إعداد فريق التحرير
هاجر النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة لينجو من التكذيب والشرك والعنت وليجد بيئة أوسع وأرحب وأخصب وهي بيئة المدينة المنورة. إنها يثرب التي حوت بين أرجائها مجتمعًا تعدديًا يضم من عرفوا بعد ذلك بالأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج واليهود بقبائلهم وعشائرهم المختلفة.
ولما كان هذا الموطن الجديد الحاضن للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ولدعوته تربة خصبة لرسالة الإسلام ودعوة التوحيد ولما نجحت هذه الدعوة في استقطاب أكثر أبناء الأوس والخزرج، تمنى النبي صلى الله عليه وسلم إسلام اليهود أيضا حتى تكون المدينة مجتمعا إسلاميًا خالصًا.
ولكن الله عز وجل أراد غير ذلك؛ فلم يجد منهم سوى التكذيب والعناد على غرار ما لاقاه من كفار مكة. وذلك على الرغم من محاولات التقريب والتأليف التي بدرت من النبي صلى الله عليه وسلم.
فلقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم أول دولة دينية تراعي التعددية الدينية والثقافية والعرقية وتكفل كافة الحقوق والحريات وذلك بعد كتابة صحيفة المدينة التي كانت دستورًا تعدديًا عادلًا فريدًا سبق عصره. فلم نجد له مثيلا إلا في العصر الحديث وبعد قرون طويلة من الاضطهاد والتشدد والتعصب الديني.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مجبرًا على كتابة هذه الصحيفة، فلم يكن مثل هذا التسامح مألوفا في ذلك الزمان الذي لم يعترف بمنطق الحوار ولم يعتمد إلا منطق القوة والغلبة.
وبالرغم مما تحقق لليهود من مكتسبات دينية ودنيوية، لم يكن منهم أية استجابة تذكر لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، بل ظنوا أن ما بدا من النبي تجاههم من الرفق واللين والتسامح ما هو إلا استعطاف واسترضاء لهم. ولقد فرح اليهود كثيرا بتوجه المسلمين نحو بيت المقدس واتخاذه قبلة لهم. وتوهموا أن ذلك فيه ما فيه من تبعية الإسلام والمسلمين لدينهم. وكان ذلك مما زاد من استكبارهم وتجبرهم.
وعلى الرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوجه تجاه بيت المقدس في صلاته حتى بمكة، إلا أنه كان يستقبل الكعبة أيضا في اتجاه بيت المقدس. ولكنه لما هاجر إلى المدينة، تعذر عليه الجمع بين البيت الحرام وبيت المقدس، وكان ذلك من دواعي حزنه وألمه ولوعته صلى الله عليه وسلم. فلقد كان ذلك يشعره بمرارة فراق الوطن والغربة عنه.
ولذلك، تمنى النبي صلى الله عليه وسلم التوجه إلى البيت الحرام واتخاذه قبلة تسرية له وتخفيفًا عنه ورغبة في مخالفة اليهود الذين لم يزدهم اتباعه صلى الله عليه وسلم لقبلتهم إلا استكبارا وعنادًا. فكان صلى الله عليه وسلم شديد الرغبة في إعلان استقلالية الإسلام ومخالفة اليهود من باب ردعهم وإشعارهم بضلالتهم وغيهم.
وعن ذلك، يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ{ (البقرة 144:2).
ولذلك، وجد اليهود في تحويل القبلة صفعة معنوية شديدة لهم تركتهم يشعرون بالضلال والخزي حتى أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم معاودة اتباع قبلتهم. ولذلك حذره الله تعالى من ذلك فقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة 145:2).
وعلى الرغم من أن تحويل القبلة لم يكن أمرًا هينا أو سهلا بل ترتب عليه تشكيك المشككين وتشكك المتشككين ورِدة شرذمة قليلة من ضعاف الإيمان من المسلمين، إلا أنه انطوى على مصلحة دينية ودنيوية كبيرة جدًا كان باطنها فيها الرحمة وإن كان ظاهرها من قبله العذاب. وعن ذلك يقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} (البقرة 143:2).
فلقد كان المجتمع الإسلامي في طور التأسيس والبناء وكان في حاجة ماسة إلى إجراء تغييرات عديدة وتدرجات مرحلية جسيمة لم تكن لتتأتى بدون تطعيم أو لقاح قوي يكسب هذا المجتمع الناشئ مناعة ضد الاهتزاز والتذبذب ويمنحه وضوح الهدف والمقصد ويميز في نفس الوقت الخبيث من الطيب.
تجدر الإشارة إلى أن ما نزل من الوحي بمكة اقتصر في مجمله على الدعوة إلى التوحيد ولم تكن تشريعات الإسلام قد أرسيت في مكة ولذلك لم يعهد المسلمون الأوائل النسخ أو التغيير أو التبديل وإنما نزلت معظم التشريعات الإسلامية في المدينة. وتطلب التدرج في التشريع نسخ بعض التشريعات وإحلالها بأخرى.
ولقد كانت حادثة تحويل القبلة أول حالة نسخ في التشريع الإسلامي وفي القرآن الكريم. وانكشف بعدها أهل النفاق والزيغ وعلى إثرها أصبح المجتمع الإسلامي مجتمعا قويا منيعا مستعدا لما قد يعرض له من التغيير والتعديل والتدرج في التشريع.
فها هي القبلة التي يتوجه إليها المسلمون خمس مرات في اليوم والليلة على الأقل والتي تعد وجهتها أقدس الوجهات في عيون المسلمين الأوائل قد تحولت وتغيرت وتبدلت. وهكذا، أصبح أمر النسخ والتبديل والتدرج سائغا مقبولا لدى عموم المسلمين. وهو الأمر الذي مهد بعد ذلك الطريق للتشريعات المتدرجة مثل الربا والخمر وغيرهما. فما كانت هذه التشريعات لتؤتي ثمارها إلا بعد تلقي التطعيم واللقاح المتمثل في تحويل القبلة والذي أكسب جمهور المسلمين مناعة ضد الشك والريبة والتذبذب.
ولقد نزلت آيات القرآن الكريم لتؤكد أن الله تعالى لا يكترث بوجهة القبلة شرقا أو غربا أو شمالا أو جنوبا، فكل هذه الاتجاهات لا تخرج عن ملكوت الله سبحانه وتعالى، ولا تؤثر وجهة القبلة على الصلاة فهي عمل قلبي بدليل قبول صلاة من قضى نحبه من مسلمي الرعيل الأول الذين لم يدركوا تحويل القبلة. وعن ذلك، يقول الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة 142:2).
ويقول تعالى أيضا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (البقرة 143:2).
وهكذا كانت حادثة تحويل القبلة تكريسا لقدسية الله تعالى وحده وتقديما لها على قدسية الأماكن مهما كانت. وذلك مما تفرد به المسلمون وتميزوا به عن أتباع الرسالات السماوية السابقة. ففي الإسلام تكون القدسية لله تعالى وحده وما أمرنا سبحانه وتعالى بتقديسه من المساجد والأماكن المعروفة والتي تستمد قدسيتها من قدسيته تعالى. فلا تعلو قدسية ذلك على قدسية صاحب القداسة جل في علاه. ومن هنا جاءت وسطية الإسلام! فهي اعتدال بين تقديس الإنسان وتقديس المكان حتى لا تظل قدسية إلا لله وحده. يقول تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 115:2).
[ica_orginalurl]