الغض من الصوت هو من سمات الأدب، والتواضع، والثقة بالنفس، والاطمئنان إلي صدق الحديث، وصدق القصد…
(مقتطف من المقال)
الدكتور زغلول النجار
قال تعالى: “وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ” (لقمان:19)
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل النصف الثاني من سورة لقمان، وهي سورة مكية، وآياتها أربع وثلاثون، بعد البسملة. وقد سميت السورة بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي لقمان الحكيم، وهو أحد أحناف زمانه، لأنه اشتهر بالدعوة إلي التوحيد الخالص لله ــ تعالى- ونبذ الشرك، كما اشتهر بالحكمة وبالتزام مكارم الأخلاق ، والدعوة إليها.
من أوجه الإعجاز العلمي والتشريعي في الآية الكريمة في قول ربنا -تبارك وتعالى- علي لسان لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ…) أي: توسط في مشيك بين الإسراع والبطء حتى لا يكون في ذلك شيء من الاستعلاء والكبر، فخطى الإنسان علي الأرض محصية عليه، (…وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ…) أي: خفضه إلي مستوى الحاجة حتى لا يكون في ذلك شيء من الرعونة وسوء الأدب، والإساءة إلي مسامع الآخرين، (…إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ) أي: إن أقبح الأصوات لهو صوت نهيق الحمير لما فيه من العلو المفرط عند ممارسة عملية التنفس من الشهيق والزفير، وذلك من الفزع الذي ينتاب تلك الحيوانات عند رؤيتها للشياطين. وفي ذلك يروي النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: “إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكًا، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم فإنها رأت شيطانا” (البخاري ومسلم).
قياسات علمية تؤكد خطورة الصوت المرتفع
وقد ثبت بالقياس أن لصوت نهيق الحمار شدة تقدر بما يتجاوز المائة ديسيبل، وأن كثرة تعرض الإنسان لهذا الصوت الشديد قد يصيب أذنيه بالصمم، ويصيب صاحبهما بالعديد من الأمراض العصبية والبدنية.
ولذلك وضعت جداول لتحديد أقصي مدة يمكن أن يتعرض لها الإنسان تحت شدة معينة من الأصوات. فإذا وصلت شدة الصوت إلي (45) ديسيبل لا يستطيع الفرد العادي أن ينام في هدوء. وعند (85) ديسيبل تبدأ آلام الأذنين، فإذا وصلت شدة الصوت إلي (90) ديسيبل لا يستطيع الإنسان أن يتحمل ذلك لأكثر من ثماني ساعات. فإذا زادت إلي (100) ديسيبل فإن هذه المدة تتناقص إلي ساعتين فقط، وإذا وصلت إلي (110) ديسيبل تناقصت مدة سلامة الإنسان إلي نصف ساعة فقط. أما إذا وصلت شدة الصوت إلي (160) ديسيبل فإن الإنسان يصاب بالصمم التام. وإذا كان نهيق الحمار يتعدى في شدته مائة ديسيبل، فإنه يعتبر من أشد الأصوات إيذاء لأذن الإنسان، وهنا تتضح لمحة الإعجاز العلمي في هذا التقرير القرآني الكريم.
ويتضح وجه الإعجاز التشريعي في الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال في دعوة الإنسان إلي القصد في المشي، والغض من الصوت، والتذكير بأن أنكر الأصوات هي تلك الأصوات الفائقة الشدة، المرتفعة النبرة، والتي تؤذي السامعين، وتسيء إليهم إساءات مادية ومعنوية، لما تحمله من صور التكبر علي الخلق، والاستعلاء في الأرض، وهما خصلتان سيئتان، لا يحبهما الله ــ سبحانه وتعالى ــ ولا يحبهما رسوله ــ صلي الله عليه وسلم ــ ولذلك أمر القرآن الكريم بخفض الصوت.
والغض من الصوت هو من سمات الأدب، والتواضع، والثقة بالنفس، والاطمئنان إلي صدق الحديث، وصدق القصد. أما رفع الصوت بغير داع، والإغلاظ في القول للآخرين بغير مبرر، فكلها من مظاهر ضعف الشخصية، وسوء الأدب مع الغير، وقلة الثقة بالنفس. كما أنها من علامات الادعاء والكذب، ومن محاولات فرض الرأي الخاطئ بالقوة عن طريق رفع الصوت في شيء من الحدة والغلظة غير المبررة.
من هنا جاء القرآن الكريم بهذه الآية الآمرة بالتوسط في المشي في غير تكبر، والناهية عن رفع الصوت بلا مبرر، وواصفة هذا السلوك بأنه سلوك قبيح مرذول، ونفر من الوقوع فيه، وذلك بتشبيهه بنهيق الحمار. ووصف ها النهيق بأنه أنكر الأصوات فجاء بحقيقة علمية مؤكدة تنفيرا من محاكاته، ورفضًا للتشبه به. وإذا كانت الحمير معذورة في رفع أصواتها فزعًا من رؤية الشياطين، فإن الإنسان ــ ذلك المخلوق العاقل المكرم ذو الإرادة الحرة ــ لا يجوز له رفع الصوت دون مبرر لأن الله ــ تعالي ــ لا يرضى عن ذلك السلوك، ويذمه غاية الذم بهذا التشبيه القرآني المعجز الذي يصل بالأمر إلي مستوى التحريم وإن لم ينطق النص القرآني بذلك.
وفي ذلك يقول رسول الله ــ صلي الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر…” وقال أيضا: “إن الله ــ عز وجل ــ أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد علي أحد، ولا يفخر أحد علي أحد” (سنن أبي داود).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ــ أنه قال: “كان النبي صلي الله عليه وسلم ــ إذا مشي، مشي كأنه يتوكأ. كذلك وصف رسول الله ــ صلي الله عليه وسلم بأنه ما كان يرفع صوته في الأسواق“.
هذه الآية الكريمة تأمر بالقصد في المشي وبخفض الصوت احتراما للآخرين وصونا لكرامتهم، والحقائق العلمية، والضوابط السلوكية التي جاءت في هذه الآية الكريمة لما يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام رب العالمين، ويشهد للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة، فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصدر: موقع الدكتور زغلول النجار
[ica_orginalurl]