د. مفيد خالد
الممارسة الدعوية جزء من التطبيق العملي للفقه الشرعي، وقد يكون من الصعب تصور فقيه لا يمارس العمل الدعوي، لكننا لا نتحدث عمن كانت الدعوة هامشية في حياته، لا يبذل لها إلا ما فضل من وقته وجهده وماله، ولكننا بصدد الحديث عمن كان منكسرا للعمل الدعوي، فكرس حياته وجهده ووقته وعلمه وماله لخدمة المصالح الدعوية وأهدافها ومقاصدها، وتفاعل مع الأمة فأثر فيها وتأثر بها، وبذل الوسع في تحقيق مرضاة الله في هذا الجانب.
والفقيه تتضاعف مسؤولياته الدعوية، لأنه اطلع على ما لم يطلع عليه غيره من أمر هذا الدين، وعلم مالم يعلمه غيره، فإن لم يعمل بعلمه، ولم يضطلع بالعمل الدعوي، صار علمه حجة عليه لا له أمام الله، وزل بزلته أقوام .
والدعوة مدرسة للمدعو والداعية، فكما تؤثر الدعوة في كيان الأمة وفي حاضرها ومستقبلها، تؤثر في الداعية تأثيرا إيجابيا، بل هو أولى أن يتأثر بدعوته من المدعو، لأنه يسمع كلام الله كلما تلاه، ويسمع حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم -كلما قرأه، وهو صاحب البضاعة، والمروج لها، وكلما طرح بضاعته على الناس محصها، وغذاها بالأدلة والبراهين.
ويمكن بيان أثر الممارسة الدعوية على الفقيه الممارس لها بما يلي:
1- نماء فقه الفقيه الداعية بالدعوة، وذلك لأن الناس كلما طرحوا عليه مشاكلهم، وطلبوا منه حكم الله، يدلي بدلوه فيما يعرف، وفيما لا يعرف يبحث ويفتش ويجتهد رأيه، لأنه قادر على البحث والتحقيق وتخريج المسائل، فتتنوع مسائل الفقيه، وتصبغ بالصبغة الدعوية، حيث يتحول علمه من علم نظري إلى علم تطبيقي يدور في فلك الواقع، يبحث في مشاكل العصر وهمومه، لا فقها نظريا يبحث في مشاكل العصور الغابرة، وينمو فقهه الذي يفيد الأمة ويحل مشاكلها، وتتضاءل عنده المسائل التي لا تفيد الأمة، وهذا هو الهدف الحقيقي من رسالة الإسلام، فرسول الله- صلى الله عليه وسلم -لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن، قال “كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟” قال أقضي بكتاب الله. قال “فإن لم تجد؟” قال فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال “فإن لم تجد في سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -ولا في كتاب الله؟” قال أجتهد رأيي، ولا آلو، فضرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -صدره، وقال “الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله”.
وينمو فقه الفقيه ـ أيضا ـ بملاقاة العلماء في مجال العمل الدعوي ممن هم أعلم منه أو في علمه أو دونه، فيتعلم منهم ما لم يكن يعلم، ويتولد لديه من الحافز والغبطة في العلم، ما يدفعه إلى الطلب والاجتهاد، أكثر مما لو كان منعزلا منغلقا على نفسه وكتبه ومسائله، التي لا يتبين ـ كثيرا من الأحيان ـ صوابها من خطئها إلا بالمذاكرة مع الأقران والجلوس إلى الناس.
2- الحكمة والحلم من أهم ما يكتسبه الفقيه الممارس للدعوة؛ فالتجارب الدعوية تعلم الداعية أن يضع الأمور في مواضعها، فيتعرف على عقول الناس وأمزجتهم وتوجهاتهم، فيسلك الطريق الذي لا يولد حاجزا ـ بينه وبين المدعوين ـ يحرمهم علمه، بل يتعلم كيف يخاطبهم ويسلك أصح الطرق وأقومها في إصلاحهم ودعوتهم، قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} إبراهيم 4)، وعن علي – رضي الله عنه – قال: “حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله”، وقال عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه -: “ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”.
وفقه الواقع لا يكتسبه الفقيه إلا إذا خالط الناس وعرف عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم الاجتماعية ومواطن الضعف والقوة فيهم، فيتوسع أفقه، وتتفتح مداركه، وبناء عليه سيركز على ما ينفع الناس، ويضع الأشياء في مواضعها، ويشرع في تطبيق فقه الموازنات، وترتيب الأولويات، فيوازن بين المناهج والأساليب والوسائل الدعوية، ويقدم الأصلح للأمة، والأهم على المهم، بحسب حال مجتمعه وبيئته. فيتحول الفقيه إلى طبيب للأمة، يضع الدواء على موضع الداء، دون أن يزيد الجرعة أو يقللها فيلحق ضررا بالمريض.
3- والدعوة تعلم الفقيه الصبر والقدرة على التحمل، لا سيما عند التعرض إيذاء العوام والجهلة والمبتدعة، فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -“المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم”.
وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال “الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة”.
فكلما بذل الفقيه من نفسه وجهده وماله في سبيل الدعوة إلى الله تعاظم شأن الدين في نفسه، واسترخص الدنيا ومتاعها، وأصبح قادرا على نصرة الدين كما يحب الله ويرضى.
4 الدعوة تعلم الفقيه الداعية الورع والتقوى وتجنب الشبهات والالتزام بما يفتي به ويقوله، لأن القدوة الحسنة أسلوبه في تبليغ رسالته وإصلاح أمته، فهو معروض على الناس، وأعينهم تراقب أقواله وأفعاله، ومدى تناسب سلوكه مع فتاويه، فإن خالف عمله قوله، سقطت دعوته وضاعت هيبته. ولا ينبغي له أن يترفع عن مساءلة الناس له حول سلوكه، كأن يقال له لم فعلت؟ ولم تركت؟ ولم لم تأت إلى صلاة العشاء بالأمس؟، وليس له أن يقول هذا بيني وبين الله، لأن هذا الأمر دين، والفقيه الداعية إمام متبوع، يقتدي الناس به، وتبقى نيته بينه وبين الله، فعليه أن يدع كثيرا مما لابأس به خشية مما فيه بأس، ويتقي مواضع المظنة حتى لا يقتفى أثره.
رأى عمر – رضي الله عنه – على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا، وهو محرم، فقال ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة؟ فقال يا أمير المؤمنين إنما هو مدر، فقال إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس، ولو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب، لقال إن طلحة كان يلبس الثياب المصبوغة في الإحرام.
ويقول الإمام النووي- رحمه الله -: اعلم أنه يستحب للعالم والمعلم والقاضي والمفتي والشيخ المربي وغيرهم ممن يقتدى به ويؤخذ عنه أن يجتنب الأفعال والأقوال والتصرفات التي ظاهرها خلاف الصواب، وإن كان محقا فيها، لأنه إذا فعل ذلك ترتب عليه مفاسد من جملتها توهم كثير ممن يعلم ذلك منه أن هذا جائز على ظاهره بكل حال، وأن يبقى ذلك شرعا وأمرا معمولا به أبدا، ومنها وقوع الناس فيه بالتنقص، واعتقادهم نقصه، وإطلاق ألسنتهم بذلك، ومنها أن الناس يسيئون الظن به فينفرون عنه، وينفرون غيرهم عن أخذ العلم عنه، وتسقط روايته وشهادته، ويبطل العمل بفتواه، ويذهب ركون النفوس إلى ما يقوله من العلوم، وهذه مفاسد ظاهرة، فينبغي له اجتناب أفرادها، فكيف بمجموعها؟ فإن احتاج إلى شيء من ذلك وكان محقا في نفس الأمر لم يظهره، فإن أظهره أو ظهر أو رأى المصلحة في إظهاره ليعلم جوازه وحكم الشرع فيه، فينبغي أن يقول هذا الذي فعلته ليس بحرام، أو إنما فعلته لتعلموا أنه ليس بحرام، إذا كان على هذا الوجه الذي فعلته، وهو كذا وكذا ودليله كذا وكذا. روينا في صحيحي البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ قال رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -قام على المنبر، فكبر على الأرض، ثم عاد إلى المنبر حتى فرغ من صلاته، ثم أقبل على الناس، فقال “أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي”.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة كحديث “إنها صفية”، وفي البخاري أن عليا – رضي الله عنه – شرب قائما، وقال رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -فعل كما رأيتموني فعلت. انتهى كلام النووي.
والمدعوون ربما لفتوا نظره إلى مالم يلتفت له في ا إخلاص واليقين والتوكل والرجاء والخشية والمحبة، بل ربما رأى فيمن دونه من العوام إيمانا وتقوى لا يجده في نفسه، فيمحص نفسه ويحاسبها، ويمتحن إيمانه وإخلاصه.
5- التواضع وخفض الجناح للمسلمين، صفات يكتسبها الداعية بمجالسة الفقراء والمساكين ودعوتهم، فإن العلم وغزارته في الفقيه ربما ولد لديه شعورا بالغرور والتعالي، وكل ذلك يزول إذا قام بواجبه الحقيقي من تبليغ الرسالة، وأداء زكاة علمه تجاه الناس على الوجه الذي يرضي الله، فيبارك الله له في علمه، ويصبح علمه حجة له لا عليه.
6 يصبح الفقيه ـ بممارسة العمل الدعوي ـ أقدر على مواجهة الناس والخطابة والموعظة وتبليغ الرسالة والتأثير في الأمة، فكم من عالم لا يقدر على مواجهة الناس ومخاطبة العوام واعتلاء المنابر، لذلك كان النبي- صلى الله عليه وسلم -يدرب أصحابه على الخطابة أمامه، ليطمئن على قدرتهم على تبليغ الرسالة، مع علمهم وفقههم.
7 كما أن العمل الدعوي يزود الفقيه بسرعة البديهة واستحضار النصوص والأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة والفقهاء، وتصنيفها في بديهته حسب الموضوعات، لاسيما في قضايا الساعة، التي يتكرر عرضها عليه والسؤال عنها، فيكون جاهزا لعرضها على المدعوين حسب ما تقتضيه الحاجة، وبالأسلوب الذي يناسب الموقف، بحيث يكون قادرا على الإقناع والتأثير، كما يكون لديه علم ببدع عصره، فيتجهز للرد عليها والتصدي لها ولمبتدعيها وإزالتها من مجتمعه أولا بأول، قبل أن تتفشى وتتحول إلى داء عضال.
8 وآثار مباشرة الدعوة على الفقيه أكثر من أن تحصر، نذكر منها الثقة في الله والتوكل عليه واللجوء إليه عند شدائد ومحنة الدعوة، مع تعلم الثبات على الحق مهما كان الكرب عظيما والخطب جسيما، وكظم الغيظ حكمة لتحقيق مصالح الدعوة، والتصبر على إيذاء المدعوين، وطلبهم له وقت شغله، وانصرافهم عنه وقت دعوته لهم، واضطراره لتحديثهم ودعوتهم عند كسله، والاعتبار بهداية أقوام وكفر آخرين، مع تلقيهما دعوة واحدة ورسالة واحدة وعلى منهج واحد، والشعور بعظيم منة الله عليه بالهداية والعلم والفقه، لا سيما عند رؤية جهل من دونه مع رغبتهم في العلم الذي من الله به عليه، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء، كما تعلم الدعوة الافتقار إلى الله وانتظار فرجه ورجائه والرضا بقضائه، والغيرة على الإسلام وأهله وإيثارهم والشفقة عليهم ورحمتهم، والتفكر والتبصر بعظيم فضل الله وكرمه وإحسانه وجليل قدرته، كما تؤتي الدعوة الفقيه قوة وشجاعة وعزة ومهابة ووقارا وكرامة، من نوع لا ينال إلا بالدعوة إلى الله.
ولا يكفي أن يكون الفقيه مخبرا عن أحكام الشرع، سواء طبقت الأمة ذلك أولم تطبق، بل لابد أن يكون حريصا على أهل الإسلام، ومتابعا لمدى التزامهم بشرع الله، وكل ذلك لا ينال إلا بالممارسة الدعوية.
فالدعوة إلى الله تزيد الداعية البصير بصرا، والحليم حلما، والفقيه فقها، وتشجع الجبان، وتسخي البخيل، وتلين القلب القاسي، وتقوي القلب الضعيف.
_____
- المصدر: كتاب العلاقة بين الفقه والدعوة للكاتب (بتصرف).
[ica_orginalurl]