الاستشارة:
أنا متزوجة من ابن عمي والحمد لله هو رجل طيب، ولكن له إخوة يحبون أنفسهم كثيراً ويحبون أن يختلقوا المشاكل مع زوجي، ولكن زوجي يقابلهم بالمودة والمحبة، ولا يقاطعهم، ولكن حدثت مشكلة صغيرة بينه وبين أخته فقاطعته إلى الآن، ولم تكلمه، وحدثت بيني وبين زوجة أخيه مشاكل، وهي تتقول عليّ أشياء لم أفعلها، وأخته تصدقها وتكذبنا أنا وزوجي ومن حضر هذا الموقف.
وأنا الآن مسافرة خارج بلدي، وقررت عندما أنزل لا أكلمها ولا أسلم عليها، فما رأيكم في ذلك؟ وإذا قلتم أسامحها فدلوني على دعاء يجعل قلبي خاليا من أي شيء.
الإجابة
المستشار: د. رمضان فوزي بديني
أختي السائلة، أهلا وسهلا بك، ونسألك ألا تنسينا من صالح دعائك وأنت في الأماكن المقدسة.
بادئ ذي بدء أختي الكريمة نشير إلى أن الإسلام يقوم على دعامتين أساسيتين لا تغني إحداهما عن الأخرى؛ وهما: علاقة المسلم بربه، وعلاقته بالمجتمع من حوله، ويطلق على الأولى: الإيمان بالله، والثانية: الأخلاق والسلوك.
والدعامتان لا تنفصلان والعلاقة بينهما علاقة اطراد؛ فالإيمان بالله تعالى دافع للمسلم لتوطيد علاقته بالمجتمع؛ فالصلاة مثلا تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصيام تدريب للنفس على التحلي بأخلاق الإسلام الفاضلة، والزكاة تنمي روح الأخوة والترابط بين أفراد المجتمع، والحج من آدابه أن يخلو من الرفث والفسوق والجدال. والرسول الكريم وضع حقوقا عامة للمسلم على أخيه المسلم، وهكذا يحرص الإسلام على تقوية روح الأخوة وأواصر المحبة بين أفراد المجتمع جميعا ليكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
إذا كان الإسلام يوصينا بهذا مع الأخوة العامة التي تشمل كافة المسلمين؛ فإنه يؤكد على هذه العلاقة أكثر وأكثر إذا تعلق الأمر بأولي القربى؛ فهاهو القرآن يحذر من قطيعة الرحم فيقول: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}.
ولقد شدد الإسلام في الترغيب في صلة الأرحام ترغيبا دينيا ودنيويا؛ فالرسول- صلى الله عليه وسلم- جعل من دلائل الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر صلة الرحم، وأخبرنا أن صلة الرحم سبب لصلة الله تعالى وإكرامه للعبد؛ فقال- صلى الله عليه وسلم- :” الرحم متعلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله” (رواه مسلم). وجعل صلة الرحم سببا في البركة في الرزق والعمر؛ فقال- صلى الله عليه وسلم- : “من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه” رواه البخاري.
أحببت أختي أن أبدأ معك بهذه الجولة السريعة على موقف الإسلام من تحقيق روح الأخوة والترابط بين المسلمين؛ حتى تطمئني وتثقي في أن طريق التسامح والمودة الذي تسيرين عليه أنت وزوجك تجاه أهله هو الطريق الصحيح الذي يتماشى وروح الإسلام في بناء مجتمع قوي البنيان متماسك الأركان.
“والكاظمين الغيظ”
ولكن أعرف أنه سيتبادر إلى ذهنك استفسار الآن؛ وهو: وماذا لو أن هؤلاء الأقارب قابلوا هذا الإحسان بالإساءة، وهذا الوصل بالقطع والهجران، وهذه المودة بالنفور والمعاملة السيئة؟
وأرد على تساؤلك هذا قائلا: هدئي من روعك؛ فالذي أمرك بصلة الأرحام هو العليم بذات الصدور المطلع على طبائع النفوس وخفايا الضمائر، والذي يعلم ما تعانيه النفس من مجاهدة وضيق من إساءة مَن تحسن إليه؛ ولذلك جعل من صفات المتقين الذين أعد لهم جنات عرضها السماوات والأرض كظم الغيظ والعفو عن الناس فقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدِّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. وقال –صلى الله عليه وسلم-: “أفضل الفضائل: أن تصل من قطعك، وتعطي من منعك، وتصفح عمن شتمك” (رواه أحمد في مسنده).
وإذا تذكرنا ما أعده الله للذين يصلون الرحم من ثواب دنيوي وأخروي عظيم؛ فنجد أن مقابل هذا الأجر عملا عظيما ومجاهدة كبيرة للنفس قام بها المسلم الواصل لرحمه فاستحق به هذا الأجر.
وبشيء من الوضوح نقول: معنى الوصل أن هناك شيئا ما قد انقطع، وقام الشخص بإصلاح هذا القطع بوصله. إذن فالعلاقات العادية بين ذوي القربى لا تعد “صلة رحم”، ولكن صلة الرحم تعني أن هناك شيئا ما قد قطع هذه العلاقة وقام الإنسان بوصلها، وهذا ما عبر عنه الحديث النبوي الشريف الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها”.
وما تعانين منه أنت وزوجك مع أهله (الذين هم أهلك في الوقت نفسه) شكا منه أحد الصحابة للرسول- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسـول الله إن لي قرابة أصلهـم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليّ، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت كما قلت فكأنما تُسِفهّم المَلّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك”.
فهذا الرجل الذي يعاني من إساءة أهله له رغم إحسانه هو لهم بشره الرسول بأن معه من الله معينا وظهيرا عليهم ودافعا لأذاهم، وكفى به شرفا وفخرا له أن يكون له ذلك. وفي المقابل أخبره بحالهم هم بأنه كأنما يسفهم المل (أي الرماد الحار)، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يشعر به الذي يسف الرماد الحار.
أرأيت أختاه الفرق بين المعاملتين، أظن أنك الآن قد هدأت نفسك واطمأن قلبك إلى أن الله تعالى لن يضيع أجركما ولن يخذلكما، وأنه سيكون معينا لكما إن كان الأمر كما تقولين.
نصائح عملية
وحتى تؤتي جهودكما ثمارها، وتحاولا التقريب بين أفراد الأسرة الكبيرة التي تعيشان فيها؛ حتى تسود أفرادها روح المحبة والترابط، أنصحك ببعض الأمور التي أسأل الله أن تكون سببا في إصلاح ما بينكما :
ضعي دائما نصب عينيك ثواب صلة الرحم الدنيوي والأخروي؛ حتى إذا حاول الشيطان التسلل لنفسك ليكرهك في أهل زوجك وجدت حائط صد له متمثلا في طلبك هذا الثواب من الله؛ فبذلك تستمرين على ما أنت عليه وزوجك. فالأصل أنكما تراعيان الله عز وجل في كل تعاملاتكما.
قدمي حسن الظن دائما، والتمسي الأعذار فيما يبلغك عن الآخرين، ولا تعطي للشيطان فرصة لتغيير قلبك تجاه أحد، واعلمي أن حسن الظن من الإيمان، فإذا بلغك عن أحد قول سوء فيك فحاولي إيجاد مخرج حسن له؛ فذلك أدعى لصفاء القلوب وسلامة الصدور. فلا داعي مثلا لوصفك أهل زوجك بأنهم “يحبون أنفسهم كثيرا، ويحبون أن يختلقوا المشاكل مع زوجي”.
حاولي التثبت من الأخبار التي تسمعينها، ولا تصدقي كل ما تسمعين، ولا تنقلي كل ما يصلك من كلام، وليكن ما يخرج عنك من كلام أقل مما يصلك منه؛ فالله عز وجل خلق لك أذنين اثنين، ولكنه خلق لك لسانا واحدا.
ضعي في اعتبارك وأنت تتعاملين مع الآخرين أنه لا يوجد مخلوق مبرأ من العيوب؛ فقديما قيل: “من طلب صديقا بلا عيب بقي بلا أصدقاء”، واعلمي أنك كما ترين عيوبا في الآخرين؛ فإن فيك عيوبا يراها الآخرون، ولا ترينها أنت.
كوني رسول خير بين زوجك وأهله؛ وذلك بألا تنقلي عنهم إليه إلا الأمور التي يحبها، ولا تنقلي إليهم عنه إلا ما يحبونه منهم، وابتغي في ذلك الأجر والثواب من الله.
حينما تعودين من السفر عليك بأن تبادري بالسلام على كل الأهل، وخاصة من توترت علاقتك معهم، ولتوجدي رسولا إلى قلوبهم من كلمة طيبة أو هدية تحضرينها معك من السفر، أو اتصال للاطمئنان عليهم وأنت في الخارج… وثقي أنك بذلك تبرين زوجك وتفتحين قلبه لك.
لا تبدئي أنت بالخصام والمقاطعة، ولكن أرسلي رسل السلام والمحبة مرارا وتكرارا؛ حتى يلينوا ويفتحوا لك قلوبهم، ومع المحاولات المتكررة ستفتح إن شاء الله، وضعي أمامك قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: “لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام” (رواه البخاري)، ويقول أيضا: “لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث” (رواه البخاري).
اعلمي أن سلامة الصدر هي أقصر الطرق إلى الجنة وأقلها تكلفة، وكرري مع نفسك قول الله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
وإليك قول العلامة ابن قيم الجوزية أثناء حديثه عن سلامة الصدر وبرد القلب: “وهذا مشهد شريف جدا لمن عرفه وذاق حلاوته؛ وهو ألا يشتغل قلبه وسِرُّه بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درْك ثأره وشفاء نفسه؛ بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوَّه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعوَن على مصالحه”.
احذري من التراكمات، وعليك بالعلاج أولا فأولا؛ فعلاج الأمور في بدايتها أيسر بكثير من تركها حتى تتجذر وتترك رواسب يصعب تجاوزها، لذا أنصحك بالمصارحة والشفافية مع هؤلاء على أن يكون بهدوء وحكمة.
اجلسي مع زوجك وحددا معا الأمور التي تسبب هذه المشاكل واقترحا حلولا عملية لها حسب ظروف العائلة، وإن اقتضى الأمر أن تأخذا سكنا – مثلا- بعيدا عن بيت العائلة فلا حرج في ذلك، ولكن ذلك بعد أن تستنفدا كل أسباب الصلح والتقارب.
وفي النهاية أسأل الله أن يطهر قلوبنا من الحقد والغل، وأن يجعلنا إخوانا متحابين فيه، وأن يظلنا بظله يوم لا ظل إلا ظله.
[opic_orginalurl]