إن الذي يتدبر القرآن الكريم يستشعر المساواة العامة في الإنسانية بين الذكور والإناث وأنه إذا أعطى الرجل حقاً أكثر فلقاء واجب أثقل، لا لتفضيل طائش.
د. محمد الغزالي
اتجهت دول أوروبا إلى وحدة شاملة لمت أطرافها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. وليس هذا موضع نظرنا هنا، وإنما ننظر في الروابط الفكرية والروحية التي تكمن وراء هذه الوحدة أو دفعت إليها..
وقد تحدث المتحدثون هناك عن تراث اليونان الفلسفي، وعن تراث الرومان الديني على أن التراثين هما المهاد الأول لأوروبا المعاصرة بعد ما عراهما من تغيير وتحوير في عصر الأحياء.
وليس هذا أيضاً موضع نظرنا هنا إننا ننظر هنا إلى جوانب من قضية المرأة لأن هذه الجوانب تتجاوز أصحابها إلى سائر العالم؛ فالحضارة الأوروبية هي التي تقود الدنيا كلها الآن..
إن فلاسفة اليونان ما أنصفوا المرأة ولا أعزوا جانبها ولا أعلوا مكانتها بل إن تاريخ أولئك الفلاسفة ملطخ بالإسفاف وليس يعنيهم في انطلاق الشهوات أن تنحرف أو تستقيم.!.
و تاريخ الرومان ليس أشرف من تاريخ اليونان، ونزوات القياصرة لا تعرف حدوداً، وامتلاء القصور بالنساء أمر مألوف، سواء كنّ إماء أو حرائر..
وقد استشرت في عالمنا المعاصر عادات جديدة أباحت العلاقات بلا قيود، ولا شك أن كل مسلم يخاف على دينه وعلى أمته من هذه العادات التي نسيت الله والوحي وأرخت العنان للغرائز الحيوانية تعربد دون وعي.
المساواة العامة في الإنسانية
والإسلام الذي نقدمه علاجاً شريفاً لهذه الفوضى العامة الطامة لا يؤخذ من أفواه المجانين الذين ينادون بحبس المرأة فلا تخرج من البيت أبداً إلا لزوجها أو قبرها كما يقولون، إننا نأخذه من تعاليم الإسلام الواضحة في الكتاب والسنة…
ومصيبة ديننا في أناس يحرفون الكلم عن مواضعه، ويطيرون بحديث موضوع أو معلول ليلغوا به الآيات البينات، والسنن الثابتات.
إن الذي يتدبر القرآن الكريم يستشعر المساواة العامة في الإنسانية بين الذكور والإناث وأنه إذا أعطى الرجل حقاً أكثر فلقاء واجب أثقل، لا لتفضيل طائش.
وقوامة الرجل في البيت لا تعني ضياع المساواة الأصلية، كما أن طاعة الشعب للحكومة لا تعني الطغيان والإذلال فإن التنظيم الاجتماعي له مقتضياته الطبيعية، ولا مكان للشطط في تفسيره..
وهناك من يردد أقوالاً عن النساء لا تستحق إلا الازدراء! قال أحدهم: السفهاء هم الصبية والنساء قلت له: عمن رويت ذلك؟ عن عمدة القرية أم شيخ البدو. وزعم كذوب أن المرأة يساق فيها قوله تعالى : “كلُّ على مولاه اينما توجهت لا يأت بخير”! قلت: تلك صفة نفر من الناس رجال أو إناث محروم من المواهب عاجز عن العطاء..
ويخجلني أن هذا الوصف يكاد يطوي جماهير المسلمين في المشارق والمغارب بعد ما تخلّوا عن رسالتهم ونسوا كتابهم، وعاشوا عالة على الحضارات الغالبة..
المكذبون و الجاهلون.. هما الأخطر
إنني أحذر على الإسلام صنفين من الناس: المكذبون به، والجاهلون به..
المكذبون به من أعدائه والجاهلون به من أصدقائه.. وأكرر ماقلته من قبل: إنني أحارب الأدوية المغشوشة بالقوة نفسها التي أحارب بها الأمراض المنتشرة.
والثغرة التي ينفذ منها أعداء الإسلام إلى حضارتنا ونحن نقاوم الغزو الثقافي هي موقف بعض الشيوخ من قضايا المرأة فهم يقفون أحجاراً صلبة أمام كل الحقوق التي قررها لها الإسلام يريدون تعطيلها أو تشويهها.
ومع أن الدنيا تغيرت فالعلاقة بين الجنسين وحقوقهما العامة والخاصة لم تأخذ بعد طريقها الصحيح، وذلك لأن بعض الناس يأبى أن يستقيم على منهج القرآن الكريم!
يقول الله تعالى: ” والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله” هذه رابطة ولاية ووفاق بين الجنسين على مناصرة الحق ومخاصمة الباطل وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله، رابطة ولاية يتحول بها المجتمع كله إلى خلية ناشطة لها منهج وغاية..
فإذا نشأ عقد زواج بين مؤمن ومؤمنة فإن هذا المعنى يتأكد وتصبح العلاقة الجديدة إخاء عقيدة، وشراكة أعباء، وصحبة حياة، ووحدة هدف، وتجاوب ثقافة..
المجتمع الوضيع هو الذي يفهم الزواج على أنه عقد انتفاع بجسد! أو يُعرفه بأنه امتلاك بضع بثمن، أو يراه شركة بين رجل تحوَّل إلى ضابط برتبة مشير، لديه امرأة برتبة خفير! أين الودّ والتراحم والشرف والوفاء؟؟
عندما أقرأ أن فاطمة بنت محمد طحنت بالرحى حتى ورمت يدها أو حملت الماء في القربة حتى كلّ كتفها أشعر بأن السيدة الفضلى لم تكن أنثى تخدم ذكراً، بل كانت أماً مؤمنة تقيم بيتاً يربو فيه اليقين والحب، فهي تقدم لرجلها وولدها نفسها وما تملك.
لم يكن هناك ربّ بيت يصدر أوامر وامرأة ذليلة تنفذ! بل كان هناك شريكان يتقاسمان السراء والضراء! نجاحاً لأمرين متساويين: حياة الدين الذي آمنا به، وحياتهما الخاصة..
وعلى ضوء هذا المعنى أفهم كلام أسماء بنت أبي بكر زوجة الزبير بن العوام: “كنت أخدم الزبير خدمة البيت كله، وكنت أسوس فرسه، وأعلفه، وأحْتشّ له، وأخرز الدلو، واسقي الماء، وأنقل النوى على رأسي من أرض له على ثلثي فرسخ”.
إن جمهور الفقهاء يرى أن المرأة لا تُكلَّف بخدمة الرجل! ولكن الأمر ليس ما يقضي به القانون، الأمر هنا ما تقضي به مصلحة الشركة القائمة بين مؤمن ومؤمنة، الأمر هنا محكوم بعاطفة الإيثار لا بشعور الأثرة..
و الرجل قيم على بيته يقيناً، وهذه القوامة تكليف قبل أن تكون تشريفاً وتضحية قبل أن تكون وجاهة.. المشكلة في الأمة الإسلامية أن الجهل عمّ الزوجين الذكر والأنثى، وأن العلاقة بين الجنسين تم النظر إليها من ناحية الشهوة وحدها، واعتبار الزواج عقد نكاح وحسب! يحكمه منطق البدن الأقوى…
اقرأ أيضا:
إهدار حقوق الإنسان.. هل الشريعة الإسلامية نموذجا؟! “دراسة”
_____________________________
المصدر: بتصرف يسير عن كتاب/ قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة، د. محمد الغزالي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة التاسعة.
[ica_orginalurl]