كان الصحابة كما أثر عنهم أحسن الناس تلقيا حيث كان منهم من لا يجاوز عشر آيات حتى يعلم ما فيها من العلم و العمل، فإذا علمت أن العمل بالكتاب تُفَصِّله السنة و تُبينه علمت أن الصحابة تعلموا الكتاب و السنة معا جنبا إلى جنب، لا يستغي أحدهما عن الآخر، تعلما متأنيا متدرجا يرسخ في الفؤاد رسوخ الجبال الرواسي…
(مقتطف من المقال)
فهد مولاطو
تناول الجزء الأول والثاني من هذه السلسلة الحديث عن أهمية السنة النبوية المطهرة.. وعن أنها المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، و أنها لا غنى للمسلمين عنها لفهم كتاب الله تعالى.. ثم كان البدء بالحديث عن المرحلة الأولى من مراحل جمع السنة النبوية.. والتي تمت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النبي وصحابته.
ب. باب صفات الصحابة و مظاهر عنايتهم بالسنة
-
الأمة الأمية
لقد كان من صفات العرب قبل الإسلام أنهم قوم أميون معظمهم لا يجيد الكتابة وتعاطي العلوم السائدة آنذاك من فلسفة وفلك و رياضيات و هندسة و طب، و كان جل ما يجيدونه البيان و حسن الكلام نثرا و شعرا حتى كانوا يعقدون المجالس للتباري فيه في أسواقهم و مجامعهم كعكاظ و ذي المجاز، و قد كان خلوهم من تلك العلوم سببا هيأهم للتجرد لتلقي الوحي من قرآن و سنة دون أن يخلطوا معهما غيرهما مما ساهم في حفظ هذا الدين و فهمه و تبليغه.
-
الأمة الحافظة
كان العرب قوما ديدنهم حفظ القصائد الطوال و ترديدها في المحافل العظام، فقلما تجد وجيها من وجهائهم إلا و ألفيته يحفظ عشرات بل مئات الأبيات الشعرية التي كانت الوسيلة المتبعة عندهم لتناقل الأنساب و الأحداث و الأمجاد، حتى لإنك تجد الجواري الصغار لهن نصيب من ذلك، جاء في الصحيح أن جوارٍ كُنَّ يتغنين بما تقاولت الأنصار يوم بعاث عند عائشة رضي الله عنها و رسول الله في البيت.
-
الأمة الصادقة
كان من خصائص العرب آنذاك الأنفة من الكذب و إن كان يخدم أغراضهم و مصالحهم كما لم يَجْسُرْ أبو سفيان بن حرب على الكذب عليه صلى الله عليه و سلم عند هرقل عظيم الروم في وقته عندما كان يستخبره عن رسول الله و صفاته و دعوته، فصدقه أبو سفيان على مضض و قال لولا أن يُؤْثَرَ علي الكذبُ لَكذبتُ… فإن أَضفتَ إلى ذلك تحذيره صلى الله عليه و سلم إياهم من الكذب عليه و توعده بالعذاب من فعل ذلك متعمدا مع خوف الافتضاح حيث كان غالبا ما يحضر كل خطبةٍ و تعليمٍ طائفةٌ من الصحابة، علمتَ أنه لما أمرهم بتبليغ دينه و نشره كانوا أبعد الناس عن الكذب و ألزمهم للصدق و الأمانة.
-
حبه و تعظيمه صلى الله عليه و سلم
كان رسول الله أحب الخلق إلى الصحابة و من اطلع على سيرة القوم رأى العجب من أمثلة الحب، و خذ مثالا يدلك على ما وراءه، هذه قصة زيد بن الدثنة، عندما ابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم، وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك؟، قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا، فلينظر أحدنا إلى هذا الموقف و ليقف مع نفسه و ليَقِسْ حبه له صلى الله عليه وسلم بحب هذا الصحابي الجليل، ثم ليزن هذا الحب بميزان الاتباع، و ليعلم قدر نفسه و ليعلم للصحابة قدرهم و سبقهم .
و كان رسول الله أهيب الناس إليهم حتى قال عمرو بن العاص ما ملأت عيني من رسول الله هيبة له، و ها هو عروة بن مسعود الثقفي يفد عليه مفاوضا عام الحديبية قبل أن يسلم، فيرسلها شهادة للتاريخ فيقول “أيُّ قومٍ! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا. كل هذا الحب والتعظيم كان سببا لتتبعهم أحواله صلى الله عيه وسلم من جهة، ومن جهة أخرى وازعا يزعهم عن الكذب عليه.
-
ورعهم و تقواهم
كان صحابة رسول الله خير الناس حيث مثلوا خير قرن كما جاء في حديث خير الناس قرني، قوم هجروا الأهل و المال و الوطن نصرة لله و رسوله، و من أراد أن يملأ قلبه حبا و إجلالا لأولئك العظام فما عليه إلا أن يطالع بعض سيرهم و أخبارهم و جهادهم، قوم ما زادتهم الزلزلة الشديدة إلا إيمانا و تسليما كما وصفهم ربهم، فإن علمت بعد ذلك أنهم كانوا يرون تبليغ السنة دينا و عبادة حتى كان عدد منهم يهاب فيترك الرواية عنه تورعا مخافة الخطأ في التبليغ و لو لم يكن متعمدا، علمت أنهم كانوا أشد الناس احتراسا في التبليغ و مبالغة في النصح و التدقيق. و قد قال أبو هريرة لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم، ثم قرأ “إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (البقرة:174).
-
حُسن التلقي
كان الصحابة كما أثر عنهم أحسن الناس تلقيا حيث كان منهم من لا يجاوز عشر آيات حتى يعلم ما فيها من العلم و العمل، فإذا علمت أن العمل بالكتاب تُفَصِّله السنة و تُبينه علمت أن الصحابة تعلموا الكتاب و السنة معا جنبا إلى جنب، لا يستغي أحدهما عن الآخر، تعلما متأنيا متدرجا يرسخ في الفؤاد رسوخ الجبال الرواسي.
-
الحرص على حضور مجالسه صلى الله عليه وسلم
حرص الصحابة على حضور السنن حيث كان أحدهم يتناوب الحضور لمجالسه صلى الله عليه و سلم مع جاره هذا يحضر يوما و هذا آخر ثم يخبر الذي حضر الذي غاب بما استحدث من السنن لكي لا يغيب عليهم منها شيء كما جاء في الصحيحين من فعل عمر رضي الله عنه مع جاره.
و كذا حرص بعضهم على التفرغ لحضور كل مجالسه صلى الله عليه و سلم حيث جاء في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: كنت رجلا مسكينا أخدم رسول الله صلى الله عليه و سلم على ملء بطني و كان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق و كانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم.. ثم قال: فأحضر اذا غابوا و أحفظ اذا نسوا.
-
التناقل والتبليغ
لقد حرص الصحابة على تبليغ السنن حتى في عهده صلى الله عليه و سلم، و أمثلته كثيرة جدا جدا لمن تتبعها، فكل من عَلَّم أحدا الصلاة لا بد و أن يستعين بالسنة، و كل من علم الزكاة كذلك إلى آخر الشعائر الأخرى، فقد بدأ هذا التبليغ حتى قبل الهجرة عندما بعث رسول الله سفراءه إلى المدينة ليعلموا أهلها الإسلام كمصعب بن عمير و عمار بن ياسر. و ها هو صلى الله عليه و سلم يبعث بعض أصحابه إلى الأمصار ليعلم الناس السنن من مثل أبي عبيدة و معاذ و أبي موسى، و ها هو عمر مع جاره يبلغ كل منهما ما غاب عن الآخر كما مر.
-
السؤال عن السنن و التثبت
كان الصحابة من أحرص الناس سؤالا لرسول الله صلى الله عليه و سلم عما لم يعلموا، فكان أحدهم يسأل عن الخير، و الآخر عن الشر مخافة أن يقع فيه، و الآخر متخصص في الفتن، و الآخر في الفرائض و هكذا. فكانوا كلما عَنَّ لهم فهمُ شيءٍ أو أرادوا التثبت من شيء سألوا عنه، خذ مثالين يدلان على غيرهما، ها هو أبو هريرة يسأل عن السكتة في الصلاة ما يقول فيها رسول الله و لِمَ يسكتها، و ها هو سراقة يسأل عن إحلالهم و هم معه صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع أهو لعامهم ذاك فحسب أم لأبد الأبد، و ها هي أم المؤمنين أم سلمة لا تنتظر برسول الله حتى يفرغ من صلاته التي صلاها في بيتها بعد العصر على غير عادته لتسأله، بل ترسل جاريتها إلى رسول الله بأبي هو و أمي و هو في صلاته لتستخبره عنها. و أمثلة هذا الباب كثيرة جدا جدا، و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على حرصهم على فهم الدين و تحققه عبر جواباته صلى الله عليه و سلم و تفسيراته التي ما هي إﻻ ما نطلق عليه (السنة).
-
كتابة السنن
كان لبعض الصحابة كتب نسخوا فيها بعص السنن لحفظها، فها هو عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل ما سمع من رسول الله كما مر، وها هو علي يقول أن له صحيفة عن رسول الله فيها العقل أي الديات كما هو مخرج في البخاري، و ها هو كتاب أبي بكر في مقادير الزكاة كما هو مخرج في البخاري كذلك، و هذه الأمثلة تدل على أقل تقدير أن أمر الكتابة كان موجودا مشهورا و إن لم يكن فاشيا.
المصدر: بتصرف عن موقع مركز يقين
[ica_orginalurl]