د. محمد مورو
سؤال الإنسانية الدائم: ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به، ويحقق لها حياة مستقرة هانئة؟! وبديهي أن إجابة السؤال بالنسبة للمؤمنين بالله هو أن الله هو الذي خلق الإنسان، ويعلم ما يصلحه وما يفسده، ومن ثَمَّ فإن القواعد التي وضحها الله تعالى وأرشد بها الإنسان، هي التي تحقق ذلك الهدف.
وبما أن الإسلام هو دين الله الحق، وبما أن الرسول هو النبي الخاتم، فإن النظام الإسلامي وحده هو الذي يحقق ذلك، ولكن هذا في حد ذاته ليس حلاًّ نهائيًّا؛ فالنظام الإسلامي يطبقه بشر، ثم إن مستوى ارتفاع هذا البشر إلى مستوى النظرية هو شرط تحقيق ذلك، وهذه الشروط بدورها موجودة في كل النظم، فالنظم كلها يطبقها بشر، ومن ثَم فإن من الممكن أن يحسنوا التطبيق أو لا يحسنوه، سواء كان النظام المطبق ربانيًّا أو وضعيًّا. ونخلص من هذا أن النظام الوضعي والنظام الرباني يتساويان في شرط التطبيق، ولكن للنظام الرباني فضل لا شك فيه بالنسبة للنظرية.
من زاوية أخرى، فإن الخبرات البشرية ذاتها ومن خلال تجارب وقعت في التاريخ القديم والحديث والمعاصر تقول إن النظم الوضعية فشلت في الأمرين معًا، في النظرية والتطبيق على حد سواء، بل لقد عانت البشرية معاناة هائلة بسبب تطبيق النظم الكسروية والهرقلية، بل والديمقراطية والاشتراكية والفاشية والنازية والشيوعية، بل إن مستوى المعاناة كان بشعًا؛ ففي ظل تلك الأنظمة -وبالذات الديمقراطية منها- حدثت إبادة لشعوب الأمريكتين وأستراليا، وحدثت مذابح في معظم أرجاء العالم نفذها الرجل الأبيض، ونشأت الصهيونية ثم (دولة إسرائيل)، وهي حالة تجسيم للظلم على مستوى اغتصاب حقوق شعب وأرض، وعلى مستوى انتهاك حقوق الإنسان بصورة يومية وعلى مدار الساعة لعشرات السنين تحت سمع العالم وبصره.
والديمقراطية هي التي استخدمت القنبلة الذرية في الحرب العالمية الثانية، وهي التي مارست نهب العالم، ولا تزال قوات الدول الديمقراطية تنتهك سيادة الشعوب في العراق وأفغانستان وفلسطين… إلخ، أضف إلى ذلك إفساد البيئة واستنزاف ثروات الأرض… إلخ.
والمحصلة أن هناك شقاء لا شك فيه ترتب على تطبيق تلك النظم، شقاء جماعي… أما في التطبيق الإسلامي فإن المسألة مختلفة، صحيح أن هناك تجاوزات، ولكنها تجاوزات فردية لا ترقى إلى تشكيل ظاهرة، وهي مرفوضة طبعًا. أي إننا لو قارنا بين مستوى السعادة في ظل الحضارة الإسلامية ومستواها في الحضارات الأخرى -وخاصة الغربية- نجد أنه لصالح الحضارة الإسلامية بامتياز، ونحن هنا نتكلم عن الظاهرة في مجراها الرئيسي، أو في المحصلة النهائية. ونكرر أن هناك استثناءات ولكنها لا تخرق القاعدة، هناك استثناءات إيجابية في الحضارات الأخرى، وهناك استثناءات سلبية في التطبيق الحضاري الإسلامي، ولكن تظل القاعدة هي نفسها.
خصائص النظام الإسلامي
وبديهي أن النظام الإسلامي به من الاتساع والمرونة ما يسمح بالاستفادة أيضًا من الخبرات الإيجابية للتجارب الأخرى، وهذا لا يخالف الشرع الحنيف، بل هو فريضة أوجبتها الشريعة الإسلامية ذاتها؛ فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
الحديث عن الحرية في الإسلام، وحرية التعبير، ليس حديثًا عن النظام السياسي الإسلامي فقط، بل هو حديث يتصل بمنهج الإسلام ذاته؛ لأن الحرية في المنهج الإسلامي غاية ووسيلة في نفس الوقت، فلا إيمان بدون حرية، ولا إكراه على الإيمان، ولا إكراه أيضًا على الكفر، وبالنسبة لنا -نحن المسلمين- فإننا نؤمن أن الإسلام في فطرة الناس، إذن لو تنافس الناس بحرية، لو لم يكن هناك قهر ولا عسف، لو لم يكن هناك تعصب مسبق لأي شيء لأصبح الإيمان سهلا جدًّا.
ولعل هذا واجب أمة الإسلام، واجبها القضاء على الاستبداد السياسي والظلم الاقتصادي والتعصب، وإعطاء الناس حرية الاختيار، وفي تلك الحالة فإن الناس تختار الإسلام لأنه دين الفطرة، وحتى لو لم يختاروه فهم أحرار؛ إذ لا إكراه في الدين. المهم أن أحد مهام الأمة الإسلامية هو تحقيق حرية الاختيار، وإزالة كل العوائق التي تحول دون ذلك.
ومن نافلة القول أن الجهاد في الإسلام في أحد أهدافه هو إزالة الأنظمة الاستبدادية التي تقهر الناس على الكفر، وتحقيق حرية الدعوة، فإذا تحققت حرية الدعوة بدون عقبات فلا داعي أصلاً للقتال.
وهكذا فالحرية هي في صميم المنهج الإسلامي من ناحية إقامة الحجة على الناس بتحقيق حرية الاختيار حتى يختار الناس الإسلام أو الكفر بحرية، وحتى يتناقشوا ويتحاوروا بدون ضغوط.
الحرية أيضًا -ومن ثم حرية التعبير والتفكير- تظهر في تصور الإسلام للإنسان واستخلافه في الأرض، ودوره فيها، وحمله للأمانة، ثم وجود نوازع للخير وللشر في نفسه. وهكذا فإن ذلك لا يتسق مع بعضه البعض بدون أن يكون ذلك الإنسان حرًّا، فلا معنى لأن يكون الإنسان خليفة مسئولاً مكلفًا بدون هذه الحرية بكل أنواعها. على أن من المهم هنا أن نحدد أن الإنسان يتكوّن من كيان مادي وروح وعقل، والروح خارج إطار فهمنا، والكيان المادي خاضع لقوانين وسنن المادة التي جعلها الله عليها.
ويبقى أن الحرية منوطة بالعقل الذي يتميز به الإنسان على سائر المخلوقات، فالإنسان مسيَّر فيما يخص الجزء المادي من تكوينه، ولكنه مخيَّر فيما هو متاح له من خير أو شر “ضمن مشيئة الله الكلية طبعًا”، ويختار بين الخير والشر بعقله، ومن ثم فلا مسئولية على المجنون أو الصغير أو المكره، وهو مسئول عن اختياره ويحاسب عليه يوم القيامة، فضلاً عن وجود الجزاء الدنيوي.
وهكذا فالحرية هنا شرط لازم لتكليف الإنسان، وحمله للأمانة، ومسئوليته عن أعماله وأقواله.
وإذا كان ذلك شأن الإنسان حسب التصور الإسلامي، فإن النظام الإسلامي ككل يؤكد ويساعد ويحقق تلك الحرية؛ فنظام الشورى في الإسلام يحقق أوسع مناطق تلك الحرية، وكذا فإن النظام الاجتماعي الإسلامي يحقق الإشباع المادي لكل إنسان حتى لا تكون الحاجة حائلاً دون حرية التفكير والتدبير، والنظام الاجتماعي الإسلامي بما فيه من تحقيق للعدل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، النقد والنقد الذاتي، طلب العلم، كلها تحقق تلك الحرية.
فالعلم مثلاً يزيد مساحة الوعي، ومن ثم القدرة على حرية التعبير، والعدل يجعل الإنسان آمنًا إذا عبر عن رأيه، والنقد والنقد الذاتي هو في صميمه نوع من حرية الرأي واعتبار ذلك واجب على المسلم تجاه الإمام، وتجاه المجتمع، وتجاه أخيه المسلم، والنظام الأخلاقي الإسلامي الذي يمنع شرب الخمر والزنا والشذوذ ولعب الميسر… إلخ، كلها تقوي الإنسان والمجتمع على أداء واجب حرية التعبير.
بل حتى العبادات المباشرة كالصلاة هي نوع من الطاعة لله أولاً، ثم لتحقيق أهداف قوة النفس والبدن، وعدم الخوف إلا من الله، ومن ثم القدرة على إبداء الرأي دون خوف، وشهادة أن لا إله إلا الله، ومن ثم الشجاعة في قول الحق والصيام، فمن لم يدع قول الزور والعمل به أي في المقابل أن يصر على قول الحق والعمل به، فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه.
والحج مثلاً هو اجتماع لتبادل الرأي بين المسلمين كل عام، والزكاة هي نظام اجتماعي يحقق رفع الفقر والبطالة عن المجتمع، ومن ثم يصبح غير خاضع في رأيه إلا للحق وليس لصاحب المال أو السلطان… إلخ.
هناك أيضًا محطات ومواقف كلها تدل على الحرية عمومًا وحرية التعبير خصوصًا، وهناك وثائق تاريخية مثل وثيقة المدينة، أو خطب الرسول والخلفاء الراشدين وغيرها تشكل علامات مضيئة في تاريخ الحضارة الإسلامية، وكلها تؤكد على حرية الرأي.
على أننا يجب أن نعترف بأن أحوال المسلمين ليست على ما يرام، وأنه غاب عنهم الكثير من تلك القيم، وأن من الواجب عليهم استعادتها ليس من أجل أنفسهم فقط، فلن يتقدموا إلا بها، ولكن أيضًا من أجل تقديم نموذج حي للشعوب الأخرى، وتقديم بديل حضاري رائع للنظم السائدة حاليًا في العالم، والتي جلبت الشقاء للإنسان، وإذا استمرت يمكن أن تقود البشرية إلى كارثة.
ومن ثَم فإن التقدم بالمشروع الإسلامي واجب وضرورة لإنقاذ البشرية، وهذا واجب كل الأمة عمومًا، والعلماء منها خصوصًا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: موقع لواء الشريعة.
[ica_orginalurl]