هذه الروح الإيجابية التي يوجِدها شهر رمضان تنمي في نفوس الصائمين صفات الرحمة والإحساس بهؤلاء الجوعى جبرًا قبل شهر رمضان وبعده، وما أكثرهم، فإذا بالصدقات تنهال على الفقراء من كل حدب وصوب، وإذا بموائد الرحمن تنتشر في كل مكان، يجتمع عليها الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، في حالة من التكافل الاجتماعي غير المتحقق بتلك الكيفية إلا في شهر رمضان وحده…
(مقتطف من المقال نفسه)
د. حازم علي ماهر
هل هناك من أمل في أن يكون شهر رمضان -بنفحاته وبركاته وتوحيده للأمة في كثير من الشعائر والمظاهر- سببًا في استعادة إنسانية المتصارعين على الدنيا وزينتها إلى حد سفك بعضهم للدماء وقهرهم للمستضعفين أو على الأقل استهانتهم بذلك وتجاهلهم له؟
لا يمكن أبدًا لعاقل أن ينتزع الأمل من قلوب الصائمين وعقولهم؛ خاصة إذا أدركوا أن طبيعة الدورة التدريبية الرمضانية الربانية التي تتكرر شهرًا كل عام، غايتها تعويد النفس على حياة التقوى بمفهومها الشامل الجامع بين الامتثال لأوامر الله عز وجل واجتناب نواهيه في السراء والضراء، وبين اتقاء الذنوب والتحرر من عبادة الشهوات والملذات.
دورة تدريبية كاملة
فشهر رمضان عبارة عن دورة تدريبية كاملة ومتواصلة، تريد أن تُخرج إلى الحياة أناسًا أقرب لطبيعة الملائكة النورانية -حيث تسمو أرواحهم وتترقق نفوسهم ويرقى سلوكهم- من طبيعة البشر “الطينية” الغرائزية التي قد تغويهم طوال العام لفعل المنكرات وهجر الطاعات.
ومن هذا الباب قد نفهم لماذا حرم الشرع الإفطار في رمضان تحريما قاطعًا، ولو ليوم واحد، دون عذر يقبله المولى سبحانه، إذ إن هذا الإفطار قد يضيع الحكمة من فرض صيامه، ويحرم المسلم من الاستفادة من تراكم الآثار الإيجابية للصوم والتي تقوي إرادة الإنسان في مواجهة ضعفه البشري يومًا بعض يوم، حتى إذا انتهى الشهر خرج الصائم القائم أقوى مما كان، وزاد احتماله على مواجهة الأحمال ولو كانت تنوء بها الجبال.
فصيام رمضان يعالج ضعف الإنسان أمام شهواته، المباح منها والممنوع، وذلك من خلال سياسة منع المباح لمنح القدرة على المقاومة الذاتية للمتاح، أو بمعنى أوضح منع الإنسان من إشباع بعض شهواته المشروعة، كالطعام والشراب، ليتمكن من باب أولى من إشباع شهواته بطرق غير مشروعة، والتي تشمل كل اعتداء على حق الله أو على حقوق النفس أو الغير.
والصوم يحث المسلم على عدم رد الاعتداء بمثله، فإذا تعرض الصائم –على سبيل المثال- لسباب أحدهم فإن عليه بدلا من أن يرد بالمثل، أن يقول: (… إني امرؤ صائم…) [جزء من الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما] مذكرًا نفسه ومن اعتدى عليه أن للصوم حرمة وتوقير يمنعه من رد السيئة بمثلها على الرغم من مشروعية ذلك في الظروف العادية!
من آداب استقبال شهر رمضان…
كما أن من آداب استقبال شهر رمضان نفسه طلب المغفرة والعفو من الله عز وجل وهو أمر يرتبط في ذهنية المسلمين بعفوهم وصفحهم عن إخوانهم المسيئين إليهم، استنادا إلى قوله تعالى: “… أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ…” (النور:22)، ولذلك ستجد –مثلا- وسائل التواصل الاجتماعي مليئة بكتابات الكثيرين التي يعلنون من خلالها العفو عمن أساء إليهم وبطلب الصفح ممن أساءوا هم إليهم، ليبدؤوا صفحة نقية جديدة مع الله ثم مع أنفسهم ومع الناس في الوقت نفسه.
هذه الروح الإيجابية التي يوجِدها شهر رمضان تنمي في نفوس الصائمين صفات الرحمة والإحساس بهؤلاء الجوعى جبرًا قبل شهر رمضان وبعده، وما أكثرهم، فإذا بالصدقات تنهال على الفقراء من كل حدب وصوب، وإذا بموائد الرحمن تنتشر في كل مكان، يجتمع عليها الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، في حالة من التكافل الاجتماعي غير المتحقق بتلك الكيفية إلا في شهر رمضان وحده.
وقد قضيت رمضان في أكثر من دولة مسلمة ورأيت مقدار ما تنعكس تلك الروح الرمضانية على المجتمعات المسلمة كلها بالخير الذي يتجلى في كثير من المظاهر التي تكاد تنطق بعظمة هذا الشهر وتأثيره العميق في نفسية المسلم الذي قد يقربه من نموذج المؤمنين الأوائل، فهو صوام قوام رفيق رقيق معطاء رحيم، يدرك أن عليه مسئوليات كبيرة نحو مجتمعه، فينفق إنفاق من لا يخشى الفقر، ويتجنب المعاصي حتى يجد في نفسه بالتدريج كراهية لها تفوق ما كان يشعر به من استمتاع كاذب بها.
وقد شهدت في دولة الكويت -على سبيل المثال- خيرًا وفيرًا للصائمين لم أره من قبل، والذي تجسد في حجم الموائد الرمضانية التي يقيمها المحسنون للفقراء، والتي تكون عادة عامرة بأطيب أنواع الطعام، من غير اقتصار على الإفطار وحده، بل تمتد إلى توفير وجبات السحور للعاكفين في المساجد في العشر الأواخر من رمضان، فتزداد سعادة المرء بما يرى حين يلمس وحدة حقيقية بين أفراد المجتمع خاصة بين أثريائها من المحسنين، وفقرائها، وفي هذا التنوع الفريد في جنسيات هؤلاء الفقراء حتى ترى الهندي يجلس بجوار الباكستاني والبنغالي والمصري يجاور السوداني والجزائري والمغربي…، لا فرق بينهم فكلهم صائمون لله وحده.
مقاصد الصيام الجليلة
هذه المعاني الجميلة للصيام ومقاصده الرائعة التي نلمسها خلال الشهر الكريم من تحقيق للتقوى على المستوى الفردي، وللوحدة والتكافل على المستوى الجماعي، تثير الإعجاب والتعجب في الوقت نفسه؛ أما الإعجاب فبما يحمله هذه الشهر من خير وبركة ورحمة، وما يغرسه من قيم من شأنها أن تنهض بالإنسان وتحقق فيه معاني الخلافة التي كرمه الله سبحانه من أجلها حتى باهى به الملائكة، وأما التعجب فمما يشهده واقع المسلمين المعاصر في غير شهر رمضان –وأحيانًا فيه للأسف الشديد- من تناقض يكاد يصل إلى حد التضاد مع أهداف الصوم ومقاصده، ويقترب من تصديق توقع الملائكة أنفسهم لما سيجترحه هذا المخلوق الجديد من إفساد في الأرض وسفك للدماء!
وهنا يثور التساؤل: ما الذي يبدل واقع المسلمين من حال إلى حال؟
ما الذي يحول الإنسان الرمضاني الرباني إلى إنسان شيطاني يخالف كل ما اعتاد عليه في رمضان؟
وهل من سبيل لاستثمار شهر رمضان في إدامة ربانية شهر رمضان طوال العام؟
ألا يتأمل هؤلاء المحسنون في شهر رمضان أن الفقراء الذين يتصدقون عليهم في رمضان ويقيمون لهم موائد الرحمن يظلون مساكين لا يجدون قوت يومهم طوال العام، ومن ثم يدركون أن رسالتهم الحقيقية هي في مكافحة الفقر والعمل على إغناء الفقراء طوال العام ولو بتوفير احتياجاتهم الإنسانية الأساسية من أمن ومأكل ومشرب وملبس ومسكن آدمي، ولا يكون شهر رمضان -بالنسبة إلى بعضهم- مجرد طقس للتطهر والتكفير عن التقصير في حقوق العباد حسبما يتوهمون ثم يعيدون الكرة طوال العام؟
ألا يعتبر هؤلاء الذين يفهمون الجهاد على أنه قتال للأبرياء (غير المقاتلين) وترويع للآمنين، أن الجهاد الحقيقي هو جهاد النفس على النحو الذي يعلمنا إياه شهر رمضان، وأنه حتى في حال القتال فيه فهو قتال الشرفاء لرد الاعتداء ورفع الإصر عن المستضعفين واسترداد الأرض وحفظ العرض على النحو الذي جرى في غزوات رمضان ومعاركه التاريخية التي أعزت الإسلام وحررت الإنسان؟
إن شهر رمضان هو نفسه من حيث الزمن والعبادات والشعائر منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم وتابعيهم بإحسان، غير أن الذي تغير هو إدراك مقاصده ومعانيه، ومنهج التعامل مع أيامه ولياليه.
لقد غفل البعض عن أن شهر رمضان هو وسيلة لا غاية؛ وسيلة لاستعادة هيمنة الروح على الجسد، واسترداد إخلاص النيات وتجردها لله عز وجل على حساب الرياء واتباع الشهوات، ومن ثم لا سبيل لإعادة الفعالية الحقيقية لتأثير شهر رمضان على النفوس وتزكيتها إلا بإعادة فهمه في هذا الإطار؛ إنه شهر تدريبي يلبي فيه الإنسان نداء ربه بالفرار إليه من جديد ليظل حاله في بقية العام هو حال الصالحين الأتقياء الأنقياء، لا حال الضعفاء أصحاب الأهواء!
كما أنه لن يفلح إنسان في نيل ثمرات الصيام إلا بتوبة نصوح يتبعها هجران كامل ودائم لحظوظ النفس التي تحول وجهته من ابتغاء وجه الله عز وجل إلى اتخاذ شياطين الإنس والجن أولياء من دون الله.
عندئذ فقط سيعيد شهر رمضان المسلمين إلى سيرتهم الأولى التي كانوا يتعاونون فيها على البر والتقوى، ويقفون معًا في مواجهة الظلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، أذلة على المؤمنين لا على المستكبرين، رحماء بينهم لا مع أعدائهم.
نعم، يمكن أن يكون هناك أمل في استعادة إنسانيتنا إذا ما جرى اعتبار شهر رمضان وسيلة للتحلي بتقوى الله وما تعنيه من التزام طاعة الله واجتناب نواهيه والتقرب إليه بالنوافل والصدقات وصلة الأرحام والرحمة بالناس والعدل والمساواة فيما بينهم والسعي الجاد في قضاء حوائجهم وتحقيق مصالحهم… طوال العام وليس فقط خلال الشهر نفسه!
__________________________________________
المصدر: النسخة الورقية لمجلة المجتمع
[opic_orginalurl]