهم وعند موتهم، وقد حكى كثيرٌ من السَّلَف أنَّهم يجدون النورَ في وَجْه صاحب القيام في حياته وعندَ مماته؛ قيل للحسن -رحمه اللهُ-: ما بالُ المتهجِّدين من أحسنِ الناس وجوهًا؟ قال : لأنَّهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره.
* سعةُ الرزق سمةُ أصحاب القيام؛ يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون؛ ذلك لأنهم صبروا على قيام الليل واحتسبوه واتقوا الله، وقد وعد الله من اتَّقاه واحتسب عنده الأجر أن يرزقه من حيث لا يحتسب ولا يشعر، ويجعل له مخرجًا من الضيق الذي يُلمُّ به؛ قال تعالى: “وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا” (الطلاق: 2-3).
*القيامُ بالليل بالقرآن معينٌ على تثبيت القرآن في الصدر؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- ، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : (وإذا قام صاحبُ القرآن فقرأه باللَّيل والنهار ذكَره، وإذا لم يقُم به نسيه) (رواه مسلم)، ويقول الله – تعالى: “إِنَّ نَاشِئَةَ الليْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا” (المزمل:6)، بعد قوله : “إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا” (المزمل:5).
* أصحابُ القيام مجابو الدعوة؛ إذا استنصروا الله نصرهم، وإذا استعاذوه أعاذهم؛ لأنهم تقرَّبوا إلى الله بالفرائض والنوافل، وأحبُّ النوافل إلى الله قيامُ الليل، وقد وعَدَ من تقرَّب إليه بالنَّصر والعَوْذ .
وعن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبرُ ولا حولَ ولا قوة إلا بالله، ثم قال : اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب له، فإن توضَّأ وصلى قبلت صلاته)(رواه البخاريُّ).
وهذا ليس كلَّ ما يناله أصحابُ قيام الليل من خير الدنيا؛ بل جزء منه، وما عند الله خير؛ ولكن ذكره ليستحضره المؤمنُ حين يغالبه الشيطان ويكسِّله ويأمره بالنوم والتفريط في القيام؛ فإنَّ استحضارَه آنذاك منفعةٌ عظيمةٌ مجديةٌ لمن كان له قلبٌ أو ألقى السَّمعَ وهو شهيد.
الأسباب الميسِّرة لقيام الليل
ذكر أبو حامد الغزالي أسباباً ظاهرة وأخرى باطنة ميسرة لقيام الليل:
فأما الأسباب الظاهرة فأربعة أمور:
الأول: ألا يكثر الأكل والشرب، فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام.
الثاني: ألا يتعب نفسه بالنهار بما لا فائدة فيه.
الثالث: ألا يترك القيلولة بالنهار فإنها تعين على القيام.
الرابع: ألا يرتكب الأوزار بالنهار فيحرم القيام بالليل.
وأما الأسباب الباطنة فأربعة أمور:
الأول: سلامة القلب عن الحقد على المسلمين، وعن البدع وعن فضول الدنيا.
الثاني: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل.
الثالث: أن يعرف فضل قيام الليل.
الرابع: وهو أشرف البواعث: الحب لله، وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناج ربه.
فاللهم أعنا على قيام ليلك وطاعة نهارك.. وارزقنا لذة العبادة وحب التقرب إليك…
______________________________________
المراجع:
- مركز الفتوى
- الإسلام سؤال وجواب
- الكلم الطيب
https://kalemtayeb.com/safahat/item/41880
- صيد الفوائد
https://saaid.net/rasael/67.htm
- موضوع
[opic_orginalurl]