علي الغامدي
كنت أتأمَّل أحاديث الحبيب صلى الله عليه وسلم من الزاوية التربوية، فوجدت أن هناك كنزًا عظيمًا لم يتم اكتشافه بعد بالرغم من وجود الكثير والكثير من الكتب التي تعرَّضت لهذا الموضوع، سواء من كتب السلف الصالح، أو كتب المتقدمين، ولكنها فوائد مبثوثة بين الأسطر والكلمات تحتاج إلى مَن يَستخرجها من أمهات الكتب؛ كفتح الباري وغيره من كتب التراث الإسلامي، لذلك رأيت أن أبدأ بسلسلة منتقاة من أحاديث الحبيب عليه السلام، ونركز فيها على هذا الجانب الذي نحن في أمسِّ الحاجة إليه في هذا العصر، بعد أن انتشرت الماديات واضْمَحَلَّت المبادئ والقيم والأخلاق التي أتى الإسلام لتعزيزها لبناء مجتمع مثالي ينعم بالحب والمودة والتعاون.
الوقفة الأولى ستكون مع حديث الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي يرويه ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النبِي صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلمَ، قَالَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي» (رواه الترمذي).
الأسئلة التي نطرحها قبل أن نغوص في العمق التربوي لهذا الحديث: لماذا اختار عليه السلام الأهل دون غيرهم؟ لماذا لم يَختر الأصحاب وعامة الناس؟ لماذا لم تكن الخيرية في المكثرين من الصلاة؟ لماذا لم تكن الخيرية في المكثرين من الصدقة؟ لماذا لم تكن الخيرية في قوَّام الليل وصائمي النهار؟ أسئلة تحتاج إلى تفكُّر وغوص في الهدف الأسمى والأكبر من رسالة الحبيب عليه السلام.
لتوضيح هذا الاختيار المقصود بذاته، يتضح لنا أن الغالب في معاشرة الناس المجاملة وتغطية العيوب، وإظهار أجمل ما في النفس من محاسن ومكارم الأخلاق؛ لأن اللقاء يكون في الغالب بهم وقتيًّا ومحدودًا بزمن معين.
أما معاشرة الرجل لزوجته الدائمة، فقد تكون فيها نوعٌ من المجاملة وتغطية العيوب في بداية الحياة الزوجية، أما بعد ذلك فيظهر الإنسان على حقيقته؛ حيث يتعذَّر تغطية العيوب.
فمن كان كريم النفس سهل المراس، دمث الخلق دائم الابتسامة، يتخذ الأعذار لمن أخطأ في حقه، ويتجاوز عن المسيء، ويغض الطرف، فلا شك أن هذه الأخلاق وغيرها من الأخلاق الراقية ستنعكس إيجابًا على زوجه وأهل بيته، وستكون حياتهم نعيمًا وبِشرًا دائمًا، وخيرُ مثال على ذلك حياة الحبيب عليه السلام مع أهله.
فقط انظُر إلى وفائه إلى صُويحبات أُمِّنا خديجة رضي الله عنها، وأرضاها بعد مماتها، فكيف هي أخلاقه عليه السلام معها إبان حياتها؟!
لا شك أن زوجات الحبيب عليه السلام قد حظينا بالقِدْح المُعَلَّى والجائزة الكبرى، وعلى النقيض من ذلك من كانت أخلاقه سيئة وسلوكه مُعوجًّا، وطمعه بائنًا، وسريرته مريضة، وأنانيته مسيطرة عليه، وبُخله ظاهرًا ودِينه رقيقًا، سينكشف كل ذلك، وسينعكس على أهل بيته أولًا، وسيكونون أول المتضررين، ومَن يعانون الأمرَّين وبشكل مستمر، حتى تصبح حياتهم نَصَبًا وتعبًا وضَنْكًا، وقطعةً من عذاب.
لعل هذا هو السر الذي جعل الحبيب صلى الله عليه وسلم يختار هذا المقياس في الخيرية الذي من خلاله نستطيع أن نقيس أنفسنا وذواتنا، إنه مقياس واضح وبسيط، ولا نحتاج إلى عناء لاكتشافه، إنها الأخلاق: “إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق”، إنه الهدف الأسمى من رسالة الحبيب عليه السلام.
أما الجانب المضيء الآخر والعميق في هذا الحديث المبارك، فهو حث الحبيب عليه السلام على مكارم ومحاسن الأخلاق في التعامل مع الزوجة والأولاد والأهل، والذي ستنعكس نتيجته في تكوين الأسرة الآمنة المطمئنة التي هي النواة الصُّلبة لمجتمع آمن تسوده المحبة والوئام والسلام. ينشأ فيها جيلٌ قد تربَّى على مكارم الأخلاق وجميلها، ينشرون الحب والسلام على مجتمعهم وأُمتهم.
* المصدر: موقع “الألوكة”.
[opic_orginalurl]