من العلماء من استدل بدقة صنع هذا الكون وجريانه وفق قوانين ثابتة لا يمكن تصور تناسق كوني بدونها على وجود صانع عالم، وضعه على هذه الصورة المتقنة…
د. محمد العوضي
تعددت الأدلة التي يؤكد عليها الذين يعتقدون بوجود خالق لهذا العالم، ومن ذلك، حدوث هذا الكون وظهوره بعد العدم للاستدلال على وجود مُخرج لهذا الكون، وهو ما فصّله الفلاسفة السابقون وأيدته نتائج الرصد الخاضع للحواس والعلوم التجريبية المعاصرة.
ومنهم من استدل بإمكان هذا العالم وعدم استحالة فرضه بصورة أخرى على احتياجه لمرجح، يرجح وجوده بصورته الحالية على غيرها من الصور، وقطعا لن يكون هذا المرجح جزءًا من المادة ولا حالا فيها.
ومنهم –وهو ما يهمنا الكلام عنه هنا– من استدل بدقة صنع هذا الكون وجريانه وفق قوانين ثابتة لا يمكن تصور تناسق كوني بدونها على وجود صانع عالم، وضعه على هذه الصورة المتقنة.
ومما يستدل به على هذا الاتساق مجموعة القواعد والقوانين الكونية التي تشكل بمجموعها صورة الكون الذي يسحر المتأمل فيه بموضوعية، والتي لو تغير واحد منها بنسبة بسيطة جدا لاختل نظام الكون وزالت عنه احتمالية وجود حياة فيه، فلا يتصور وجود نظام حيوي دون وجود نظام فيزيائي متسق في نفسه، وملائم لمطالب هذا النظام الحيوي.
عوالم متعددة في الكون الواحد!
ومن المهم لفت الأنظار إلى أن العلماء المستدلين بهذا الدليل ليسوا غافلين عن الاعتراض الذي يوجهه الملاحدة بفرض عوالم متعددة، يكون عالمنا هو الوحيد المتقن فيها، فإن معتنق هذا الرأي وإن شكك في يقينية هذا الدليل إلا أنه لا يمكنه أن يلغي الظن القوي جدا الحاصل به، إذ أن احتمال مصادفة هذه الصفات في هذا الكون، أو احتمال وجود عدد كبير جدا من الأكوان يكون ضئيلًا جدا وبصورة لا تذكر، وعلى هذا فلا يجوز ترك العمل بالظن القوي الأقرب إلى القطعية بسبب احتمال ضعيف واهن. ولو أن أحد المعارضين الموضوعيين واجهها في حياته لبلورة آرائه، فإنه لن يلتفت لهذه النسبة الضئيلة انقيادا لمنطق العقل في تغليب الظن الأقرب للصواب.
لكن السؤال الذي ينبغي ألا يغيب عن الأذهان هو: لماذا يُضحي الملاحدة بالدليل القوي الراجح المتسق مع التفكير المنطقي، ويختارون بديلا احتماليا هزيلا يعضون عليه بالنواجذ؟!
هل نحن أمام من يناقشنا بحجج عقلية برهانية؟ أم أننا نواجه قوما مسكونين بالدوافع النفسية المسبقة التي سرعان ما تنكشف تحيزاتها عند إلزامها بالاحتكام إلى البراهين ومنطق العقل المبين؟
ولأجل تغليب الحق والانتصار له ينبغي أن ينتبه الفريقان إلى أن الخلاف في قوة دليل النظام خلاف على هذه الصورة المخصوصة، أما لو أضيف إلى الدليل أن هذا النظام وهذا العالم حادثان، فإن بديهة العقل تحكم باحتياجه إلى خالق منظم، إذ لابد لكل حادث من مُحدث قادر على إحداثه.
لكننا نعلم وننوه بأن مؤلف كتاب” فقط ستة أرقام.. القوى العظمى التي تُشكِل الكون” ليس منحازا لجانب الإيمان، لكنه من ناحية أخرى يطرح تساؤلات وجيهة ومهمة أمام الإلحاد. هذه التساؤلات التي تخص قيام بنية الكون على جملة حسابية دقيقة، اختار لها الأرقام الستة، فوجدنا فيه ترجيحا لمنطق العقل المعزز للإيمان بالخالق الحكيم، خلافا للامنطقية الذين يهرعون لاختيار أي قرينة هامشية مهما كانت ملتحفة بالهشاشة والضعف، لا لشيء سوى العناد المؤدلج المضاد للتنوير، ومن ثم الركون إلى الإلحاد البارد.
__________________________________
المصدر: مقدمة كتاب ” فقط ستة أرقام: القوى العظمى التي تُشكِل الكون” تأليف: د. مارتن ريس، ترجمة: جنات جمال – مهند التومي وآخرون، الصادر عن مركز براهين بالتعاون مع مركز رواسخ، ط1،2016
[ica_orginalurl]