د. رمضان فوزي بديني
وبعد أن استعرضنا هذه السلسلة من حوارات القيامة في القرآن، نختم بهذه الحوارات التي تعد حوارات تبجيل وإكرام؛ وهي الحوارات التي يقابَل بها أهل الجنة الذين عبدوا الله تعالى حق عبادته، وحان الآن موعد تكريمهم وجزائهم.
ويتناسب في هذا السياق أن يكون أول ما يقابلون به هو السلام؛ حيث قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (الأحزاب: 44)، وقال عز وجل في موضع آخر: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (يس: 55-58) .
أي أن الله عز وجل يسلم عليهم، قال القاسمي :”أي ولهم سلام، يقال لهم قولا كائنا منه تعالى.
والمعنى: أنه تعالى يسلم عليهم تعظيما لهم؛ كقوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}” (محاسن الـتأويل: 8/190).
وقال السعدي رحمه الله : “ولهم أيضا (سَلامٌ) حاصل لهم (مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)؛ ففي هذا: كلام الرب تعالى لأهل الجنة وسلامه عليهم، وأكده بقوله: (قَوْلا)، وإذا سلم عليهم الرب الرحيم، حصلت لهم السلامة التامة من جميع الوجوه، وحصلت لهم التحية، التي لا تحية أعلى منها، ولا نعيم مثلها؛ فما ظنك بتحية ملك الملوك، الرب العظيم، الرءوف الرحيم، لأهل دار كرامته، الذي أحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدا، فلولا أن اللّه تعالى قدر ألا يموتوا، أو تزول قلوبهم عن أماكنها من الفرح والبهجة والسرور، لحصل ذلك. فنرجو ربنا ألا يحرمنا ذلك النعيم، وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم “(تفسير السعدي: 697).
وروى ابن جرير الطبري عن مُحَمَّد بْن كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ أنه “حدث عن عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أنه قَالَ: إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، أَقْبَلَ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةِ، قَالَ: فَيُسَلِّمُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ السَّلاَمَ، قَالَ الْقُرَظِيُّ: وَهَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ: {سَلاَّمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فَيَقُولُ: سَلُونِي، فَيَقُولُونَ: مَاذَا نَسْأَلُكَ، أَيْ رَبِّ؟ قَالَ: بَلْ سَلُونِي، قَالُوا: نَسْأَلُكَ أَيْ رَبِّ رِضَاكَ، قَالَ: رِضَائِي أَحَلَّكُمْ دَارَ كَرَامَتِي ” (تفسير الطبري: 19/468).
ويرسم القرآن صورة التكريم والتبجيل التي يقابل بها أهل اللجنة في موضع آخر فيقول: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (سورة قاف: 31-35).
قال أبو حيان في البحر المحيط: “أي سالمين من العذاب، أو مسلماً عليكم من الله وملائكته”.
حوارات القيامة بين الملائكة وأهل الجنة
وفي خواتيم سورة الزمر بعد أن نقل القرآن تأنيب خزنة النار للكافرين، ينتقل المشهد إلى الجهة المقابلة لينقل حوار خزنة الجنة وكيف استقبلوا أهل الجنة، وهم يدخلون الجنة زمرا وجماعات {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (الزمر: 73)؛ فتحيتهم فيها السلام ودعاؤهم فيها طيب المقام والخلود في النعيم؛ فيأتي ردهم فيها بحمد الله والثناء عليه ورد ما هم فيه من نعيم إليه سبحانه وتعالى؛ فهو الذي صدقهم وعده فنالهم ما نالهم من النعيم المقيم، وهو سبحانه الذي أورثهم الأرض يتبوؤون من الجنة حيث يشاؤون بفضل الله وكرمه وليس بأعمالهم هم، وهذا من باب الأدب العالي مع الله تعالى {وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (الزمر: 74).
[opic_orginalurl]