يستكمل المقال في جزئه الثاني الحديث عن الإعجاز في تسوية البنان وتشكيل بصمة الإصبع التي تميز كل إنسان عن غيره…
إعداد/ فريق التحرير
نظرية الاحتمالات في بصمة الإصبع واحتمال تطابق بصمتين:
طوَّر هذه النظرية البروفيسور “سيمون نيوكومب” وهي تعتمد على أسس وقوانين محكمة، مثل جدول الضرب. ويقول “بول كريك” ـ أستاذ العلوم الجنائية في جامعة كاليفورنيا أن نظرية الاحتمالات هي المفتاح الوحيد لتفسير الأدلة الطبيعية.
ولنحاول تطبيق هذه النظرية على إمكانية تطابق بصمتين تطابقًا كاملًا من حيث: (النوع ـ الشكل ـ الموضع).
لنفرض أن أحدنا أخذ انطباعًا لإبهامه الأيمن والتقط صورة فوتوغرافية لهذا الانطباع، ثم كبَّرها عدة مرات كي يستطيع تحديد المميزات الخطية في بصمته، ولنفرض أنه بعد أن قام بهذا العمل وجد فيها (45 ميزة).
ترى ما هي فرص العثور على بصمة أخرى، سواء في بقية أصابعه العشرة، أو في أصابع يدي أي إنسان آخر يعيش حاليًّا على وجه البسيطة، وتحتوي على المميزات نفسها بالضبط، من حيث العدد والأشكال والمجموع والمواضع النسبية؟!
وبتعبير آخر: هل يمكن أن تتكرر البصمة نفسها مرتين وفي الوقت نفسه مع ما فيها من تفاصيل ذاتية بالغة الدقة؟!
إن كل ذي خبرة في الموضوع يستطيع الإجابة عن هذه التساؤلات قائلًا ـ بثقة تامة وبكل بساطة: إن فرص تكرار بصمتين في آنٍ واحد هي مِثْل فرصة العثور على حبة رمل معينة من الرمال التي تقبع بمكان ما في الصحراء الكبرى أو الربع الخالي، ومن الطبيعي أن بمقدورنا أن نجد بصمة أخرى من النوع نفسه أو الزمرة، وقد نجد فيها نقطة زاوية أو مراكز متشابهة أو مماثلة أو أننا قد نجد كذلك النقطتين معًا.
وربما صادفنا العدد نفسه من المميزات أيضًا، أي: خمس وأربعين ميزة، ولكن الشيء الذي يستحيل أن نصادفه وبالتأكيد، هو المميزات الحلمية نفسها من حيث المواضع النسبية، وعندما يستبعد الخبراء احتمال وجود بصمتين متطابقتين في آنٍ واحد لهذه الدرجة من التطرف، إنما يستندون ـ كما رأينا ـ إلى قوانين ونظريات، ومن بينها نظرية الاحتمالات المشار إليها سابقًا، والتي تنص على أنه “إذا كانت الوقائع مستقلة بعضها عن بعض، فإن احتمال توافقها وحدوثها هو حاصل ضرب احتمالاتها المنفصلة”.
ولقد قدَّر أحد العماء أن ثمة أقل من فرصة (من أربعة وستين مليارًا) لتكرار بصمة واحدة مرتين في وقت واحد!
ترى إذا قبلنا هذا التقدير، فماذا ستكون فرصتنا للعثور على مثيل مطابق ليجمع بصمات الأصابع العشرة؟! يتبيَّن من الحساب أنه ستكون فرصة واحدة من العدد الآتي:
(64×910)10= (976, 846, 606, 904, 921, 152, 1×9010).
وهذا العدد يفوق جميع الإدراك البشري!
ومن ثم فقد أثبت العلم حديثًا أن البصمة لا تتطابق في فردين أبدًا حتى لو كانا من التوائم المتماثلة، بل لا تتطابق بين أصبعين من أصابع اليد الواحدة أو القدم الواحدة في الفرد الواحد.
وترجمة ملخصة لما سبق تشتمل على المعلومات الآتية:
إن نموذج البصمة لكل شخص يكون فريدًا أو وحيدًا، وعلى هذا لا توجد بصمتان حتى الآن تتطابقان تمامًا، إلا أن تكونا للشخص نفسه ومن مكان البصمة نفسه، وإن تجميع ملايين البصمات التي سُجِّلت لمئات الملايين من البشر في الولايات المتحدة الأمريكية (U.S.A) وحدها قد فشلت في الإخلال بصحة هذه المشاهدة.
كما لوحظ أن نموذج البصمة لأي شخص لا يتغيَّر على مدار رحلة العمر، فهذا هو العالم “Herschel” قد أوضح ذلك عندما أخذ بصمة أصابعه وعمره 28 سنة، ثم مرة أخرى عندما أصبح عمره 82 سنة، فوجد أن البصمة لم تتغير إلا من بعض الإضافات نتيجة لتجاعيد الزمن.
التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
لا شك أن الله تعالى الذي خلق الإنسان من عدم فجعله في أحسن تقويم لقادر على إعادة هذا الخلق العجيب ـ بكل ما فيه دون زيادة أو نقصان ـ مرة أخرى، وذلك أهون عليه؛ قال تعالى: “أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ. بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ” (القيامة:3،4).
وهنا أثار المشككون شبهتهم زاعمين أن المعنى المقصود من الآية الثانية هو استواء أصابع الكافر يوم القيامة فتصبح كحوافر الحيوانات غير قابلة للانحناء؛ لالتقاط الأشياء.
وهذا التفسير يخالف سياق الآية والسبب الذي من أجله نزلت.
ولعلَّ نظرة إلى الدلالات اللغوية التي اشتملت عليها هذه الآية الكريمة، وأقوال المفسرين حولها ـ توضِّح لنا بجلاء ما تحويه من إعجاز علمي رائع.
-
من الدلالات اللغوية في الآية الكريمة:
البَنَان: أطراف الأيدي والأرجل.
وجاء في المخصص لابن سيده: البَنَان: واحدته بنانة. قال أبو عبيدة: البنان: أطرافها.
وقال ابن فارس في مقاييس اللغة: قال الخليل: البَنَان: أطراف الأصابع في اليدين.
وجاء في معجم اللغة العربية المعاصرة: بنان مفرده (بنانة): أطراف الأصابع، أو الأصابع ذاتها.
-
من أقوال المفسرين حول الآية الكريمة:
يقول الفخر الرازي: إنه نبَّه بالبنان على بقية الأعضاء؛ أي نقدر على أن نسوي بنانه بعد صيرورته ترابًا كما كان، وتحقيقه: أن من قدر على الشيء في الابتداء قدر أيضًا عليه في الإعادة، وإنما خصَّ البنان بالذكر؛ لأنه آخر ما يتم خلقه، فكأنه قيل: نقدر على ضمِّ سلاماته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولًا من غير نقصان ولا تفاوت، فكيف القول في كبار العظام؟!
ويحكي القرطبي قول القتبي والزجاج قائلًا: وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام؛ فقال الله تعالى: بلى قادرين على أن نعيد السُّلاميات على صغرها، ونؤلِّف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر.
وقال ابن كثير: أي أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه؟! بلى سنجمعها قادرين على أن نسوي بنانه؛ أي: قدرتنا صالحة لجمعها، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان، فنجعل بنانه ـ وهي أطراف أصابعه ـ مستوية، وهذا معنى قول ابن قتيبة والزجاج.
ويؤكِّد صاحب الظلال على ما سبق فيقول: النص يؤكد عملية جمع العظام، بما هو أرقى من مجرد جمعها، وهو تسوية البنان، وتركيبه في موضعه كما كان، وهي كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما فيه، وإكماله، بحيث لا تضيع منه بنان، ولا تختل عن مكانها، بل تُسوَّى تسوية، لا ينقص معها عضو ولا شكل هذا العضو، مهما صغر ودقَّ.
أما عن التفسير الذي تشبَّث به المشككون فهو يخالف سياق الآية والسبب الذي من أجله نزلت.
فما يتبيَّن لنا مما سبق من الدلالات اللغوية وأقوال المفسرين أن البنان هو أطراف الأصابع التي هي أصغر جزء في جسم الإنسان، وقد سُمِّيت بذلك؛ لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن للإنسان أن يَبِنَّ بها، يريد أن يقيم به، أي: يتحسَّس بها الأحوال لتركيز النهايات العصبية والحسية فيها.
ومن ثم رأينا القرآن الكريم يتحدَّى في الآية التي معنا من يشككون في يوم البعث، فيذكر أمرًا ما كان يخطر على بال البشر في ذلك العصر، وهو أن الله تعالى سوف يجمع هذه العظام ويعيد خلق هذا الإنسان كما أنشأه أول مرة، وأن القدرة الإلهية في الخلق تصل إلى حدِّ تمييز كل إنسان من غيره ببصمة الأصبع.
تلك البصمة التي تعتبر ختمًا إلهيًّا جعله الخالق سبحانه وتعالى علامة جماعية فارقة للإنسان دون غيره من المخلوقات المعروفة لنا، كما جعله ميزة فردية لكل واحد من بني الإنسان تحدِّد شخصيته تحديدًا قاطعًا، وتفرده عن غيره إفرادًا مميزًا يتجاوز حدود الصفات الموروثة والمميزة لكل عرق ودم ولون، وذلك طيلة حياته.
فالآية بذلك تؤكِّد على إعادة بصمة كل بنان مع بعث كل ميت؛ تأكيدًا على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في كل من الخلق والبعث، كما تشير إلى دقة تسوية البنان وإلى أهمية ذلك في حياة الإنسان.
ولكن المفسرون القدامى كانوا يمرون على هذه الآية مرورًا عابرًا، ولا يفهمون ما فيها من إعجاز علمي؛ لأن بصمة الأصبع لم تكن قد اكتُشفت أو عُرف أهميتها ودورها في الكشف عن أي شخص وتمييزه من غيره.
وعلى الرغم مما ذكرناه من إعجاز علمي في الآية الكريمة إلا أن المشككين في الإعجاز العلمي للقرآن قد راحوا يختلقون الأدلة لإثبات ما أثاروه من طعون، فقالوا: إن التسوية لم تأت في القرآن أبدًا بمعنى الخلق الكلي أو إعادة الخلق، وإنما جاءت بمعنى التعديل والتقويم والإتمام.
وهذا الكلام ينمُّ ـ خاصة بعدما أثبته العلم من حقائق في هذا الصدد ـ عن فهم قاصر وفكر مضطرب؛ إذ إن قائليه قد وقفوا عند حرفية كلمة “التسوية” من حيث معناها اللغوي فحسب، ناسين أو متناسين أن السياق هو الذي يحدِّد المعنى المراد تحديدًا دقيقًا.
وبالنظر إلى الآية التي معنا نجد أنها قد جاءت في معرض الرد على منكري البعث في كل زمان ومكان ـ كما أوضحنا سابقًا ـ ومن ثم صوَّرت الآية طلاقة القدرة الإلهية أبلغ تصوير؛ حيث ذكرت أن الله قادر على إعادة تسوية البنان ـ الذي يحتوي على البصمة ـ وتركيبه في موضعه كما كان، فما بالك بالعظام الكبار؟!
إذًا فلفظ “التسوية” مناسب ـ هنا ـ تمام المناسبة لما سبق؛ إذ إن الأمر ليس مقصورًا على خلق البنان فحسب، وإنما يحتاج ذلك إلى تسوية وإتقان؛ حتى يكون البنان خاتمًا خاصًّا لكل إنسان، يميزه من غيره من البشر، وهذا هو الإعجاز العلمي الذي أشار إليه الخالق جلَّ وعلا في الآية الكريمة.
يقول ابن عاشور: أُريد بالتسوية إعادة خلق البنان مُقوَّمة متقنة؛ فالتسوية كناية عن الخلق؛ لأنها تستلزمه، فإنه ما سُوِّي إلا وقد أُعيد خلقه؛ قال تعالى: “الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ” (الأعلى:2).
هذا بالإضافة إلى أن التسوية كما يقول علماء الأجنة هي مرحلة تميز الإنسان من غيره من المخلوقات؛ فالجنين قبل الشهر الثالث يكون أشبه بالحيوانات، لا تستطيع أن تميزه منها، فإذا جاء هذا الشهر بدأت مرحلة التصوير والتسوية والتعديل؛ حتى يصير الجنين في أحسن تقويم؛ قال الله تعالى: “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ” (التين:4).
المراجع:
*الهيئة العالمية للكتاب والسنة
*موسوعة بيان الإسلام للرد على الشبهات
[ica_orginalurl]