الوعظ من الأبواب العظيمة في مقام الدعوة إلى الله، والخلق بحاجة ماسة إليه؛ لكثرة انشغالهم بالدنيا وإعراضهم عن الآخرة، وقسوة قلوبهم، وما يعرض لهم من فتور وضعف في الإيمان، وتفريطهم فيما افترض الله عليهم، وجهلهم لشرائع الدين، فالواعظ يذكرهم بالله، ويجدد عهدهم به، ويحيي القلوب بذكره، ويبصرهم بمواطن الخلل في نفوسهم، ويحررهم من رق الشيطان وعبودية الدنيا.
وقد تولى الله الموعظة بنفسه فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ به} [البقرة: 231]، وقال: {إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58]، وقال: {يَعِظُكُمْ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} [النور: 17]، وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]، وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء: 66]، وقال: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]، وقال: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً} [الأعراف: 145]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57]، وقال: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]، وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، وقال: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63].
والقول البليغ صفة للوعظ، فأمر تعالى بالوعظ، ثم أمر أن يكون ذلك الوعظ بالقول البليغ، وهو أن يكون كلامًا بليغًا طويلًا حسن الألفاظ حسن المعاني، مشتملًا على الترغيب والترهيب والإحذار والإنذار والثواب والعقاب، فإن الكلام إذا كان هكذا عظم وقعه في القلب، وإذا كان مختصرًا ركيك اللفظ قليل المعنى لم يؤثر ألبتة في القلب (1).
والوعظ هو زجر مقترن بتخويف ونصح وتذكير بالعواقب، قال الخليل: الوعظ التذكير بالخير فيما يرق له القلب (2).
قال محمد رشيد رضا: الوعظ: النصح والتذكير بالخير والحق على الوجه الذي يرق له القلب ويبعث على العمل; أي: ذلك الذي تقدم من الأحكام والحدود المقرونة بالحكم، والترغيب والترهيب يوعظ به أهل الإيمان بالله والجزاء على الأعمال في الآخرة; فإن هؤلاء هم الذين يتقبلونه ويتعظون به فتخشع له قلوبهم، ويتحرون العمل به قبولًا لتأديب ربهم، وطلبًا للانتفاع به في الدنيا، ورجاء في مثوبته ورضوانه في الأخرى (3).
وقد عني النبي صلى الله عليه وسلم بالموعظة عناية فائقة، وأكثر من استعمالها في مناسبات عامة وخاصة، قال العرباض بن سارية: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقيل يا رسول الله: وعظتنا موعظة مودع، فاعهد إلينا بعهد، فقال: «عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًا، وسترون من بعدي اختلافًا شديدًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة» (4).
وعن أبي وائل، قال: كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم؟ قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها، مخافة السآمة علينا (5).
وكان الحسن إذا قص القاص لم يتكلم، فقيل له في ذلك، فقال: إجلالًا لذكر الله عز وجل (6)، وقال أيضًا: القصص بدعة ونعمت البدعة، كم من دعوة مستجابة، وسؤال معطى، وأخ مستفاد، وعلم يصاب (7).
وإنما عنى هؤلاء بأنه بدعة الهيئة الاجتماعية عليه في وقت معين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له وقت معين يقص على أصحابه فيه غير خطبته الراتبة في الجمع والأعياد، وإنما كان يذكرهم أحيانًا، أو عند حدوث أمر يحتاج إلى التذكير عنده، ثم إن الصحابة اجتمعوا على تعيين وقت له كما سبق عن ابن مسعود أنه كان يذكر أصحابه كل يوم خميس (8).
وللوعظ فوائد عظيمة :
زجر العاصي والفاجر، وتذكير الغافل، وتجديد الإيمان، وتحريكه في النفوس، وتثبيت المهتدي بالله، وتعريف الخلق بالخالق، وتبصير الناس بشرائع الإسلام وحدوده، وكشف مكائد الشيطان وأعوانه من الإنس والجن وجهودهم في إغواء الأمة وإخفاء نور الملة.
وينبغي أن يكون خطاب الوعظ معتمدًا على الكتاب والسنة وأقوال العلماء الموثوق بهم، فإنه يقبح بالواعظ أن تخلو موعظته من آي القرآن وحديث النبى صلى الله عليه وسلم، وتكون مجرد خواطر وأفكار وقصص، وما وعظ الإنسان بشيء أنفع من القرآن والسنة.
وثمة أخطاء شائعة في الوعظ :
1- الوعظ في أوقات غير مناسبة للناس؛ كشدة المناخ، أو شغل الناس وغيره، وكذلك الوعظ في أماكن غير مناسبة؛ كسرادق العزاء، والمآتم، والمواسم البدعية والموالد الشركية.
2- الإطالة في الوعظ لغير داع أو ضرورة، فإن السنة التقصير إلا لشيء عارض.
3- تشتيت الذهن بالإكثار من المواضيع في الموعظة الواحدة، مع سرعة الانتقال بينها؛ مما يشوش على السامع ويجعل الفكرة غير واضحة .
4- الاعتماد على الأحاديث المنكرة والأخبار الواهية.
5- التوسع في القصص الغريبة والمبالغة في ذكرها.
من فقه الواعظ
ومن فقه الواعظ أن يجمع بين أسلوب الترغيب والترهيب في موعظته، فلا يقتصر على الترهيب فيقنط الناس من رحمة الله، ولا يقتصر على الترغيب فيؤمن الناس من عذاب الله ومكره، وأن يراعي أحوال السامعين، فإن كان الغالب عليهم التقصير والغفلة غلب جانب الوعيد والخوف من عذاب الله وغضبه، وإن كان الغالب عليهم الصلاح والاستقامة غلّب جانب الوعد والرجاء، وليس من الفقه ذكر أحاديث الرجاء والنعيم عند قوم أسرفوا على أنفسهم؛ فيحملهم ذلك على الاجتراء على محارم الله والوقوع في الغرور والأماني الكاذبة، وهذا من مسالك المرجئة لا كثرهم الله ووقى الأمة شرهم.
ومن فقه الواعظ أن يعلم الفرق العظيم بين العالم الفقيه والواعظ، فليس كل من امتطى المنبر ووعظ فأبكى صار فقيهًا عالمًا بالحلال والحرام، فالواجب على الواعظ مراعاة هذا الأصل، وأن يوقن أنه ليس من اختصاصه الإفتاء، وإذا سئل عن مسألة لم يتكلم فيها إلا إذا كان ناقلًا لكلام أهل العلم ضابطًا له، ولا ينبغي له أن يغتر بما حصل له من الشهرة وكثرة الأتباع فيتجرأ على الفتوى، ويعظم الأمر إذا تكلم في مسائل الأمة والنوازل فيضل الناس ويوقعهم في حرج عظيم، وليعلم أن إمساكه عن الكلام لا يحط من قدره؛ بل يرفع منزلته عند الله ويعلى قدره عند الخلق.
ومن فقه الواعظ أن يتوخى الوعظ في المناسبات المهمة، ويتفقد حوائج الناس واهتماماتهم؛ فيعظهم ويذكرهم، فقد كان رسول الله حريصًا على إيصال الخير لهم في كل مناسبة مهمة ولا يفوت فرصة، وعظهم في الجهاد عند التحام الصفوف، وعند القبر قبل الدفن، وعند رؤيته الفقراء والمحتاجين، وغير ذلك مما يحتاجه الناس ويعرض لهم من النوازل، كل ذلك ثابت في السنة.
كما ينبغي على الواعظ أن يكون حريصًا في وعظه على جمع الكلمة على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتأليف القلوب وحث الناس على لزوم الجماعة، والإصلاح بين الراعي والرعية، وكل ما يحقق ذلك، كما كان أئمة السنة يعتنون بذلك، وهو دليل على بصيرة الواعظ وكمال نصحه للأمة.
ويجب على الوعاظ أن يرشدوا الناس إلى العلم ويدلوهم على أهله ويرغبونهم في التفقه في الدين ولا يصرفونهم عنه (9).
قال أبو قلابة: ما أمات العلم إلا القصاص، يجالس الرجل القاص سنة فلا يعلق منه شيء، ويجالس العالم فلا يقوم حتى يتعلق منه شيء، وفي الحديث: «إن بني إسرائيل لما هلكوا قصوا» (10).
وقال الألباني: ومن الممكن أن يقال: إن سبب هلاكهم اهتمام وعاظهم بالقصص والحكايات، دون الفقه والعلم النافع الذي يعرف الناس بدينهم، فيحملهم ذلك على العمل الصالح، فلما فعلوا ذلك هلكوا، وهذا هو شأن كثير من قصاص زماننا، الذين جل كلامهم في وعظهم حول الإسرائيليات، والرقائق (11).
وإلقاء الموعظة ارتجالًا من أهم الأساليب المؤثرة على السامعين، ولا يحصل لهم ملل ولا سآمة، واذا كان الواعظ يرفع صوته ويحرك يده، ويتفاعل مع الكلام؛ تأثر السامع بموعظته، روى مسلم عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: «صبحكم ومساكم»، ويقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين»، ويقرن بين إصبعيه السبابة، والوسطى، ويقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»، ثم يقول: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالًا فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإلي وعلي» (12).
وإذا نبع الكلام من القلب لامس شغاف القلوب وخالطها، وإذا لم يخرج من القلب لم يصل إلى القلب، وصار وبالًا على صاحبه.
وقد وردت آثار كثيرة عن السلف في ذم الوعاظ والقصاص ومرادهم بذلك طائفة من الوعاظ كان يغلب عليهم الجهل ومخالفة السنة، وحكاية الأحاديث الموضوعة والأخبار المنكرة، وإشاعة البدعة وإشغال الناس بالغرائب، ولا يزال هذا الصنف موجود في زماننا، أما من وعظ بعلم واهتدى بهدى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد وافق الشرع، وقام بعمل عظيم من أبواب الجهاد، وأبرأ الذمة، ورفع الحرج عن الأمة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال الإمام أحمد بن حنبل: ما أحوج الناس إلى قاص صدوق (13)؛ لأنهم يذكرون الموت وعذاب القبر، ما أنفعهم للعامة وإن كان عامة ما يتحدثون به كذبًا (14).
ومن فتح له في باب الوعظ فليستعن بالله، وليغتنم عمره، وليقبل على هذا العمل الجليل ولا يكسل، وليحذر تخذيل الشيطان ومداخله؛ فإن الشيطان -لعنه الله- له مداخل كثيرة على العامل تعوقه عن العمل، من أخطرها أن يوسوس له بقوله: كيف تعظ الناس وتذكرهم وأنت مفرط في العمل مقصر في ذات الله واقع في الذنوب؟
وهذا باطل لا ينطلي على أهل البصيرة، فتقصير العبد لا ينافي مشاركته في الوعظ ولا يسقطه عنه، فلا يترك الخير لأجل بعض الذنوب؛ لأنه لا أحد يسلم من هذا، ولو ترك ذلك لعم الشر وذهب الخير واندرس الإسلام والله المستعان .
ويجب على الواعظ أن يراعي تحقيق مراد الله ورسوله في خطابه ووعظه، والسعي في إصلاح أديان الناس وتعبيدهم لله، ولا يكون همه إرضاء الناس وإلقاء ما يوافق أهوائهم ويطربهم، فإن العامة في كل عصر يولعون بسماع الغرائب والعجائب والخرافات والمضحكات، ويكرهون سماع الحق وتقويمهم، فلا يكترث لهم ولا يفرح بسوادهم، وليجعل رضا الله نصب عينيه.
ومن أعظم الفتن التي تعرض للواعظ أن يقصد بعمله الشهرة، أو يجعل الوعظ مطية يتكسب به ويتطلع لما في أيدي الناس، ويسعى للحصول على الجاه والمنصب، وقد نهى السلف عن ذلك أشد النهي.
أما إذا أحسن القصد واتقى الله ثم حصل له ثناء حسن فلا يضره ذلك ولا ينقص من أجره.
واللائق بالواعظ أن يتحلى بالورع، وتكون هيئته السكينة والوقار، وزيه زي الصالحين، ويتجافى عن الدنيا، وألا يخالف فعله قوله، وكل واعظ ليس عليه سيما الصلاح قل أن ينفع الله به ويتأثر به الناس.
مواعظ الواعظ لن تقبلا حتى يعيها قلبه أولًا
يا قوم من أظلم من واعظ خالف ما قد قاله في الملا
أظهر بين الناس إحسانه وبارز الرحمان لما خلا
قال الرازي: إن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة وتحذيره عما يوقعه في المفسدة، والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير، وذلك معلوم بشواهد العقل والنقل، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل؛ فلهذا قال: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
الثاني: أن من وعظ الناس وأظهر علمه للخلق ثم لم يتعظ صار ذلك الوعظ سببًا لرغبة الناس في المعصية؛ لأن الناس يقولون إنه مع هذا العلم لولا أنه مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات؛ وإلا لما أقدم على المعصية، فيصير هذا داعيًا لهم إلى التهاون بالدين والجراءة على المعصية، فإذا كان غرض الواعظ الزجر عن المعصية ثم أتى بفعل يوجب الجراءة على المعصية فكأنه جمع بين المتناقضين، وذلك لا يليق بأفعال العقلاء، فلهذا قال: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
الثالث: أن من وعظ فلا بد أن يجتهد في أن يصير وعظه نافذًا في القلوب، والإقدام على المعصية مما ينفر القلوب عن القبول، فمن وعظ كان غرضه أن يصير وعظه مؤثرًا في القلوب، ومن عصى كان غرضه أن لا يصير وعظه مؤثرًا في القلوب، فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء، ولهذا قال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك (15).
وهذا أسلوب حكيم في الوعظ، فينبغي لكل واعظ أن يبدأ وعظه بإحياء إحساس الشرف وشعور الكرامة في نفوس الموعوظين لتستعد بذلك لقبول الموعظة (وتجد من ذلك الإحساس معونة من العزيمة الصادقة التي هي من خصائص النفوس الكريمة على عوامل الهوى والشهوة، فإن النفس إذا استشعرت كرامتها وعلوها إلى ما في الرذائل من الخسة أبى لها ذلك الشعور -شعور العلو والرفعة- أن تنحط إلى تعاطي تلك الخسائس، وكان ذلك من أقوى الوسائل لمساعدة الواعظ على بلوغ قصده من نفس من يوجه إليه وعظه، ثم إن في الوعظ ما يؤلم نفس الموعوظ، وحرجًا يكاد يحملها على النفرة من تلقينه، والاستنكاف من سماعه، فذكر الواعظ لما يشعر بكرامة المخاطب ورفعة شأنه، وإباء ما ينمي إليه من الشرف أن يدوم على مثل ما يقترف يقبل بالنفس على القبول، كما يقبل الجريح على من يضمد جراحه ويسكن آلامه (16).
ضابط الموعظة:
يذكر الشيخ الشنقيطي أن هناك ضابطًا للوعظ فيقول: هو الكلام الذي تلين له القلوب، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامر ربهم ونواهيه، فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله، وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله، وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه، وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه، فحداهم حادي الخوف والطمع إلى الإمتثال، فلانت قلوبهم للطاعة خوفًا وطمعًا (17).
العلاقة بين الموعظة والدعوة:
يذكر الدكتور العمار: أن هناك علاقة بين الموعظة والدعوة فيقول: إن الموعظة إحدى تطبيقات الدعوة وممارساتها العملية، فالموعظة جزء من الدعوة (18).
فالوعظ أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله تعالى، ولا يستغنى عنه بحال، وكان الوعظ جزءًا من مهمة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام الذين بعثهم الله تعالى مبشرين ومنذرين؛ لأن الواعظ يهدف إلى غاية سامية في دعوته بهداية الناس، ودلالتهم إلى الخير.
ضابط الإحسان في الموعظة:
قيَدت الموعظة في القرآن الكريم بوصف الإحسان، حيث قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].
وصف الموعظة بالحسن دون الحكمة؛ لأن الموعظة ربما آلت إلى القبح، بأن وقعت في غير موضعها ووقتها.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا (19)، فأما الحكمة فحسنة أينما وجدت؛ إذ هي عبارة عن القول الصواب، والفعل الصواب (20).
وقال ابن القيم: أطلق الحكمة ولم يقيّدها بوصف الحسنة إذ كلها حسنة، ووصف الحسن لها ذاتي.
وأما الموعظة فقيّدها بوصف الإحسان، إذ ليس كل موعظة حسنة (21).
فالحسنة: مقابل السيئة، فالموعظة قد تكون حسنة، وقد تكون سيئة، وذلك بحسب ما يعظ به الإنسان ويأمر به، وبحسب أسلوب الواعظ، ومن هنا جاء الأمر بها مقيَّدًا في القرآن الكريم، قال تعالى: {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].
فإذا أطلقت الموعظة في مقام الأمر بها، انصرفت إلى الحسنة، قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] (22).
* بتصرف يسير من موقع تيار الإصلاح
_________________
(1) مفاتيح الغيب (10/ 124).
(2) تفسير القرطبي (1/ 444).
(3) تفسير المنار (2/ 321).
(4) أخرجه ابن ماجه (42).
(5) أخرجه البخاري (70).
(6) الصمت لابن أبي الدنيا (ص: 307).
(7) جامع العلوم والحكم (2/ 129).
(8) المرجع السابق (2/ 130).
(9) فقه الوعظ – صيد الفوائد.
(10) صحيح الجامع (2045).
(11) السلسلة الصحيحة (1681).
(12) أخرجه مسلم (867).
(13) تلبيس إبليس (ص: 111).
(14) الآداب الشرعية (2/ 159).
(15) مفاتيح الغيب (3/ 488).
(16) تفسير المنار (1/ 251).
(17) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/ 438).
(18) الدعوة (ص: 29).
(19) أخرجه البخاري (6048).
(20) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي (1/ 25).
(21) مدارج السالكين (1/ 445).
(22) المدخل إلى علم الدعوة (ص: 258).
[ica_orginalurl]