إن حماية البيئة والحِفاظَ عليها أحدُ شُعب الإيمان، ودلائل البرِّ والإحسان؛ بل هو أمرُ الملك الديَّان…
الشيخ الدكتور/ عبدالرحمن السديس
حينما نستروِحُ شوامِخَ شريعتنا الإسلامية، وقِيَمنا الإنسانية، ومضامينها الحضارية، وجوانبها السنيَّة، تبرُزُ قضيَّةٌ عالمية، عريقةٌ تاريخية، سبقَت إليها شريعتُنا الغرَّاءُ الأُممَ السوالِف، ودعَت إلى الاهتمامِ بها وترجيحِها، وتقديمِها على ما سِواها وترشيحِها؛ لما بانَ من جليلِ آثارها، ومحضِ روائِعِها وصريحِها.
تلكم هي: قضيةُ حماية البيئة والحفاظ عليها ورِعايتِها، وصَون مكوِّنات الحياة ومُسخَّرات الكون وحمايتها، فكم أفادَت عليلاً، وشرحَت صدورًا، وبعَثَت حُبورًا.
إن حماية البيئة والحِفاظَ عليها أحدُ شُعب الإيمان، ودلائل البرِّ والإحسان؛ بل هو أمرُ الملك الديَّان، وحسبُنا ما تحفَلُ به شريعتُنا من حُجَّةٍ وبُرهان: “وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ” (البقرة:60)، “وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا“(الأعراف:56).
وصحَّ عن سيِّد ولدِ عدنان–عليه الصلاة والسلام– قولُه: «الإيمانُ بِضعٌ وسبعون شُعبة، أفضلها: قولُ لا إله إلا الله، وأدناها: إماطةُ الأذى عن الطريق»؛ أخرجه مسلم في صحيحه.
والأذى يشتَملُ الحِسِّيَّ والمعنويَّ.
الله أكبر! فكيف بدرء الأذى عن مناحِي الحياة كلِّها؟ لتسلمَ جميلةً بهيَّة، نقيَّةً صحيَّة، لا غرْوَ أن الأمرَ أعظمُ وأجلُّ، لمن دانَ وامتثَل.
وكيف لا نستبِقُ حمايةَ البيئة، وقد أفاءَ الله على عباده بآلاء الطبيعة الخلاَّبة، والبيئة الجذَّابة؟ يقول–سبحانه–: “وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ” (ق: 8،7)
ففي هذه الآية الكريمة –ونحوها كثير– الدعوة المُؤكَّدة لحماية البيئة؛ إنسانًا، وحيوانًا، وطيرًا، وبناءً، برًّا وبحرًا وجوًّا، فضاءً وسماءً، شجرًا ونباتًا، زرعًا وماءً، حفظًا لجمالها ونظافتها، وقوَّتها ونضارتها، وسلامتها ونقاوتها.
البيئةُ التي طُرِّزَت ببدائعِ الموجودات وأحاسِن المخلوقات لهي من نعم البارِي الباهِرة، ومِنَنه علينا الغامِرة، فمنها تُجنَى المنافعُ الكثيرة، والارتِفاقاتُ الكبيرة؛ كالتفكُّه من البيئة بثِمارِها، وابتِهاج النفوس بأزهارها، وتمتُّع الأبصار باخضرارها، والاستِظلال بوارِف ظِلالها، والارتِفاق بخشَبها، واستِنشاق الهواء النقيِّ بسببها.
بل تبعَثُ على تمجيد الخالقِ الوهاب، لذلك رغَّب المُصطفى–عليه الصلاة والسلام– في استِصلاحِها وحمايتِها، يقول–صلى الله عليه وسلم-: «بينما رجلٌ يمشِي بطريقٍ وجد غُصنَ شوكٍ فأخَّرَه، فشكرَ الله له فغفرَ له»؛ أخرجه البخاري.
إفساد المنظومة البيئية
وحذَّر–صلى الله عليه وسلم– من تلويثِ البيئة وتدنيسِها، بقوله –عليه الصلاة والسلام–: «اتقوا الملاعِن الثلاثة: البراز في الموارِد، وقارعة الطريق والظلِّ»؛ أخرجه أبو داود وابن ماجه.
وهذا توجيهٌ صحيٌّ وقائيٌّ دقيق، ومنهجٌ نبويٌّ تجاهَ البيئة شفيق، لم يُسبَق في المناهِج العالمية الغابِرة، ولا دُغُمها الحاضِرة.
ومع التأكيد في الترغيب، والتشديد في الوعيد صوبَ البيئة وجودًا وعدمًا، إلا أنها في كثيرٍ من الأقطار، وبجهلِ الجاهلين واعتِساف العابِثين أصبحَت رسمًا محيلاً، وأثرًا مُشوَّهًا ضئيلاً، بعد أن كانت مغنًى مُمتعًا جميلاً.
فكم من بيئةٍ قميئةٍ وبيئةٍ تغمُرها الرَّثاثةُ والقَذَى، وظاهرُها الفوضَى والإهمالُ والأذى؟!
إن السعيَ في إفساد المنظومة البيئية داءٌ قميءٌ عُضال، لا يتلبَّسُ به إلا من هو عن سبيل الذَّوق العامِّ مُنحرِفٌ وضالٌّ، عن عبد الله بن عمر–رضي الله عنهما– أن النبي–صلى الله عليه وسلم– قال: «ما من إنسانٍ قتلَ عصفورًا فما فوقَها بغير حقِّها إلا سألَه الله –عز وجل– عنها»؛ أخرجه أحمد والنسائي.
وقال–صلى الله عليه وسلم–: «من قطعَ سِدرةً صوَّبَ الله رأسَه في النار»؛ أخرجه البيهقيُّ وأبو داود، وقال مُعلِّقًا: “أي: عبثًا وظُلمًا بغير حاجةٍ تكونُ له فيها”.
ذلكم الوعيدُ في سِدرةٍ في فلاة، وشجرةٍ في نوماة؛ فكيف بالصيد والاحتِطابِ الجائر؟ وانبِعاث دُخان المصانِع، وعوادِم المركَبات، وأكوام النفايات، وآسِن المُستنقعَات، وطفحِ الصَّرف الصحِّيِّ، ونحو ذلك من البيئات الطارِدة.
وأخطرُ من ذلك: ما حسبُنا الله عليه، ثم حسبُنا من جبروت الظُّلم والطُّغيان، وأسلِحة الدمار الشامِل، والأسلحة النووية والكيماوية، والغازَات السامَّة، والألغام المُتفجِّرة، وبراميل النيران، التي أبادَت جموعَ النساء والرجال والولدان دون شفقةٍ أو رحمةٍ أو تَحنان، ومحَقَت بكل وحشيَّةٍ وبُهتان مصادرَ البيئة والحياة.
إن الوعيَ التامَّ، والتثقيفَ العامَّ بالذود عن البيئة، وحفظِ مُقوِّماتها، وعناصرها ومُهمَّاتها، والوعي والإصحاح البيئيِّ أمانةٌ شرعيةٌ، ومسؤوليةٌ خُلُقيَّة، وحاجةٌ وطنيَّة، وضرورةٌ اجتماعية، وقيمةٌ حضاريَّة، لا تزيدُ الأُممَ إلا تحضُّرًا وعلوًّا، ورُقيًّا ونمُوًّا.
حماية البيئة العامة
ويمتدُّ الحِفاظُ على البيئة العامَّة إلى البيئة الاجتماعية، والوطنية، والأُسرية، والسياسيَّة، والمُجتمعيَّة، والاقتصاديَّة، وحماية الحياة الفِطريَّة، والبيئةِ التعبُّديَّة والعمليَّة الجاذِبة، وذروة سنامِها، ودُرَّة تمامها: البيئة الروحيَّة بالتوحيد والإيمان، والقرآن والسنة، التي تُزكِّي المُجتمعات من الذنوبِ والآفات، وتُطهِّرُها من أدران الإلحاد والشِّرك، والبِدَع والمعاصِي والمُنكرات، وموجات الغلُوِّ والتشكيك، واهتِزاز الثوابِت والقِيَم، وهَدر المُقدَّرات والمُكتسَبَات، فتغدُو أضوعَ من النسيمِ الأرِيج، وآلَق من السُّكون البَهيج.
فإن الحِفاظَ على البيئة قرينُ الأخلاق الحَميدة العليَّة، وعنوانُ التمسُّك بالسنَّة السنيَّة؛ لأن المنهجَ الإسلاميَّ الفريد مصدرُ انبِثاقها، ومنبعُ اشتِقاقها، وعليه لزِمَ تقويمُ رؤية العالَم والمُجتمعات إزاءَ البيئة، وذلك بإخراجها من الحيِّز الماديِّ المحدود إلى الحيِّز التعبُّديِّ المودود.
وأن نُعزِّز مفاهيمَها الدقيقة لدى فلَذَات الأكباد، والأجيال والشباب، في المعاهِد والجامِعات، والمدارِس والكليات، وعلى شتَّى الصُّعُد والمجالات، وأن نُذكِيَ في طموحاتهم الثقافة البيئية شريعةً، وعبادةً، وقُربةً إلى الله، لا ذوقًا عادة فحسب.
والأمرُ–بحمد الله–هيِّنٌ يسير، خصوصًا مع الإجراءات الوقائية، والكفاءات الطبية، وقبل ذلك وبعده العنايةُ الربانيَّة، “وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا” (الطلاق:3).
——————————–
المصدر: بتصرف عن موقع السكينة
[ica_orginalurl]