الأستاذ سالم الشيخي
تحدثنا في الحلقة الأولى من موضوع (حكم من لم تبلغهم الدعوة في المجتمعات الأوربية) عن: المجتمعات الأوربيّة وحكم أهل الفترة بعد النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، والحجّة لا تقوم إلا بالحجّة الرساليّة، وصور ما تقوم به الحجة في أوربا.
ونستأنف الحديث عن باقي جوانب الموضوع..
رابعاً: متى تقوم الحجّة الرساليّة؟ (شروط قيامها)
لا شكّ أن المقصود من إقامة الحجة قطع العذر على من بلغته، وهي لا تقطع علة العذر إلا إذا بلغته بصورة يمكنه فهمها ولذلك شروط:
1- أن تصل الحجّة للمخاطب بلغته:
وهذا الشّرط من الأمور التي يقرّرها الشرع والعقل لأنّ المقصود من إيصال الحجّة هو فهمها وفهم المراد منها، ووصولها بلغة غير لغة المخاطب لا يتحقق منه ذلك، ويكون السامع كالأصمّ في هذا الباب، ومن الأدلة القرآنية على ذلك:
= قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }، (إبراهيم: 4 )، قال ابن كثير رحمه الله: (هذا من لطفه تعالى بخلقه أنّه يرسل أليهم رسلًا منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم، كما روى الإمام أحمد ( ثنا وكيع عن عمر بن ذر قال: قال مجاهد عنه أبي ذر قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): (لم يبعث الله عز وجل نبيًّا إلا بلغة قومه)، وقوله تعالى: “فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء” أي بعد البيان وإقامة الحجة عليهم يضل الله من يشاء عن وجه الهدى ويهدي من يشاء إلى الحق).
وقال القرطبي رحمه الله: (أي قبلك يا محمد “إلا بلسان قومه” أي بلغتهم، ليبيّن لهم أمر دينهم ووحّد اللسان وإن أضافه إلى القوم لأنّ المراد اللغة، فهي اسم جنس يقع على القليل والكثير ولا حجّة للعجم وغيرهم في هذه الآية، لأنّ كلّ من ترجم له ما جاء به النبي (صلّى الله عليه وسلّم) ترجمة يفهمها لزمته الحجة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28)”.
= قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (آل عمران: 164) قال ابن كثير رحمه الله: (أي من جنسهم ليتمكّنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به… وقال تعالى “يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم” فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسل إليهم منهم بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه) .
فهذه الأدلّة من القرآن تدلّ على أنّ من شروط صحّة قيام الحجّة أن تصل إلى المحجوج بلغة يفهمها حتّى يفهم مدلولات الحجّة وما هو المراد منها.
قال ابن القيم رحمه الله: (إنّ قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص؛ فقد تقوم حجّة الله على الكفار في زمان دون زمان وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئا ولا يتكمن من الفهم، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة) .
2- أن تكون من البلاغ المبين:
أي أن تكون الحجّة واضحة بيّنة يستطيع المخاطب فهمها بالقدر الذي تقوم به الحجّة، فقد وصف سبحانه وتعالى بلاغ رسله في أكثر من آية في كتابه بأنّه مبين. قال تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} (المائدة: 92) وقال تعالى: {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} (النحل: 35 ) وقال تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (النور: 54) وقال تعالى على لسان نوح -صلّى الله عليه وسلّم-: {إن أنا إلا نذير مبين} ( الشعراء: 115).
وفي معنى البيّنة قال الراغب رحمه الله: (والبيّنة: الدلالة الواضحة عقليّة كانت أو محسوسة.. والبيان: الكشف عن الشيء، وهو أعم من النطق، لأنّ النطق مختصّ بالإنسان، ويسمّى ما يبين به بيانًا قال بعضهم: البيان يكون على ضربين:
أحدهما بالتسخير، وهو الأشياء التي تدل على حال من الأحوال من آثار الصنعة،
والثاني بالاختبار، وذلك إمّا يكون نطقًا، أو كتابة، أو إشارة) .
والمقدار المطلوب من البيان هو فهم الحجّة بمعنى معرفتها لا بمعنى فهمها على الوجه الذي يفهمها به أهل الإيمان والانقياد لله ورسوله. قال الشيخ سليمان بن سحمان: قال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله: وينبغي أن يعلم الفرق بين قيام الحجّة، وفهم الحجّة فإن من بلغته دعوة الرسل فقد قامت عليه الحجّة إذا كان على وجه يمكن معه العلم، ولا يشترط في قام الحجّة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان والقبلة والانقياد لما جاء به الرسول) .
خامساً: من تقوم عليه (صفة المخاطب بها):
بعد أن تكلّمنا عن صفة الحجّة وعن شروطها نتكلّم عن صفة المخاطب بها، وهو الذي تقوم عليه الحجّة ويشترط فيه الآتي:
-
القدرة على فهم الحجّة:
وهذا يقتضي سلامة الآلات التي يستطيع بها أن يصل إلى الخطاب فيفهمه، أي سلامة العقل الذي هو مناط الأهلية وهو العقل الكامل، فلا تثبت الحجّة على المجنون والصبي الذي لا يعقل، وسلامة السمع إذ به يفهم الخطاب فالأصم من الأربعة الذين يحتجّون يوم القيامة.
-
القدرة على الوصول إلى الحجّة:
فالعاجز عن الوصول إلى مكان إقامة الحجّة وهي غير متيسّرة بمحلّه ومكانه معذور مؤاخذ بمقدار ما بلغه من الحجّة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن الله يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين:
بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأمّا العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كم انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلا، وهذه أوقات الفترات) .
[ica_orginalurl]